ينظر المصرفيون والاقتصاديون إلى احتمال تخفيض التصنيف الائتماني للبنان بوصفه تحوّلاً مفصلياً في الأزمة التي يعاني منها، سيؤثّر حكماً في قدرته على تمويل حاجات اقتصاده المحلّي من العملات الصعبة واستقطاب الأموال من الخارج. وهو ما يشكّل، وفق الخبراء، مفصلاً خطيراً قد يصعب الخروج منه دون خسائر، كون لبنان يعتمد بشكل رئيسي على التمويل الخارجي لتمويل اقتصاده، وأكثر من ذلك، فهو يعاني من نزفٍ مستمرّ في الدولارات المُتاحة محلّياً لسدّ هذه الحاجات، وهذا ما يعبّر عنه العجز المستمرّ والمتمادي في ميزان المدفوعات، أي صافي الأموال الخارجة من لبنان والداخلة إليه، والذي سجّل خلال الأشهر الخمسة الأولى من هذا العام مستوى قياسياً بقيمة 5.2 مليار دولار، وهو أكبر من العجز المُسجّل طوال السنة الماضية (4.8 مليار دولار).ماذا يعني تخفيض التصنيف الائتماني لبلد مثل لبنان؟ ما هي التداعيات التي ستترتّب عنه؟ وما الإجراءات المُفترض القيام بها لمواجهة هذه التداعيات؟
للإجابة عن هذه الأسئلة لا بدّ بداية من تعريف التصنيف الائتماني.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

وفقاً لموسوعة Investopedia الاقتصادية، «التصنيف الائتماني هو تقييم للجدارة الائتمانية للمقترضين حيال ديونهم والتزاماتهم المالية. وفي هذا السياق، تعدّ الدول من المقترضين الذين تعمد وكالات التصنيف العالمية إلى تقديم معلومات للمستثمرين حول قدرتهم على سداد ديونهم، ومدى احتمال سداد مدفوعات الفائدة في الوقت المُحدّد أو التخلّف عن السداد. فكلّما ارتفع التصنيف الائتماني للدولة، عبّر ذلك عن قدرتها العالية على تسديد ديونها وسهولة حصولها على القروض لتمويل حاجاتها، والعكس صحيح، ما يعني أنه كلّما اقتربت دولة ما من درجة تصنيف منخفضة، كلّما أحجم المستثمرون عن إقراضها، لتُترك للحكومات خيارات أقل لإنقاذ اقتصاداتها. من هنا، يعدّ التصنيف الائتماني ذا أهمّية نظراً لتأثيره على قدرة البلدان على اقتراض الأموال، وكلفة هذا الاقتراض».
في لبنان، كما في كلّ البلدان، يتأثّر تصنيف المصارف بتصنيف الدولة الائتماني، لا بل أكثر من ذلك، يعدّ نتيجة حتميّة له، كون المصارف اللبنانية باتت منكشفة على دَيْن الدولة بنسبة 69% من موجوداتها وفقاً لصندوق النقد الدولي (14% في الدَّيْن الحكومي و55% في دَيْن مصرف لبنان، وهذا الانكشاف يعادل أكثر من 8 أضعاف رأس المال الأساسي للمصارف).

69%

من موجودات المصارف اللبنانية باتت منكشفة على دَيْن الدولة وفقاً لصندوق النقد الدولي 14% في الدَّيْن الحكومي و55% في دَيْن مصرف لبنان وهذا الانكشاف يعادل أكثر من 8 أضعاف رأس المال الأساسي للمصارف


يعتبر وزير الاقتصاد الأسبق ونائب سابق لحاكم مصرف لبنان ناصر السعيدي تخفيض التصنيف الائتماني للبنان بمثابة «إعلان عن تراجع قدرة لبنان على الالتزام بتسديد ديونه، أو ارتفاع المخاطر حيال قدرته على الالتزام بالسداد». في حين يراه الباحث في جامعة «هارفرد» والمدير السابق لبنك Standard Chartered دان قزي بمثابة «تحذير من ارتفاع مخاطر خسارة المودعين لأموالهم باعتبار أن الدولة لن تتخلّف عن دفع مستحقّات الدائنين الخارجيين الذين بالأساس لا يحملون سوى نسبة قليلة من سندات دَيْن الخزينة. بل قد تتخلّف تجاه المصارف التي اشترت سندات الخزينة بأموال المودعين، وقد تتخلّف أيضاً تجاه مصرف لبنان الذي يحمل سندات خزينة، والذي بدوره قد يتخلّف عن إعادة الودائع الموجودة إليه إلى المودعين كونه يستعملها في تمويل عجز الدولة والعجز في ميزان المدفوعات».

أمام هذا الواقع، ما هي الإجراءات الوقائية لمواجهة الأزمة؟
عادة، عند تخفيض التصنيف الائتماني لبلدٍ ما، وصولاً إلى مستويات منخفضة مماثلة للدرجات التي يحلّ فيها لبنان، يتمّ اللجوء إلى تعزيز رساميل المصارف لمواجهة أي مخاطر مُحتملة ناتجة عن التخلّف في تسديد الديون. ووفقاً لمدير تنفيذي في واحد من أكبر المصارف اللبنانية (طلب عدم ذكر اسمه): «إذا تمّ تخفيض التصنيف الائتماني، وهو أمر مُقبِلون عليه، عندها يُفترض بالمصارف القيام بمجموعة من الإجراءات الاحترازية: 1- أن تأخذ مؤونات إضافية تجاه قيمة الديون التي من المحتمل أن تشهد تخلّفاً في السداد، وهو ما يتطلّب حسم قيمة هذه المؤونات من رساميل المصارف. 2- بما أن المصارف تعمل على إقراض زبائنها من الودائع الموجودة لديها، فإن خفض التصنيف يفترض أيضاً القيام بتثقيل الموجودات المصرفية، أي زيادة رأس المال بنسبة 12% من قيمة الموجودات المحفوفة بمخاطر وفقاً للمعايير العالمية».

ناصر السعيدي: إذا لم يحدث أي إصلاح مالي ضخم وجذري، نحن ذاهبون إلى أزمة مالية كبيرة قد تبدأ بوقف التحويل بين الليرة والدولار ووقف التحويلات من لبنان، وصولاً إلى إجراءات تقضي بتخفيض قيمة الدَّيْن


ويتابع المدير نفسه: «لكن إذا انخفضت كفاية الرساميل نتيجة هذه الإجراءات عن النسبة المُحدّدة وفقاً للمعايير الدولية (بازل)، يفترض عندها القيام بإعادة تكوين رساميل المصرف، إمّا من خلال وقف توزيع الأرباح لصالح تكوين رساميل جديدة، أو عبر عرض أسهم في المصرف للبيع لتغطية قيمة المؤونات، وصولاً إلى بيع موجوداته كحلّ أخير وهو ما قد يؤثّر على الثقة بالمصرف، وبالتالي على قدرته على استقطاب ودائع جديدة أو المحافظة على الودائع الموجودة لديه. أو قد يلجأ إلى تحرير رأس المال لديه، أي بيع الموجودات المُثقلة بتصنيف عاطل (سندات الخزينة مثلاً)، ما يعفيه من ضرورة تكوين رساميل في مقابلها، إلّا أنه قد يواجه مشكلة في ذلك في حال لم يرغب أحد بشراء هذه السندات في ظلّ هذه الظروف الصعبة. من هنا، يمكن الاستخلاص بأن هذه الإجراءات تتطلّب وقتاً، وهناك مصارف ستضرّر أكثر من غيرها وفقاً لحجم رساميلها».

ما هي التداعيات المُحتملة؟
في الواقع، يبني الخبراء مخاوفهم استناداً إلى النتائج التي قد تترتّب على المصارف اللبنانية نتيجة تخفيض التصنيف الائتماني، ومن خلالها على الاقتصاد ككلّ، لا سيّما أنها نتائج مفتوحة على سيناريوهات مختلفة، المشترك بينها هو مرّها. يقول المدير المصرفي بأن «هذه المرحلة تتطلّب إدارة دقيقة. الوضع صعب ولكنّنا لم نصل إلى مرحلة كارثية بعد، وبالتالي يُفترض العمل لمنع اهتزاز الثقة بالمصارف، وانسحاب الودائع منها وانهيارها».

دان قزي: تخفيض التصنيف هو تحذير من ارتفاع مخاطر خسارة المودعين لأموالهم، فمستحقّات الدائنين الخارجيين قليلة، والدولة قد تتخلّف تجاه المصارف ومصرف لبنان اللذين يستخدمان أموال المودعين في عملياته


فهل وصلنا فعلاً إلى ساعة الحسم؟ وفقاً للسعيدي «كلّ أزمة تمرّ بمراحل متتالية، وبالتالي تخفيض التصنيف الائتماني للبنان قد يسرّع بعض هذه المراحل، إذ سيؤدّي إلى تخفيض قيمة الدَّيْن في الأسواق، وسيؤثّر في الوقت نفسه على أسعار السندات التي أصدرتها المصارف وعلى قيمة أسهمها. وهي نتائج ستظهر في ميزانيات المصارف وستكون معلومة بالنسبة إلى المصارف الخارجية التي ستفرض شروطاً أقسى للتعامل مع المصارف اللبنانية، ما سيؤدّي إلى رفع أسعار الفائدة التي تقترض بها». وهذا ما يؤكّده المدير المصرفي مشيراً إلى أن «العديد من المصارف المراسلة أنهت تعاملها مع المصارف اللبنانية، وبالتالي خفض التصنيف الائتماني سيدفع المصارف التي لا تزال تتعامل معنا إلى اشتراط وضع ضمانات مفتوحة للإبقاء على تعاملها، بمعنى إذا أراد أحد المستوردين اللبنانيين شراء سلع من الخارج عليه تسديد قيمتها كاملة قبل تصديرها إذ لن يعود متاحاً أمامه شراءها بالأمانة. ما يعني أن عليه فتح اعتماد مفتوح في مصرفه اللبناني لتحويل قيمة السلع التي يرغب باستيرادها كاملة إلى حساب التاجر الأجنبي في المصرف الخارجي. وهو ما سيجعل الاستيراد أصعب خصوصاً أن المبالغ النقدية ليست حاضرة دائماً».

مدير مصرفي: العديد من المصارف المراسلة أنهت تعاملها معنا، وبالتالي خفض التصنيف الائتماني سيدفع المصارف التي لا تزال تتعامل معنا إلى اشتراط وضع ضمانات مفتوحة للتعامل مع المصارف اللبنانية


يتوافق قزي مع السعيدي والمدير المصرفي في تحليلهما للنتائج، مشيراً إلى أن «تخفيض الائتمان سيؤدّي إلى ارتفاع أسعار الفائدة للحفاظ على قدرة استقطاب الدولارات من الخارج، وبالتالي ارتفاع كلفة تمويل الاقتصاد اللبناني وزيادة صعوبة الحصول على هذا التمويل. فضلاً عن التأثير على القدرة على الاستيراد. وعلى الرغم من أن ذلك سيؤدّي إلى خفض العجز في ميزان المدفوعات، إنّما ستكون له آثار انكماشية قد يصعب الخروج منها والنهوض بالاقتصاد بسهولة». إلى ذلك، يرى السعيدي «إن الإجراءات التي قد تتخذها المصارف، أي الرسملة وتكوين المؤونات، لن تؤثّر فقط في القدرة على التمويل الذي يصبح أصعب نتيجة ارتفاع المخاطر، بل أيضاً على التحويلات المالية إلى لبنان التي ستنخفض نتيجة تجنّب المستثمرين القيام بأي استثمار فيه. وهو ما سيكون له أثر على استقطاب الودائع أو المحافظة على الودائع الموجودة أصلاً، وسيدفع حكماً إلى رفع أسعار الفائدة محلياً، وهو ما بدأ فعلاً». ويختم السعيدي «المخاطر كلّها باتت اليوم مرتبطة بالدولة ومصرف لبنان، وبالتالي إذا لم يحدث أي إصلاح مالي ضخم وجذري، نحن ذاهبون إلى أزمة مالية كبيرة قد تبدأ بوقف التحويل بين الليرة والدولار ووقف التحويلات من لبنان إلى الخارج، وصولاً إلى إجراءات تقضي بتخفيض قيمة الدَّيْن».



نحن ندفع نيابة عن المساهمين
في بداية هذا الشهر، تمّ تناقل رسالة إلكترونية يعرض فيها أكبر مصرف في لبنان فائدة بمعدّل 14.3% سنوياً في مقابل كلّ 20 مليون دولار تأتي من الخارج ويتمّ إيداعها لديه لمدّة ثلاث سنوات. وللمفارقة، أنه بعد يوم واحد من تناقل هذه الرسالة، أصدر مصرف لبنان تعميماً (التعميم رقم 519)، يسمح فيه للمصارف بتسجيل الأرباح الناتجة عن توظيف ودائع الدولار الموجودة لديها في مصرف لبنان، فوراً وقبل تحقيقها، ولكن بشرط أن يكون مصدر الأموال الموظّفة في هذه العمليات محوّلة من الخارج وأن لا يجري توزيعها على المساهمين بل إضافتها إلى رأس مال المصرف. اللافت أن هذين التدبيرين يأتيان بالتوازي مع ما يتردّد عن توجّه وكالات التصنيف العالمية إلى خفض التصنيف الائتماني للبنان، وهو ما سيُلزم المصارف باقتطاع جزء من رساميلها لتشكيل مؤونات وتثقيل موجوداتها لتجنّب أي خسائر في حساباتها قد تنتج عن مخاطر تخلّف الدولة اللبنانية عن سداد ديونها.
يربط خبراء هذه الأحداث ببعضها بوصفها أحداثاً خطيرة ولا يمكن تجاهلها، لا سيّما أن في أيار/ مايو الماضي، اضطر مصرف لبنان أن يتخلّى عن 1.1 مليار دولار من موجوداته بالعملات الأجنبية لتسديد مستحقّات سندات اليوروبوندز للمصارف اللبنانية، التي لم يجر استبدالها كما جرت العادة، أي إعادة إقراضها للدولة اللبنانية. وهو ما يفسّره الخبراء بوجود نقص في سيولة المصارف، ما أجبر المصرف المركزي على التخلّي عن جزء من موجوداته لمنع تعريض أي مصرف للخطر. من هنا، يرى خبراء أن التعميم الأخير رقم 519 هو رسالة واضحة من المصرف المركزي إلى المصارف، يقول فيها بصراحة: الوضع ليس جيّداً ولكنني سأقوم بإعادة تكوين رساميلكم من المال العام، وليس من أموالكم الخاصّة، لكي أمنع الإفلاس عن أي منكم.
في الواقع، ما يفعله المصرف المركزي هو التالي: إنه يطلب من المصارف جلب الدولارات من الخارج مقابل فائدة لا تقلّ عن 14.3% لقاء تجميدها لثلاث سنوات. أي بارتفاع بنحو 5% عن معدّل الفائدة في حزيران/ يونيو الماضي. على أن تقوم المصارف كما جرت العادة، بإيداع هذه الأموال لدى مصرف لبنان مقابل الحصول على فائدة أعلى، لا تقل عن 17-18%، لمدّة ثلاث سنوات. أمّا الفارق من الفائدة والذي يشكّل ربح المصرف الصافي فيمكن تسجيل القيمة المتأتية منه عن السنوات الثلاث المقبلة في حساب أرباح السنة الحالية فوراً، أي قبل تحقيق هذه الأرباح فعلياً، وذلك لنفخ رساميل المصارف، خصوصاً أننا أمام خطر تخفيض التصنيف الائتماني للبنان، والمصارف ستكون ملزمة بحسم نسب معيّنة من رساميلها لتكوين مؤونات مقابل الخسائر المحتملة، بالإضافة إلى تجميل حساباتها والإيحاء بأن أوضاعها جيّدة لتتمكّن من استقطاب ودائع جديدة. عملياً، ما يفعله المصرف المركزي هو ضخّ الأرباح في المصارف لتكوين المؤونات وإطفاء الخسائر من دون الاضطرار إلى الاقتطاع من حصص أرباح المساهمين. إلّا أن ما يقوم به مصرف لبنان بكلّ بساطة ومن دون أي رادع، كان موضع جدل في البلدان الأوروبية والولايات المتحدّة إبّان الأزمة العالمية في عام 2008، وفق ناصر السعيدي، وتطلّب الكثير من التشريعات والقوانين للموافقة على نقل الأموال العامّة لدعم رساميل المصارف بدلاً من استخدام أموالها الخاصّة لإنقاذ نفسها.