يعلم الأكثر تبصّراً بين الاقتصاديين التقليديين أن التيسير النقدي لن ينفع. تنتقد «فايننشل تايمز» وحتى «وول ستريت جورنال» هذه السياسة، وكذلك الكينزيّون الذين سوّقوا لها قبل أن يدركوا فشلها. ومن الأمثلة المستشار المالي في الاقتصاد الكلّي إدوارد هاريسون. يقول هاريسون: «أعتقد أن السياسة النقدية غير فعّالة. لا نعرف حتى كيف تعمل. بالطبع، يمكن لسياسة تحديد سعر الفائدة، في مفاصل حسّاسة، أن تساعد في دورة الأعمال من خلال تخفيض العائد حين يكون المدين تحت الضغط. لكنّنا بلغنا أقصى ما يمكن للمصارف المركزية فعله. وبالنتيجة، نلجأ إلى التيسير الكمّي ومعدّلات الفائدة السلبية والتحكّم بمنحنى العائد. لكن من أجل ماذا؟ هذا الجنون بعينه. الحلّ يحدّق فينا: علينا أن نساعد في وضع المال في جيوب الناس الذين يواجهون الضائقة المالية الأكبر في اقتصاداتنا. فهؤلاء يحتاجون المال أكثر من غيرهم، ويرجّح أن ينفقوه أيضاً. وإلى حين القيام بذلك، سيستمرّ الضغط على أنظمتنا الاقتصادية والمالية وكذلك الاضطراب السياسي».

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

يقدّم هاريسون دليلاً تجريبياً يظهر فشل السياسة النقدية على غرار ما اكتشفه كينز في ثلاثينيات القرن الماضي، ويشير إلى «ملخّص دراسة اقتصادية صادرة في عام 2013، أعدّها باحثون من جامعة دارتماوث التي كنت أرتادها، ويقولون فيها: نحن ندرس العناصر التي تحرّك الاستثمارات المجمّعة للشركات بين عامي 1952 و2010. يستجيب الاستثمار الفصلي بقوّة للأرباح السابقة وعوائد الأسهم، وعلى عكس التوقّعات المعتادة، لا يرتبط الاستثمار إلى حدّ كبير بالتغيّرات في أسعار الفائدة أو تقلّبات السوق أو عوائد سندات الشركات، بل باستمرار النموّ المنخفض للأرباح وعائدات فصلية منخفضة للأسهم عند نشر بيانات الاستثمار. يوضح تحليلنا أن انخفاض الاستثمار في أعقاب الأزمة المالية في عام 2008 يمثّل رداً نمطياً عادلاً على التغييرات في الأرباح والناتج المحلّي الإجمالي في نهاية 2008 بدلاً من ردّ فعل غير معتاد على مشاكل أسواق الائتمان».
ويذكر هاريسون أعمالاً للاحتياطي الفدرالي خلصت إلى أنّ «أحد المبادئ الأساسية لنظرية الاستثمار والنظرية التقليدية لانتقال أثر السياسة النقدية هو أن نفقات الاستثمار من قِبَل الشركات تتأثّر سلباً بمعدّلات الفائدة. إلّا أن مجموعة من الأبحاث التجريبية تقدّم، في أحسن الأحوال، أدلّة مختلطة على التأثير الكبير لمعدّل الفائدة على الاستثمار. في هذه الورقة، ندرس حساسية خطط الاستثمار على معدّلات الفائدة باستخدام مجموعة أسئلة خاصّة طرحت على مدراء ماليين في مسح جرى في الفصل الثالث من عام 2012. ومن بين أكثر من 500 إجابة، وجدنا أن معظم الشركات تدّعي أنها غير حسّاسة بتراجع معدّل الفائدة بل تتأثّر أكثر بزيادته».
ذكرتُ هذه الورقة البحثية في مناسبات عدّة عبر هذه المدوّنة وقبل أن يشير إليها هاريسون. شدّد الأخير على ضعف تأثير معدّلات الفائدة على استثمار الشركات، وتجاهل خلاصات رئيسية أخرى توصّلت إليها الورقة، وأقتبس منها مجدّداً: «تستجيب الاستثمارات الفصلية بقوّة للأرباح السابقة والعائد على الأسهم على عكس التوقّعات المعتادة... يظهر تحليلنا أن انخفاض الاستثمار في أعقاب الأزمة المالية 2008 يمثّل ردّاً نمطياً عادلاً على التغييرات في الأرباح والناتج المحلّي الإجمالي في نهاية 2008 بدلاً من ردّ غير معتاد على مشاكل أسواق الائتمان».
بعبارة أخرى، ما يحرّك الاقتصادات الرأسمالية وتراكم رأس المال هو التغييرات في الأرباح والربحية. وهذا ما تظهره الورقة بالفعل. ثمّة مجموعة من الأدلّة التجريبية التي تؤكّد هذه العلاقة، وسبق أن تناولتها في أوراق عدّة وهي: علاقة الربح بالاستثمار. فالنموّ الاقتصادي في الاقتصاد الرأسمالي لا يحرّكه الاستهلاك بل استثمار الشركات. هذا هو العامل المتأرجح الذي يسبّب صعود الاقتصادات الرأسمالية وانخفاضها. ولا يحرّك استثمار الشركات سوى عامل واحد: الربح أو الربحية لا معدّلات الفائدة والثقة وطلب المستهلك. الأمر بهذه البساطة، وهو يفسّر بشكل واضح وبالتجربة نزعة الصعود والانخفاض المنتظمة والمتكرّرة التي يتجاهلها أو ينفيها الاقتصاد التقليدي (بما في ذلك الكينزي) وما بعد الكينزي.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

لنأخذ الشرح البديل للركود الذي قدّمه مؤخّراً الاقتصادي السابق في المصرف المركزي البريطاني دان ديفيس، الذي يقول إن «الانهيارات المالية ليست الطريق المُعتاد لحصول الركود. وخطوط ائتمان الطوارئ وخطوط الإنقاذ المموّلة من أموال دافعي الضرائب ليست الطريقة المُعتادة لتفاديها أو إدارتها. ما يجري عادة هو حصول صدمة ما في ثقة الشركات - نتيجة عدم اليقين السياسي أو القيود التجارية كما نرى اليوم - وتردّ الأخيرة بتقليص خططها الاستثمارية». وفقاً لديفيس، «الركود الكينزي التقليدي من هذا النوع، غير المصحوب بأزمة في السوق المالية، هو النوع المُعتاد، وأحد أوضح المشاكل في السياسة الاقتصادية». أحقّاً أوضحها؟
يشير التفسير الكينزي إلى خسارة ثقة الشركات بصورة مفاجئة بسبب عنصر خارجي، مثل حرب تجارية أو فشل حكومي أو حرب. وبالتالي لا يوجد أي خطأ ذاتي في العملية الرأسمالية للإنتاج والاستثمار من أجل الربح. وتعدّ فكرة «الصدمات»، وجهة النظر السائدة لإحقاق نظام توازن، والتي غذّت صناعة العمل التجريبي بناء على نماذج التوازن العام الديناميكي العشوائي (DSGE)، وهي العبارة الذكية لرؤية ما يحصل لأي اقتصاد حين يواجه «صدمة» خارجية مثل خسارة مفاجئة للثقة أو فرض تعريفات جمركية.
انتقد لاري سامرز، أحد كبار الاقتصاديين الكينزيين، نماذج التوازن العام الديناميكي العشوائي، حين قال «خلال أربع سنوات من التفكير والانخراط المكثّف في هذه الأزمة المالية، لا يبدو أن هناك أي توازن عام ديناميكي عشوائي يستحقّ الذكر ولو بطريقة عابرة». وسأل: «هل الكلّي – كما كان سائداً قبل كينز ومن بعده – هو في تقلّبات الدورة الاقتصادية عن اتّجاه حُدِّد في مكان آخر... ما يقود إلى احتكاك آخر في نموذج توازن عام ديناميكي عشوائي لن يقودنا إلى أي مكان؟».
هذا الشرح الكينزي التقليدي للركود لا يفسّر شيئاً. لماذا تمّ فقدان ثقة الشركات بطريقة مفاجئة كما نشهد اليوم؟ وكيف تفسّر الخسارة المفاجئة كلّاً من الركود والازدهار المنتظمين والمتكرّرين وليس الصدمات؟ يحاجج ديفيس بأن الركود العظيم كان استثنائياً لأن الانخفاض الهائل وقع بسبب أزمة مالية حادّة لن تتكرّر، مثلما هي الانخفاضات «الطبيعية» مجرّد «صدمات» طارئة.
ومع ذلك فإن النظرية والدليل يشيران إلى أن التراكم الرأسمالي والإنتاج يسيران إلى الأمام في سلسلة متتالية من الازدهار والركود بدرجات ومدد مختلفة، وفقاً لحركة ربحية رأس المال، التي تتوّج بشكل منتظم بانهيار الأرباح وبالتالي تراجع الاستثمار والتوظيف والاستهلاك والأجور.
في ثلاثينيات القرن الماضي، حين أدرك كينز أن التيسير النقدي لم ينجح في إنهاء الركود، اتّجه إلى الإنفاق الحكومي (الاستثمار) عبر إدارة عجز في الموازنة لتحفيز «طلب فعّال» والحصول على الاستثمار والاستهلاك بشكل تصاعدي. أصبحت هذه السياسة تعرف كسياسة كينزية، ويعتمدها أيضاً الاقتصاديون الراديكاليون ما بعد الكينزيين في نسختهم الأخيرة من «نظرية السياسة النقدية». يعتقد الكينزيون أنه يمكن إخراج الاقتصادات الرأسمالية من الركود عبر الاقتراض الحكومي بدلاً من عائدات الضرائب (إدارة عجز في الموازنة). وتقترض الحكومة عبر حمل المؤسّسات المالية على شراء سنداتها.
ويعتقد الاقتصاديون ما بعد الكينزيين الأكثر راديكالية وأصحاب نظرية السياسة المالية، أن إصدار السندات حتى ليس أمراً ضرورياً، إذ يمكن للحكومات طبع الأموال فقط وإنفاقها على مشاريع مفيدة. ويجمعون على أن «التحفيز المالي» هو الطريق إلى استعادة النموّ والاستثمار والتوظيف والأجور في الاقتصاد الرأسمالي. فالحكومة تقترض أو تطبع النقود لينفقه الرأسماليون والعمّال. وبمجرّد عودة النموّ وتحقيق التوظيف الكامل ورفع الأجور، يمكن تمويل خدمة الدَّيْن ووقف تدفّق الأموال الحكومية وتخفيف التضخّم إذا كان الاقتصاد متدهوراً.
مشكلة هذه السياسة هو أننا في اقتصاد رأسمالي، حيث تُتخد القرارات الاستثمارية المحرّكة للاقتصاد من قِبَل شركات رأسمالية. وما لم تتّخذ الحكومة هذه القرارات الاستثمارية بنفسها وتتحكّم بالقطاع الرأسمالي بقوّة أو تستبدله بعمليّات تقودها بنفسها ضمن إطار خطّة واضحة (مثلما فعلت الصين)، فإن الاستثمار والنموّ سيعتمدان على قرارات الشركات الرأسمالية. وهذه الأخيرة لا تستثمر إلّا إذا كانت واثقة من أنها ستحصل على أرباح، أي حين تكون الربحية على الاستثمار عالية وفي ارتفاع مستمرّ.
لا يمكن للرأسمالية الخروج من الركود بالركود نفسه، الذي يقضي على الشركات الأضعف ويسرّح العمّال غير المنتجين، فتنخفض كلفة الإنتاج وتحظى الشركات التي صمدت بعد الركود بربحية أعلى


يظهر تاريخ الركود العظيم في الثلاثينيات وانهيار سياسات إدارة الطلب الكينزية في السبعينيات وتاريخ الركود الطويل منذ 2009، أنه إذا كانت ربحية الشركات منخفضة وتواصل الانخفاض، فعندها لن ينجح أي تحفيز مالي، مهما كان ضخماً، في تحقيق المزيد من الاستثمار ونموّ أسرع.
قمت أنا وغيري بعرض أدلة تجريبية تُظهر أن الإنفاق الحكومي لديه تأثر ضئيل أو معدوم في تحفيز النموّ الاقتصادي أو الاستثمار الكلّي، إذ يكون المبلغ صغيراً للغاية بحيث لا يكون له تأثير (معدّلات الاستثمارات الحكومية لا تتجاوز 2 إلى 3% من الناتج المحلّي الإجمالي في معظم الاقتصادات الرأسمالية، بالمقارنة مع 15-20% من الناتج المحلّي الإجمالي لاستثمارات القطاع الرأسمالي)، أو أنّ معظم الإنفاق الحكومي في الاقتصادات الرأسمالية هو في الحقيقة معونات للشركات الرأسمالية أو لتعزيز الرفاهية من دون نتيجة إنتاجية تذكر.
لا تصدّقوني، وانظروا إلى اليابان، مثلاً، التي سجّلت عجزاً في الموازنة تراوح بين 3 و10% من الناتج المحلّي الإجمالي لنحو 20 عاماً، ولكن معدّل النموّ فيها كان أدنى حتّى ممّا هو عليه في الولايات المتّحدة أو أوروبا.
أيضاً، أدّت التخفيضات الضريبية التي أدخلها، إلى زيادة العجز في الموازنة الأميركية في العامين الماضيين وإلى اليوم. يتبع ترامب سياسات كينزية في هذا السياق. إلّا ان النموّ في الولايات المتّحدة يتباطأ بسرعة، ومن المتوقّع أن تسجّل الولايات المتّحدة عجزاً أوّلياً في الموازنة (الفارق بين الإيرادات والنفقات العامّة من دون كلفة الفائدة على الدَّيْن) في المستقبل المنظور. فهل يتوقّع الكينزيون حقّاً أن ينمو الاقتصاد الأميركي أسرع نتيجة ذلك؟
على الرغم من إمكانيّة التحقّق من منحنى العائد المقلوب يومياً، لكنّه قد لا يكون مؤشّراً مفيداً على الركود المقبل، على عكس الأرباح المتراجعة (لسوء الحظ عادة ما تكون بيانات الأرباح فصلية). وتؤكّد ذلك الدراسات التجريبية، مثل التي ذكرها هاريسون، وغيرها. واليوم، أرباح الشركات العالمية آخذة في الركود... وأرباح الشركات الأميركية غير المالية في تراجع.
لن تنجح الحلول المالية والنقدية، التي تحافظ على النظام الرأسمالي القائم على جني الأرباح، في التصدّي للركود. لقد فشل التيسير النقدي تماماً كما في السابق. وأيضاً فشل التيسير المالي حين تم تبنّيه. في الواقع، لا يمكن للرأسمالية الخروج من الركود بركود. لأن ذلك سيقضي على الشركات الرأسمالية الأضعف وتسريح العمّال غير المنتجين، ومن ثمّ ستنخفض كلفة الإنتاج وستحظى الشركات التي صمدت بعد الركود بربحية أعلى كحافز للاستثمار. هذا هو الركود «الطبيعي». لكن في حالة الكساد، تتطلّب هذه العملية ركوداً مُتكرّراً (كما في أواخر القرن التاسع عشر) قبل استئناف الدورة العادية. هناك ركود آخر في طريقه إلينا ولا يمكن لأي من الإجراءات النقدية أو المالية إيقافه.

* Michael Roberts Blog
* ترجمة: لمياء الساحلي