جملتان فقط لا غير اكتفى بهما البيان الوزاري لحكومة حسان دياب للإشارة إلى ما هو ضروري القيام به بصدد سياسة البترول والغاز في إطار ما سمّاه «خطّة إنقاذ شاملة ومتكاملة» لمواجهة شتّى الأزمات المالية والاقتصادية والمعيشية الخانقة التي يتخبّط فيها اللبنانيون، ولدرء خطر الإفلاس الذي يهدّد الاقتصاد الوطني. الأولى تشير إلى عزم الحكومة الجديدة «تجديد ولاية هيئة إدارة قطاع البترول أو تعيين مجلس إدارة جديد لها»، فيما الثانية تؤكد ضرورة «الإسراع في إجراء دورة التراخيص الثانية للتنقيب عن البترول والغاز ومتابعة إقرار الصندوق السيادي». عبارات سريعة هي أقرب ما تكون إلى براءة ذمّة وشهادة حُسن سلوك للقائمين على هذا القطاع، ما يعني أن الحكومة تعتبر أن سياسة البترول والغاز تسير على أحسن ما يُرام، وأن كلّ ما هو مطلوب يقتصر على المحافظة على القائمين على هذا القطاع، مع ربما تغيير بعض الوجوه، إضافة إلى «الإسراع» في عقد اتّفاقيات استكشاف وإنتاج جديدة انطلاقاً من الانحرافات نفسها والشروط الكارثية التي اتّسمت بها دورة التراخيص الأولى. ولا يسعنا إلّا التساؤل عن نوايا الحكومة بشأن مكافحة الفساد بما فيها ما تفشّى حول استثمار ثروة البترول الموعودة.
هيئة ناظمة مستقلّة
تجربة السنوات الماضية تدلّ بوضوح إلى أنّ المطلوب والمهمّ ليس مجرّد تجديد ولاية أعضاء هيئة إدارة البترول الستة، أو استبدالهم بوجوه أخرى. المطلوب والمهمّ يمكن إيجازه في ثلاث نقاط: أولاً، الاستعاضة عن هيئة إدارة البترول الحالية بهيئة ناظمة مستقلّة كلياً عن وزير الطاقة، على أن تحدّد صلاحياتها في إطار استراتيجي لأفضل السبل والشروط الممكنة لاستثمار الثروة النفطية الموعودة. وثانياً، التأكد من تمتّع أعضائها بالمؤهّلات والخبرات اللازمة، بعيداً عن الطائفية والمحسوبية والمحاصصة. وثالثاً إخضاعهم للمساءلة والمحاسبة من قِبل السلطات الرقابية المختصة، وعلى رأسها المجلس النيابي.
هذه الشروط جرى تجاهلها سابقاً عند تشكيل الهيئة في تشرين الثاني 2012. ما حصل هو العكس تماماً. لم يتم حتى اليوم القيام بأيّ دراسة شاملة حول هذا الموضوع أو أيّ حوار وطني وشفاف بين الجهات الرسمية المعنية، فضلاً عن الجامعات ومراكز الأبحاث المختصّة ووسائل الإعلام، بغية تحديد الأهداف المتوخاة والوسائل الممكنة كي يكون استثمار هذه الثروة على مستوى آمال اللبنانيين، لا لعنة مدمّرة للاقتصاد الوطني كما حصل في العديد من البلدان الأخرى كفنزويلا ونيجيريا وأنغولا والغابون وغيرها.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

عوضاً عن ذلك، ومن دون القيام بالدراسات الأوّلية اللازمة، بادر المجلس النيابي إلى سنّ القانون البترولي المقتضب رقم 132/2010 الخاص باستثمار البترول والغاز في المناطق البحرية، فيما تولّى وزير الطاقة والمياه (الذي كان آنذاك ولا يزال يُشرف عن كثب على هذه الوزارة حتى بعد انتقاله إلى مناصب أخرى) اتّخاذ الخطوات الآيلة لعقد اتفاقيات استكشاف وإنتاج مع شركات أجنبية.
ومن الغريب أن هذا التعيين أعفى المرشّحين لعضوية الهيئة من الحدّ الأدنى من الشروط المطلوب توافرها فيهم لإدارة هذا القطاع، كما تشير المادة 10 من القانون البترولي التي تعفي صراحة أعضاء الهيئة المذكورة من أحكام المرسوم رقم 45017 الخاص بالمؤسّسات الحكومية، علاوة على إعفائهم من مراقبة وسائر صلاحيات مجلس الخدمة المدنية. وكانت النتيجة أن معظم أعضاء، الهيئة لا يتمتّعون بالخبرة اللازمة أو بأيّة تجربة تُذكر في مختلف مراحل هذه الصناعة. إلّا أنّ هذا لم يمنع تكليفهم في إدارة كلّ أوجه ومراحل السياسة المرسومة فنياً ومالياً واقتصادياً وضريبياً وبيئياً وسواها. ولا يقلّ غرابة عن ذلك أنه لم تكن هناك معايير واضحة في تحديد رواتب أعضاء إدارة الهيئة المذكورة البالغة 25400 دولار شهرياً، تضاف إليها تعويضات سفر بقيمة ألف دولار يومياً ومخصصات أخرى.

العودة إلى القانون ومشاركة الدولة
ليس المطلوب، كما ورد في البيان الوزاري، «الإسراع» في إتمام جولة التراخيص الثانية على أساس ما بدأت عليه، أي شروط المرسوم التطبيقي 43/2017 الذي زوّر القانون البترولي 132/3010 عبر المادة 5 التي قضت بطرد الدولة من الأنشطة البترولبة في دورة التراخيص الأولى، ما يعني تلقائياً العودة إلى نظام الامتيازات القديمة التي نبذتها كلّ الدول الأخرى العربية والأجنبية التي كانت تُطلق يد الشركات الأجنبية في كلّ مراحل الصناعة، تاركة للبلد المضيف دور المتفرّج والجابي للقليل من الضرائب. بل على العكس، المطلوب والملحّ، هو تصحيح التزوير الحاصل والعودة إلى تطبيق القانون البترولي، لا سيما أن المشرّع اللبناني لم يكن بحاجة لاختراع البارود عندما قرّر منذ عشر سنوات تجاهل نظام الامتيازات القديمة متبنّياً النظام المعروف بنظام عقود تقاسم الإنتاج، أي Production Sharing Agreements (PSA) الذي أصبح مطبّقاً في مئات الاتّفاقيات السارية المفعول في أكثر من 70 بلداً. ويعود سبب انتشار هذا النوع من العقود إلى أنها تؤمّن تكامل المصالح بين دول ليس لديها الرساميل والخبرات اللازمة لاستثمار ثروتها النفطية بنفسها، من جهة، وشركات أجنبية كبرى تملك الخبرات والرساميل اللازمة لذلك، من جهة ثانية.
ويقوم هذا النظام في خطوطه العريضة على منح متعهّد أجنبيّ رخصة استطلاع على نفقته لمدة لا تتجاوز عادة الثلاث سنوات، وينتهي التعاقد معه من دون دفع أي تعويض في حال عدم التوصل إلى اكتشاف تجاري. أما إذا حصل ذلك، فيمكن للدولة ممارسة حقّ الدخول كشريك، بنسبة لا تقلّ عادة عن 40% وتصل في بعض الحالات إلى 70% أو أكثر تكون قد حُدّدت سلفاً بين الطرفين. في هذه الحالة يسدّد البلد المضيف تدريجياً، للمتعهّد الأجنبي، وفق آلية «الحصة المحمولة» (Carried interest)، حصّته من النفقات الرأسمالية السابقة (Capex) ثم حصّته من نفقات التشغيل (Opex)، ويصبح شريكاً فعلياً في كلّ العمليات البترولية عبر شركة نفط وطنية. وهذا يتيح للبلد المضيف إمكانية تدريب الكوادر الوطنية ومراقبة عمليات وحسابات الشريك الأجنبي. وذلك حتى تصبح الشركة الوطنية قادرة على السيطرة على مختلف مراحل الصناعة والاستغناء عن مشاركة متعهّد أجنبي، كما حصل ذلك في معظم الدول المنتجة التي أمّمت الامتيازات القديمة في المنطقة العربية وإيران والمكسيك. من جهة أخرى يقوم المتعهّد الأجنبي، تزامناً مع تسلّم حصّته من الإنتاج، بدفع إتاوة وضريبة دخل وغير ذلك من رسوم مختلفةللبلد المضيف ما يرفع نصيب هذا الأخير إلى ما بين 65% و85% من الأرباح، مقابل نسبة لا تتجاوز في أحسن الحالات 47% من الأرباح وفق الشروط المالية التي قامت على أساسها أول اتفاقيتين للاستكشاف والإنتاج في الرقعتين رقم 4 و9 نتيجة لجولة التراخيص الأولى.
ميزة أخرى على جانب كبير من الأهمية لعقود تقاسم الإنتاج، هي أن كل ما يتم إنتاجه من البترول والغاز هو ملك للدولة، في حين أن المرسوم 43/2017 الذي قضى بالتنازل عن المشاركة يعني عملياً إسقاط حقوق ملكية الدولة على كامل الإنتاج، وذلك لمصلحة الشركات الأجنبية، تماماً كما كان الوضع في ظلّ الامتيازات القديمة، التي أمّم آخرها في مطلع السبعينيات. الواقع المؤلم هو أن لبنان هو اليوم البلد الوحيد في العالم الذي يتنازل طوعياً عن حقوق الملكية على جميع ما يتمّ إنتاجه من البترول والغاز، ويقبل بالعودة إلى شروط الامتيازات القديمة التي لم يعد يقبل بها أيّ بلد من بلدان العالم الأكثر جهلاً والأكثر فساداً.
هناك حاجة ملحّة لتعيين هيئة ناظمة مستقلّة لإدارة قطاع البترول تخضع للمساءلة والمحاسبة بدلاً من العودة إلى المحاصصة


لهذه الأسباب ليس طبيعياً أن يؤكّد البيان الوزاري ضرورة «الإسراع في إقرار الصندوق السيادي» متجاهلاً الضرورة الماسّة لإقرار مشروع القانون الخاص بإنشاء شركة نفط وطنية والذي ما زال يصطدم، منذ ثلاثة أعوام، بعقبات في طليعتها معارضة هيئة إدارة قطاع البترول. الغريب في الموضوع هو أن مبرّر وجود الصندوق السيادي لن يطرح عملياً قبل 7 أو 10 سنوات على الأقل، أي إلى حين التوصّل إلى اكتشافات تجارية كافية ومستويات إنتاج ودخل تؤمّن تلبية بعض الحاجات الملحّة وتسمح بإيداع الفائض في الصندوق السيادي. في حين أن إنشاء شركة نفط وطنية هو شرط لا بدّ منه لمشاركة الدولة في الأنشطة البترولية وزيادة الدخل اللازم لتغذية الصندوق السيادي. لذلك يمكن القول إن الحاجّة الملحّة في المرحلة الراهنة تتعلق بالإسراع في إنشاء شركة وطنية تكون طرفاً يمثّل الدولة في العقود المزمع إبرامها مع شركات أجنبية، وليس الإسراع في قيام صندوق سياديّ لا أحد يدري متى ومن أين ستأتي المليارات اللازمة لتغذيته.
أما القول، كما يردّد بعض المسؤولين، إن شركة النفط الوطنية يمكن أن تبصر النور بعد تحقيق اكتشافات تجارية تكفي لتغطية الإنتاج لعدة سنوات، فهو نوع من التضليل الذي لا يستند إلى أيّ منطق اقتصادي، كما أنه يناقض ما حصل في الدول المنتجة، بما فيها النرويج التي يدعي المسؤولون الاقتداء بنموذجها البترولي، وحيث جاء تأسيس شركتها الوطنية ستاتويل في طليعة «الوصايا العشر» التي قامت عليها سياسة النرويج البترولية قبل نصف قرن. وإذا سلّمنا جدلاً أن مشروع قانون إنشاء شركة وطنية في لبنان سيتأخّر لسبب أو لآخر، فلا يوجد ثمة ما يمنع زيادة فقرة واحدة إلى كلّ اتفاق جديد للاستكشاف والإنتاج تعطي الدولة حقّ الدخول كشريك في حالة تحقيق اكتشاف، عبر شركة نفط وطنية أو عبر أيّ مؤسسة وطنية أخرى. هذا النصّ لا يكلّف شيئاً ويضمن حقّاً أكدّه القانون.
هذه كلها شروط كان يُفترض تضمينها في برنامج الحكومة الجديدة لتصحيح مسار سياسة البترول والغاز وتجنّب فضيحة أفظع من فضيحة الكهرباء التي أدّت إلى خسائر باهظة تقدر بمليارَي دولار سنوياً، كما أشار البيان الوزاري.

تابع صفحة «ملحق رأس المال» على فايسبوك