أطلقت السعودية جولة جديدة من الحرب النفطية التي تخوضها منذ العقد الماضي. هي حرب وجودية للمملكة بنسختها الحالية التي تعتمد على ثروتها الطبيعية للصمود والاستمرار. في فيينا، حيث مقرّ أوبك ومركز اجتماعاتها، تقرّر فكّ الارتباط بروسيا والانتهاء من اتّفاق إدارة العرض المستمرّ منذ أربع سنوات. قرار كانت له ارتدادات دراماتيكية على الأسواق، فسجّل سعر البرميل أكبر تراجع أسبوعي منذ عام 2008، وأكبر انخفاض يومي منذ عام 1991، وهوى إلى نصف المستوى المسجل في العام الماضي. تطوّرات تطرح مجموعة تساؤلات، أهمها ماذا يحصل فعلياً في سوق النفط بين اللاعبين الأساسيين؟ وكيف ينعكس ذلك على البلدان المنتجة والمستهلكة؟ وما هو الأفق خلال المدى المتوسط؟
بين مصر والنمسا، التحول الكبير
75 عاماً مرّت على اللقاء التاريخي الذي جمع الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت بالملك السعودي عبد العزيز آل سعود على متن حاملة الطائرات «يو أس أس كوينسي». كانت لحظة تاريخية لتكريس تحالف اقتصادي سياسي بين عالمين جديدين كلياً؛ الأوّل يتمتع بفائض القوّة ليقود الغرب والحلفاء في الشرق بعد الحرب العالمية الثانية. والثاني بالكاد مضى على تكوينه عقد من الزمن، يتلمّس خطى قبلية غير واثقة سوى بإرشاد واشنطن لمسح ما تكتنزه رمول شرق المملكة من ثروات نفطية.
اللقاء كرّس الشراكة التاريخية بين البلدين لتحقيق هدفين أساسيين: الأوّل التعاون لمواجهة المعسكر الشرقي ومصالح الاتحاد السوفياتي، والثاني لضمان تدفق الثروة النفطية من الشرق إلى الغرب لتلبية الطلب المتزايد على الوقود الأحفوري.
وخلال القرن العشرين حقّق التوافق الأميركي - السعودي أهدافه وصمد رغم الحروب العربية -الإسرائيلية وصدمة العرض النفطي في السبعينيات وحروب الخليج وهجمات 11 أيلول 2001، وحتى الأزمة المالية عام 2008.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره


أنقر على الرسم البياني لتكبيره

اليوم أضحى العالم في مكان مختلف كلياً عما تأسس عليه الاتّفاق التي شهدت عليه مياه مصر الإقليمية عام 1945، وقد بدأ هذا التحوّل منذ وقوع الشرخ بين واشنطن والرياض في عهد الرئيس باراك أوباما، الذي اعتمد سياسة دعم الإنتاج النفطي الأميركي من خلال الاستثمار في التكنولوجيا الحديثة وإعانة منتجي النفط الصخري، متجاهلاً الشراكة التاريخية ودور السعودية الحاسم في السوق، من خلال صادراتها الهائلة، ولكنها في الوقت نفسه دفعت السعودية إلى إعلان الحرب النفطية على الحليف التقليدي عبر إغراق السوق بالنفط السعودي الرخيص لطرد اللاعبين الأميركيين الجدد؛ وقد نجحت بذلك بهامش كبير، وخصوصاً مع تعزيز شراكتها بروسيا عام 2016، في إطار مجموعة أوبك+، لإدارة العرض.
اليوم يشهد العالم جولة جديدة من تلك الحرب: اللاعبون هم أنفسهم إنما بتشكيلات مختلفة ومحيرة. يُمكن القول إن السعودية تخوض المعركة الوجودية نفسها، إنما هذه المرة مع روسيا على خلفية الاختلاف على كيفية إدارة العرض في السوق، ففي ظلّ سعي موسكو إلى إلحاق الأذى بقطاع النفط الأميركي وللردّ على العقوبات الأميركية الأخيرة على مشاريعها الطاقوية في أوروبا، وتحديداً مشروع نوردسترين-2، وعلى شركتها «روسنفت» لتعاملاتها مع فنزويلا، امتنعت عن دعم السعودية في ما يُعرف بتوافق فيينا ما ولّد تدهوراً دراماتيكياً على المستوى الجيوسياسي.
فقد دفع هذا الموقف الروسي الذي يُترجم، فعلياً، تخلّياً عن الاتفاق مع السعودية المستمر منذ عام 2016، الرياض إلى اتخاذ إجراءات جذرية تقضي بزيادة إمداداتها للأسواق العالمية في نيسان بنحو 2.6 مليون برميل يومياً إلى 12.3 مليون برميل وبالإعلان أنها ستعمد إلى التسعير التفضلي بهدف كسب زبائن جدد في منافسة شرسة مع روسيا والولايات المتحدة.
هذه التطورات ولّدت حركة بيع سريعة ومكثفة لعقود النفط في السوق ما أدى إلى تراجع السعر إلى نصف ما كان عليه العام الماضي. واليوم يُجمع المحللون على أن سعر البرميل سيبقى بحدود 30 دولاراً حتى نهاية النصف الأول من هذا العام، ودون 40 دولاراً خلال النصف الثاني؛ وتذهب أكثر التوقعات سلبية للسعر إلى حدّ أنه قد يهبط إلى 20 دولاراً، وفقاً لمصرف غولدمان ساكس.
ما يحصل حالياً هو المرحلة الثانية من التحول الكبير - أو الانتقال التاريخي - من العالم الجديد الذي مضى عليه وقت طويل وفقاً لتفاهم روزفلت-عبد العزيز، إلى عالم النفط الرخيص. وتبدو المملكة في وضعية لا بأس بها للحفاظ على النفس الطويل في هذه المعركة. فمن جهة تتمتع شركتها الوطنية، أرامكو، بمخزونات كافية لنصف قرن تقريباً، ومن جهة أخرى فإنّ معدّل كلفة إنتاج النفط هو دون 10 دولارات للبرميل أي خِمس المعدل العام في الولايات المتّحدة.
ولكن في المقابل، الطلب على النفط إلى تراجع، وقد سطرت كبرى المنظمات العالمية المعنية توقعاتها قبل دراما فيينا، تحديداً بسبب تأثير فيروس كورونا الجديد على الطلب العالمي والنشاط الاقتصادي، وتُجمع على أن نموّ الطلب سيكون الأضعف منذ الأزمة المالية الاقتصادية قبل أكثر من 10 سنوات. وأبرز التوقعات كانت من منظمة الطاقة العالمية التي ترى حالياً أن الطلب على النفط سيتراجع بنحو 2.17 مليون برميل يومياً هذا العام. ولذا فإن المعطيات الملائمة التي تتمتع بها السعودية في السوق حالياً قد لا تكون بالمردود نفسه الذي تتوقعه.
ومن جهة أخرى، تحتاج السعودية إلى سعر لبرميل النفط يفوق 80 دولاراً للبرميل لكي تتجنّب العجز في موازنتها العامة، ولذا فإن التحليل المنطقي حالياً هو أنه إذا عادت الأسعار إلى الارتفاع نسبياً فإنه بإمكان السعودية الحفاظ على توازنها خلال المدى المتوسط، أما إذا استمرّت الأسعار عند مستوى منخفض - وهي في ظلّ التوقعات الحالية أقلّ من 50% مما تحتاج له المملكة للبقاء طافية فوق العجز - فإنّ وضعيتها ستكون حساسة على المستويين المالية والاجتماعي نظراً إلى الدور الأساسي الذي يلعبه النفط في تمويل الإنفاق السياسي.

انتكاسة في أميركا، وانفراج وهمي في لبنان
تهدف السعودية واللاعبون الآخرون في هذه الحرب النفطية إلى السيطرة على حصص سوقية أكبر وكسر المنافسة، غير أن لهذه الحرب انعكاسات في شتى الاتجاهات وعلى جميع البلدان.
فعلياً، يُشكّل تراجع سعر النفط بنسبة 50% عما كان عليه العام الماضي، وإمكانية بقائه عند مستويات متدنية خلال المرحلة المقبلة فرصاً وتحديات للبلدان المستهلكة والمنتجة للنفط على التوالي. في حالة لبنان مثلاً، لطالما شكّلت المنتجات النفطية عبئاً ثقيلاً على فاتورة الاستيراد الكلية، كون البلاد مستوردة صافية لهذه المنتجات. وفي عام 2019، بلغت قيمة تلك الفاتورة 6.5 مليارات دولار، أي ما يُمثّل ثلث واردات لبنان الإجمالية.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

في المبدأ، من شأن انخفاض الأسعار أن يُشكّل هامشاً للراحة المالية في ميزانية مؤسسة كهرباء لبنان والمالية العامة عموماً. فالتحويلات التي تتمّ إلى تلك المؤسسة في ظلّ بنية الإدارة السياسية الحالية، تنخفض بانخفاض أسعار النفط العالمية ومعها تتراجع احتياجات لبنان التمويلية من الخارج؛ وهو وضع مطلوب مع اقتراب الدين الحكومي من 100 مليار دولار ولجوء الحكومة إلى إعادة هيكلته.
ويشار إلى أن المالية العامة سجّلت عجزاً بنسبة 50% تقريباً في العام الماضي أي ما يعادل 10% من الناتج المحلي الإجمالي ومن المتوقّع أن ترتفع هذه النسبة إلى 11.5% هذا العام وصولاً إلى أكثر من 15.3% في عام 2024. أيضاً، من المفترض أن ينعكس انخفاض أسعار النفط تراجعاً في الضغوط التضخّمية على المستهلكين وذوي الدخل المحدود. غير أن كل ذلك مرهون بالسياسة التي تعتمدها الحكومة، والتي يبدو أنها تنوي الحفاظ على ثبات أسعار المشتقات النفطية في السوق المحلية.
وأبعد من الانعكاسات المباشرة لتطورات سوق النفط على المالية العامة والإنفاق الاستهلاكي في لبنان، هناك الانعكاسات على الاستثمارات في القطاع النفطي اللبناني؛ بيد أن التحليل هنا يُصبح أكثر تعقيداً كونه يشمل الغاز الطبيعي والحسابات في المدى البعيد في ظلّ وضع سياسي واقتصادي غير محسوم.
زادت السعودية إمدادتها للأسواق العالمية إلى 12.3 مليون برميل وأعلنت التسعير التفضيلي بهدف كسب زبائن جدد في منافسة شرسة مع روسيا والولايات المتحدة


غير أن التحليل على هذا المستوى أسهل بكثير في حالة الولايات المتّحدة. يتحضّر هذا البلد لصدمة نفطية جديدة. فخلال مرحلة انهيار الأسعار بين عامي 2014 و2016 غداة قيام السعودية بزيادة المعروض على نحو كبير لمواجهة سياسة إدارة الرئيس باراك أوباما، تراجع عدد المنصّات النفطية العاملة من 1500 منصة إلى 300 منصة فقط، نظراً إلى ارتفاع أكلاف التشغيل والإنتاج؛ وحتى مع التعافي النسبي لم يتخطَّ عددها 900 منصة، وعشية التراجع الأخير في الأسعار كان ذلك العدد ينخفض كثيراً ومن المتوقع أن يستمر إلى تراجع في حال بقيت الأسعار منخفضة. والسبب هو أنه برغم التحسّن الهائل في معدلات الإنتاجية في قطاع النفط في الولايات المتحدة وانخفاض سعر كلفة البرميل إلى حدود 25 دولاراً في بعض الأحيان، إلّا أن هذه الكلفة تبقى في مناطق معيّنة مرتفعة كثيراً وتعادل ثلاثة أضعاف هذا الرقم في بعض الأحيان.
يؤدّي ها الوضع إلى تدخّل الحكومة الأميركية المباشر في السوق لدعم منتجي النفط الصخري، فبعدما كان باراك أوباما قد دعمهم في مرحلة النهوض والتطوير التكنولوجي لمواجهة السعودية ودورها الحاسم في السوق، قرّر خلفه دونالد ترامب إنقاذهم في مرحلة السقوط، إذ بدأت إدارته شراء عشرات ملايين براميل النفط من المنتجين المحليين وتغذية المخزون الاستراتيجي بحجّة التحضير لأوضاع استثنائية بعد إعلان حالة الطوارئ الوطنية في مواجهة الانعكاسات الاقتصادية لفيروس كورونا الجديد. وقد أسّست الولايات المتّحدة هذا المخزون في بداية السبعينيات بعد الصدمة النفطية التي قادتها السعودية، ويبدو أنه يفيدها في خضم هذه الصدمة النفطية أيضاً.

من يتحمّل كلفة النفط الرخيص؟
تعيش الولايات المتّحدة الصدمة النفطية وقد أضحت المنتج الأول للنفط في العالم. فالسياسة المنتهجة منذ العقد الماضي أدّت إلى نموّ الإنتاج النفطي الأميركي من مستوى دون 6 ملايين برميل يومياً عام 2010 إلى أكثر من 13 مليون برميل يومياً حالياً. ومع حلول نيسان ستقترب منها السعودية أكثر إذ تطيح روسيا من المرتبة الثانية، فإلى أي مدى مستعدة المملكة المضي قدماً؟
الجواب يتعلّق بقدرة الرياض على تحمّل كلفة النفط الرخيص اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، وأيضاً بالمعطيات في الجانب الآخر من المعادلة. فالتكنولوجيا التي لعبت تاريخياً دوراً مهماً لصالح النفط السعودي نظراً لسهولة استخراجه وبالتالي كلفته المتدنية، أضحت على مستوى أرفع والتطور هنا لا يشمل فقط أساليب التنقيب والمسح والتحولات السياسية في الشرق الأوسط، بل أيضاً الطاقة البديلة والطلب الإجمالي على الوقود الأحفوري.

ما يحصل حالياً هو المرحلة الثانية من التحوّل الكبير نحو عالم النفط الرخيص


اعتادت السعودية الدورات الاقتصادية التي أثرت دارماتيكياً بأسعار النفط الخام، ففي عام 1998 هوى النفط إلى 10.8 دولارات فقط للبرميل، وبعدها بعشر سنوات فقط صعد إلى أكثر من 150 دولاراً. نتجت تلك الدورات من معطيات عديدة وأدت إلى مستوى سعرية مختلفة في السوق من دون أن تكون هيكلية السوق بحد ذاتها متأثرة. أما اليوم يبدو صراع عمالقة النفط أشدّ وأعمق وستكون نتائجه أكثر تأثيراً، مع أو من دون فيروس كورونا الجديد.