عندما كتب أرسطو دستور أثينا، كان قد قرأ مُسبقاً مواد 68 دستوراً في العالم ليتمكّن من كتابته. أقول ذلك قاصداً أن الدستور هو نفسه القانون، وهو الذي يحكم البلاد، والبعض يسمّونه «الكتاب».عندما تولّى الرئيس دوايت آيزنهاور الرئاسة في الولايات المتّحدة الأميركية، سُئِل: «كيف ستدير رئاسة البلاد وأنت إلى حّد ما غريب عنها؟»، وذلك لأنه كان عسكرياً، ولم يكن لديه الوقت الكافي للغوص في عالم السياسة والقوانين. فكان جواب آيزنهاور: «جئت إلى البيت الأبيض لأعمل ما يمليه عليّ الكتاب».
عندنا في لبنان، أخذ الرئيس فؤاد شهاب بهذه المقولة، وعند كلّ مفصل وقرار مسؤول كان يسأل: «شو بيقول الكتاب؟ لأعمل ما يمليه عليّ». وعندما تولّى الدكتور إدمون نعيم حاكمية مصرف لبنان في الفترة المُمتدة بين عامي 1985 و1990، التي شهدت موجات تضخّم متتالية وانهيارات في سعر الصرف، وكنت معه النائب الأوّل لحاكم المصرف المركزي، سألته: «ماذا ستفعل وأنت لا تحمل خبرات اقتصادية وتقنية لمواجهة أزمات مماثلة»، فأجاب: «لقد عُيِّنت في هذا المركز لا لأعمل شيئاً أكثر من تطبيق ما هو وارد في الكتاب»، أي في قانون النقد والتسليف. وسألته أيضاً: «ألا تخاف من هذه المسؤوليات المُلقاة على عاتقك؟»، فكان جوابه: «أنا معكم في المجلس المركزي لمصرف لبنان، وسأعمل بكلّ ارتياح».
أقول ذلك لأشير إلى أن واضعي الدساتير في العالم هم الذين أقاموا السلطات في البلاد، أي السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وأيضاً النقدية. والآن نتحدّث عن السلطة النقدية، لأنها أصبحت من ضمن السلطات الرئيسة في أي بلد، كونها تتعاطى في عمليّات النقد وتسهر على سير المصارف المحلّية وتعاملات الناس والفاعلين الاقتصاديين في البلدان ذات النظام الاقتصادي الحرّ، ولأننا الآن نعيش تبعات سياسة نقدية مستمرّة منذ أكثر من عقدين، ساهمت بقتل الاقتصاد الحقيقي المُنتج لصالح اقتصاد ريعي استفادت منه القلّة على حساب المجتمع والاقتصاد، وبتهجير الشباب ورفع الأسعار وانهيار الخدمات العامّة، وحوّلتنا إلى أسرى لعملة أجنبية لا نملك أيّ سلطة عليها، وتزداد حاجتنا إليها باطراد لنأكل ونشرب ونلبس ونتنقّل ونعمل...
حالياً يزيد الطلب على الدولار بالتوازي مع شحّه في الأسواق. وما تدابير تقييد التعامل بالدولار الأخيرة وأزمة الاستيراد والتصدير إلّا الدليل العملي على ذلك. وهذه الأزمة مرجّحة للتفاقم أكثر وأكثر، فهي أشبه بالحفر في القعر، فيما المطلوب العودة إلى «الكتاب» والاحتكام له وتحكيم ضمائر الحكّام لتحمّل مسؤولية شعب يتبدّد واقتصاد يترنّح لصالح استمرار سلطة متسلّطة.
أقول ذلك، لأنني كنت دائماً أقرأ ولا أزال أقرأ في الكتاب، أي قانون النقد والتسليف.
ففي هذا الكتاب لم يغب عن عقل المشرّع أن السلطات مُنفصلة عن بعضها البعض، ولكنّها في الوقت نفسه، تتعاون مع بعضها البعض بما فيه خير البلاد.
تنصّ مواد قانون النقد والتسليف على كيفية إدارة المصرف المركزي لعمليّات النقد والتسليف، وهي خارطة طريق واضحة للبدء بإدارة الأزمة. إذاً حلّ الأزمة ليس مسألة تقنية ولا يحتاج لاختصاصيين وتكنوقراط، بل لقرار سياسي تكون حماية المجتمع وبناء الاقتصاد أولى أولوياته. أمّا إدارتها فتقنية، والتقنيات واضحة وتنصّ عليها بعض مواد القانون ومسؤولية تطبيقها جماعية.
تحدّد المادة 23 من قانون النقد والتسليف صلاحيات المجلس المركزي لمصرف لبنان بـ: (1) وضع السياسة النقدية وأنظمة تطبيق القانون و(2) تحديد معدّلات فوائد التسليفات تبعاً للأوضاع الاقتصادية. تمارَس هذه الصلاحيات بالتعاون بين الإدارات وتكون فيها المسؤولية جماعية، أوّلاً، لأن من الصعب فصل النقد الوطني عن السياستين المالية والاقتصادية للبلاد، وثانياً لكون المجلس المركزي مؤلّفاً من أطراف عدّة تضمّ حاكم المصرف المركزي ونوابه ومفوّض الحكومة لدى مصرف لبنان ومدير عام المالية العامّة ومدير عام الاقتصاد.
يضع المجلس المركزي الأنظمة التطبيقية والمتعلّقة بعمليّات البنك المركزي، والمبادئ العامّة والأسس التي توجّه عمله في السوق شارياً أو بائعاً العملات الأجنبية، بالاستناد إلى مبدأ طبيعة النظام الاقتصادي الحرّ. وعادة يكون تدخّل البنك المركزي استثنائياً ومُبرّراً، خصوصاً في عمليّات الشراء مع الأخذ في الاعتبار سيولة المصارف، على أن لا يستعمل أدواته التقليدية (الفائدة) خلال تدخّله هذا في ظروف استثنائية.
حلّ الأزمة ليس تقنياً ولا يحتاج لاختصاصيين وتكنوقراط بل لقرار سياسي تكون حماية المجتمع وبناء الاقتصاد أولى أولوياته


أمّا لناحية سياسات التسليف للمصارف، لا شكّ أن هناك تدابير وإجراءات يجب أن تتّخذ، ويتّضح من النصّ أن المجلس المركزي وحده هو صاحب الحقّ في تحديد شروط تمويل المصارف، بحيث يفترض أن تنطبق على الجميع من دون تمييز، وأن تصدر بموجب تعاميم. أكثر من ذلك، ونتيجة الظرف الحالي يجب الاقتراب من الواقع واللجوء إلى المنطق الوضعي (positive logic) والتصرّف على ضوء الظروف وانعكاساتها على اتجاه السوق، خصوصاً أن مصرف لبنان قد يكون مُضطراً إلى تغطية المشتريات الضرورية لتمويل واردات القطاع العام من جهة، والعمل على تعزيز احتياطاته من جهة ثانية، وهذا من شأنه أن يشوّه معنى تدخّله ويمكن أن يعيق أي اتجاه نحو تعزيز وضع الليرة.
إلى ذلك، تنصّ الفقرة الأولى من المادة 75 من قانون النقد والتسليف على كيفية إدارة المصرف المركزي لعمليّات النقد والتسليف عبر استعمال الوسائل التي تؤمّن ثبات القطع. وتشير هذه المادة إلى أن وزير المال هو شريك في عمليات تأمين ثبات القطع، ويجب العمل في السوق بالاتفاق معه شارياً أو بائعاً الذهب والعملات الأجنبية. جرت العادة أن يتنازل وزير المال عن هذه الصلاحية، لكن في هذه الأوقات الصعبة هو ملزم بالمشاركة في تحمّل المسؤوليّات، فضلاً عن إبلاغ إدارات الدولة ومؤسّساتها بضرورة اتّباع سياسة تقشّف شديدة، لأن ذلك يشكّل عاملاً سياسياً وحاسماً في تقرير مصير النقد الوطني.
من المسلّم به، كما ذكرت، أن تدخّل المصرف في سوق القطع هو أحد وسائل السياسة النقدية، ومن حقّ المجلس المركزي أن يُحدّد هذه السياسة، على أن يتمّ هذا التدخّل بالاتفاق مع وزير المال، بالإضافة إلى تشكيل لجنة من الاختصاصيين – من المصرف وخارجه – تجتمع يومياً لاستطلاع الوضع، وتقرّر ما يجب عمله في هذا الشأن.
لماذا التذكير بمواد في قانون النقد والتسليف الآن؟ ببساطة، لأننا نحتاج إلى هزّة ضمير، لقد وصلنا إلى القعر، ولا بدّ من إنقاذ البلد لا بيعه.

* النائب الأوّل السابق لحاكم مصرف لبنان