تظهر الخيارات المطروحة بشأن الوضع المالي أنّ نافذة الفرص لم تغلق بعد، وأن من الممكن خفض العجز ولجم الدين العام من دون الغرق في انكماش اقتصادي عميق. لكن علينا أن لا ننسى أن ما نعانيه اليوم لم يكن عرضيًا، بل مقصودًا، ويعود إلى أخطاء متراكمة في السياسات والإجراءات، وانحرافات متعمدة في الأداء المالي والاقتصادي وفي التجارة الخارجية. وكان الغرض من ذلك خدمة مصالح مجموعة صغيرة تحكمت وحدها، حتى الأمس القريب، في أهم القرارات الاقتصادية المالية والنقدية والاستثمارية. هذه الحفنة التي تضم كبار مقاولي الجمهورية والقابضين على قنوات التمويل ومحميات مالية وإدارية في السلطة وعلى تخومها، أصرّت على رفض الإصلاحات الدائمة والعميقة، وتبادلت المنافع مع آخرين على حساب خزينة الدولة، وألحقت خللًا فادحًا بما تبقى من توازنات اقتصادية واجتماعية، أمّا أهم "إنجازاتها" فهو أنها تمكنت من نقلنا إلى ناحية عدم العدالة، من اقتصاد العشرة في المئة الأغنى إلى اقتصاد الواحد في الألف.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

في السنوات الأخيرة، ظهرت وقائع عديدة تدل على تراخي قبضة هذه الأقليّة: فقد فشلت في منع تعديل الأجور (بغض النظر عن صوابية آلياته)، ولم تستطع رغم محاولاتها الحثيثة تحميل الطبقات الدنيا العبء الأكبر من الضرائب الجديدة، وأخفقت في حمل الدولة على تنفيذ برامج خصخصة شاملة ومجحفة في القطاعات الأساسية، وحاولت من دون جدوى إعفاء الفوائد والعقارات من الضرائب. في المقابل، نجحت هذه الأقلية في جعل طبقة مالية وبيروقراطية غير منتخبة تسيطر على السياسات الأساسية، ,زيادة كلفة الدين العام على نحو غير مسؤول وغير مبرر، وجعل سعر الفائدة الفعلي Actual interest rate أعلى بنقاط عديدة عن سعره الطبيعي Normal interest rate، وتوزيع الموارد المتاحة على نحو غير مجد، ونسج شراكات مع القطاع الخاص قائمة على دفاتر شروط صمّمت أصلًا على مقاسات أفراد ومقاولين محددين سلفًا، ومنع إصلاح أوضاع المؤسسات والسلطات العامة، ووجدت من يتواطأ معها في تكثيف الهدر وزيادة التهرب والتهريب الضريبيين، ووسعت دائرة المنضمين إلى دائرة الفساد والمستفيدين منه، لتشمل ممارساته قطاع الأعمال والتعهدات، وبعض موظفي المؤسسات الدولية وموفديها. ولعل نجاحها الأبرز كان جعل المشروعات العامة مصدرًا لتمويل نفسها وبناء حضورها وتجديد زعامتها لتكون كلفة هذه المشروعات مرتفعة جدًا مقارنة بأعلى كلفة معيارية لها في العالم، وبالتالي لم تنفع عشرات مليارات الدولارات من الانفاق بعد الحرب الأهلية في انتشالنا من أسفل قائمة الدول بحسب نجاعة بناها التحتية.

ثلاثة أبعاد لمشكلة الدين
لا يستقيم التفكير بالتصحيح المالي ما لم يكن جزءًا من رؤية أشمل للأزمة والحل. وما لم تكن السياسات الاقتصادية هي الناظم الرئيسي لغيرها من السياسات وليس العكس، فالإجراءات المالية أو النقدية مهما كانت قوية وحاسمة ستظل قصيرة الأمد ومحدودة الفعالية، إلّا إذا رافقتها إجراءات مماثلة على مستوى الاقتصاد ككل. وعلينا أن نقرّ أولًا، أنّ مأزقنا المالي في عمقه مأزق اقتصادي، يتمحور حول ضمور القدرة التنافسية وتقلص قدرة البلد على الانتاج. صحيح أن مشكلة ضعف الانتاجية والمنافسة هي مزمنة وموجودة في لبنان منذ إنشائه، لكنها لم تبلغ الحد الذي بلغته الآن، لناحية ضخامة العجز التجاري المتقاطع مع اختلالات حادة في الموازين الأخرى.
أنّ الترابط المعروف بين عجز الخزينة الأولي وعجز الحساب الخارجي، هو ترابط اقتصادي وليس آليًا أو حسابيًا، وله صلة بطبيعة هذين العجزين وعوامل تكونهما. فعجز الخزينة العامة الذي يولّد فائضًا في القدرة الشرائية، لا يتأتي بالضرورة من عمليات انتاج جديدة أو من خلال تشغيل موارد عاطلة، بل غالبًا ما ينجم عن استعمال الدولة لصلاحياتها السيادية في تغيير السياسات الضريبية والمالية وزيادة حجم الكتلة النقدية أو تحصيل الايرادات بالطريقة التي تراها مناسبة. ولكن العنصر الجوهري لفهم مفاعيل هذه العملية هو في كيفية استخدام ذلك الفائض، وهل يؤدي في ما بعد إلى زيادة الانتاج بنسب موازية له أم لا.
المشكلة في لبنان، هي أن الجزء الأكبر من القدرة الشرائية التي تولدها الحكومة يستخدم في شراء سلع ومنتجات مستوردة من الخارج، ما يزيد الطلب على العملات الاجنبية بمعدلات تفوق نمو الاقتصاد. وتبين المؤشرات والأرقام وجود ارتباط قوي بين نمو نفقات الخزينة التشغيلية والجارية وزيادة الطلب المذكور على العملات. وقد أسهمت الإدارة العامة عام 2017 في إنقاص الادخار الوطني بمقدار 5% من الناتج تقريبًا لتكون حصيلته سالبة (مع ذلك فإنّ مساهمة الحكومة والبلديات في الناتج المحلي وبخلاف ما يقال لا تزيد على 10% وحصتها من الاستهلاك الوطني الإجمالي هي حوالى 14%). وعلى العموم، إن تغطية فجوة الموارد (الناتجة عن الفارق بين الانتاج والانفاق) تتطلب مزيدًا من الواردات التي تموّل بمزيد من الاستدانة.
لكن التركيز على دور العجز المالي في عجز الحساب الخارجي، يجب أن لا يصرفنا عن أمرين جديرين بالاهتمام: الأول هو أنّ التفاعل بين عجز الموازنة وعجز الحساب الجاري (ومنه الميزان التجاري) متبادل وفي الاتجاهين، فبقدر ما يسهم عجز الخزينة في زيادة الاختلال في الحسابات الخارجية للبنان، فإنّ زيادة الاستيراد وانخفاض التصدير يقللان الناتج الوطني المتاح ويضعفان معهما قدرة الدولة على تحصيل الايرادات، ولا سيما الضريبية منها. وعلى سبيل المثال، لو كانت الصادرات في العقدين الماضيين تغطي نصف المستوردات، كما كانت تفعل في النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي، لازداد الناتج المحلي للبنان بمقدار الثلث على الأقل، ولارتفعت معه إيرادات الخزينة وتقلص عجزها بالمقدار نفسه.
الأمر الثاني، هو أنّ مشكلة الدين في لبنان ثلاثية الأبعاد لا ثنائية. فإلى جانب العجزين المالي والخارجي، تبرز مديونية القطاع الخاص والأسر، بوصفها عاملًا يلجم النمو ويرفع المخاطر . اذ تعادل قيمة هذه المديونية حجم الناتج المحلي الإجمالي، ويتركز ربعها تقريبًا في قروض السكن، وتخصص نسبة متزايدة منها لقروض الاستهلاك المعطاة للأفراد التي تضاعفت خلال سنوات قليلة، أمّا الباقي المقدر بأكثر من نصف محفظة القروض فتستفيد منه المؤسسات والقطاعات الاقتصادية.، مع العلم أن القروض المصرفية باتت تأخذ طابعًا استهلاكيًا متزايدًا يزداد تركزها في قطاعات متقلبة بطبيعتها كالقطاع العقاري.
يفرض تمويل عجز الميزان التجاري على الاقتصاد متطلبات ضخمة من العملات الاجنبية، وقد اعتدنا استخدام أدوات السياسة النقدية لتوفير هذه المتطلبات على نحو ينعكس سلبًا على النشاط الاقتصادي. ويقدر عبء هذا التمويل في لبنان بربع الناتج المحلي تقريبًا للعام 2019، وبحوالى الثلث إذا أضفنا إليه تمويل الدين العام وفوائده بالعملة الأجنبية. وباستثناء صافي تحويلات المغتربين التي وصلت إلى أدنى مستوياتها (1.2 مليار دولار فقط عام 2017 وأقل من ذلك في العام الماضي)، وبعض الاستثمارات المباشرة التي تذهب غالبيتها إلى العقارات، فإنّ مجمل العجز في الحساب الخارجي الذي يشكل ما يزيد قليلًا على خمس الناتج، يُغطى بالاستدانة من الخارج بطريقة أو بأخرى. بتعبير آخر، فإن لبنان مضطر كل خمس سنوات إلى أن يضيف مديونية إجمالية تجاه الخارج تساوي مجموع مداخيله السنوية، أو أن يخفّض أصوله المالية وثروته القومية بالمقدار نفسه، وذلك من أجل تأمين المال الكافي لتلبية حاجاته المستوردة، مع العلم أنّ ثلث هذه المستوردات على الأقل يمكن الاستغناء عنه أو يوجد بدائل محلية له.

التخلص التدريجي من «النموذج» وإخفاقاته
لا يمكن إذًا إصلاح المالية العامة على نحو مستدام، من دون معالجة أزمة الاقتصاد ككل، بما فيه أزمة القطاع الخاص. فهل يكون ذلك بتغيير النموذج دفعة واحدة، أم من خلال إصلاحات وحلول شاملة وعميقة لكن متدرجة، أم بإجراءات مؤقتة وفورية وقوية، من شأنها إحداث صدمة تعيد الاقتصاد إلى مساره الصحيح؟
إن الدمج بين الخيارين الأخيرين هو الأقرب إلى الصواب، فهذا يتّسم بالواقعية من ناحية ويلبي الحاجة إلى الإصلاح الجذري من ناحية ثانية. وإذا كان الهدف الأبعد مدى هو التخلص من النموذج الاقتصادي المشوه الذي ولد في التسعينيات من رحم الحرب الأهلية، وجرت المحافظة عليه رغم فشله الأكيد وقصوره عن تحقيق أقل توقعاته، فإن ذلك يجب أن يكون تدريجيًا وعلى مراحل وبما يعالج إخفاقاته. والمؤشرات الدالة على فشل هذا النموذج كثيرة، ومنها على سبيل الذكر لا الحصر أنه: قلص قاعدة الانتاج السلعي بل والخدماتي التي باتت تقتصر على عدد متناقص من المنتجات والأنشطة، ورَفَع نصيب المداخيل الناتجة عن المضاربات والاحتكارات والتوظيف المالي غير المنتج إلى حوالى ربع المداخيل، وجعل حصة القطاعات التي تنتج سلعًا غير قابلة للتبادل الدولي تساوي ما يقارب ثلثي الناتج. ولم يتمكن النموذج المذكور من تثبيت الركائز الثلاث التي خطط أن يقوم اقتصاد ما بعد الحرب الأهلية عليها، وهي المال والعقارات والسياحة. ومن مؤشرات الإخفاق الأخرى ارتفاع معدل التبادل الخارجي، وسعر الصرف الحقيقي الفعلي Effective real exchange rate الذي تضاعف مرة واحدة على الأقل منذ ثُبّت النقد عام 1999، كما عادت ظاهرة الركود التضخمي لتطل برأسها من جديد، ولا سيما في السنوات من 2011-2018 حين تجاوز معدل التضخم ضعف معدل النمو الحقيقي على الأقل. ومن أوجه ذلك الفشل أيضًا عجز السلع والخدمات المحلية عن منافسة مثيلاتها المستوردة، وخصوصًا بعد خفض الرسوم الجمركية خفضًا كبيرًا في خريف عام 2000، ما أوقع البلد في فخ الاستيراد المضاعف والاستدانة المفرطة من دون أن تحقق تلك السياسة أهدافها المعلنة المتمثلة أساسًا في تحريك عجلة الاقتصاد. ولا تفوتنا الإشارة في السياق نفسه إلى ركود الدخل الفردي للمقيمين في لبنان تقريبًا، فنما خلال العقود الماضية بأقل من ربع معدل نموه العالمي، فيما لم يتجاوز النمو الاقتصادي في لبنان نصف معدلات الدول الأخرى خلال السنوات العشر الماضية، ما حرك موقع لبنان نزولًا في سلم التنمية.
تضمن النموذج أيضًا سياسات تجارية سعت إلى استئناف لبنان الدور الذي تبناه أواسط القرن الماضي، والقائم على الوساطة بين ضفتي المتوسط الشمالية والشرقية، وهذا لم يعد مفيدًا لأن ثقل التجارة في منطقة البر العالمي، الأوراسية بالخصوص، انتقل نحو الشرق الأقصى، مدفوعًا بخطة الحزام والطريق، المتوقع أن تنفق الصين فيها مئات المليارات من الدولارات على مشاريع وبنى تحتية، بعضها سيمر حتمًا على مقربة من حدودنا. وعلى المستوى الإقليمي تُتداول أفكار بين دول المنطقة بخصوص وصل البنى التحتية المشرقية في مجالات الطرق وسكك الحديد والكهرباء والموانئ وغيرها، لكننا لا نجرؤ حتى على التفكير في إيجاد موطئ قدم لنا فيها.
لقد عقدنا اتفاقيات تجارية أضعفت موقعنا التبادلي الخارجي، ثم أهملنا ما تتيحه لنا من امكانيات واستثناءات. فاتفاقية الشراكة بين لبنان والمجموعة الأوروبية على سبيل المثال، والتي وقّعت عام 2002 وباتت مطبّقة تمامًا عام 2015، مسؤولة أكثر من غيرها عن اتساع العجز التجاري للبنان، كونها تعفي حوالى 45% من مستورداتنا من الرسوم، لكننا نتغاضى عن الاستفادة من البنود التي تسمح للبنان ودول المجموعة الأوروبية باتخاذ اجراءات حمائية وتقييدية لتصحيح عجز حاد في ميزان المدفوعات، وتحفيز أنشطة اقتصادية تخضع لإعادة هيكلة، ومكافحة الإغراق وتطبيق مبدأ المعاملة بالمثل. ويكفي أن نذكر هنا أنّ الدعم الذي يتلقاه المزارعون في أوروبا يساوي ما لا يقل عن ثلث قيمة منتجاتهم، وصولًا إلى النصف في بعض أصناف الانتاج الحيواني.
وبناءً على ما سبق، إنّ ضمان الاستقرار المالي والنقدي واستعادة النمو وتحقيق التنمية تتطلب على المدى الطويل استبدال النموذج الاقتصادي أو إدخال تعديلات جوهرية عليه، وهذا لا يتحقق فورًا، بل يوجب المرور بمرحلة انتقالية تحقق أهدافًا متوسطة المدى، تعيد اقتصادنا على الأقل إلى مساره التاريخي المعتاد، حين كان عجز حسابنا الخارجي معدومًا تقريبًا، وموجودات مصارفنا لا تكاد تزيد على دخلنا القومي، وتساوي حصة قطاعات الانتاج السلعي والخدماتي ثلث الناتج المحلي أي ضعف ما عليه الآن... الخ. وفي جميع الأحوال، يفترض بالمرحلة الانتقالية أن توفر معالجات بنيوية للاختناقات الأساسية في الاقتصاد والمالية العامة وأسواق النقد وفي الحسابات الخارجية، تمهيدًا لتعديل المسارات الأساسية وتعزيز القدرة التنافسية وإطلاق عجلة التنمية.


اجراءات المدى القصير
اي اجراءات ستتحول إلى مجرد إعلانات نوايا (كالتي نراها في رؤية لبنان الاقتصادية/ ماكينزي) ما لم تبدأ بتنفيذ قرارات مباشرة على المدى القصير، تنطلق من السياسات التجارية والإجراءات الجمركية.
في الأدبيات الكلاسيكية يتوسع عجز الميزان الخارجي مع زيادة كلٍّ من عجز الموازنة وفجوة التمويل الاستثماري (المتمثل في الفارق بين تكوين رأس المال الثابت والإدخار). وهذا على صحته يغفل أثر مضاعف الاستثمار ومعجله اللذين يجعلان علاقة الإنفاق بالناتج علاقة ديناميكية غير ساكنة، فبقدر ما تحفز النفقات الحكومية الواردات وتوسع قيمة العجز الخارجي، فإنها من ناحية ثانية تزيد الطلب الداخلي وتزيد حجم الاقتصاد على نحو يخفض عبء الدين.
لكن ذلك لا يحصل في لبنان على النحو المطلوب، فإذا اعتمدنا أرقام 2017 بوصفها مؤشرًا على ما ذكرناه، يتبين الآتي: يزيد تكوين رأس المال الثابت في القطاع الخاص عن مجمل إدخار الأسر بحوالى 9.8 نقاط مئوية من الناتج، وترتفع فجوة التمويل هذه إلى ربع الناتج إذا أخذنا بعين الاعتبار الانفاق والاستثمار الحكوميين. ومن أسباب اتساع هذه الفجوة أن ثلاثة أرباع ما ننفقه على مشترياتنا من السلع يعتمد على الاستيراد. وحتى نستعيد الأثر التحفيزي للانفاق على النمو، لا بد من الاعتماد أكثر فأكثر على الانتاج المحلي أو موازنة الانفاق على السلع الأجنبية بتصدير سلع محلية بالقيم نفسها.
وعلى العموم، إنّ امتصاص الآثار الاقتصادية الضارة لعجزي الميزان المالي والميزان الخارجي وفك الارتباط بينهما، يستوجب ثلاثة أنواع من الإجراءات: الأول: هو خفض عجز الخزينة وتحويله إلى فائض أولي. والثاني: زيادة الإدخار من خلال خفض الانفاق الاستهلاكي و/أو الاستثماري. والثالث هو تقليص عجز الحساب الخارجي بزيادة الصادرات و/أو خفض الواردات. ويفترض بهذه الاجراءات مجتمعة أو متفرقة أن تكون فعالة بما فيه الكفاية لردم فجوة التمويل.
إذا أخذنا بالاعتبار أنّ هدف خفض الاستهلاك متضَمنٌ في إجراءات خفض العجزين المالي والخارجي، واستبعدنا تقليص الاستثمار كون معدلاته منخفضة أصلًا، فإنّ استعادة التوازن الاقتصادي العام لا يعود ممكنًا إلا من خلال: تحويل العجز الأولي في الخزينة إلى فائض لمدة زمنية محددة، وخفض عجز الحساب الجاري تدريجيًا. لكن أقصى ما يمكن تحقيقه في الأفق المنظور وفي إطار نموذج السياسات السائد، هو خفض فجوة التمويل إلى النصف (أي بما يتراوح بين سبعة مليارات وثمانية مليارات دولار أميركي). ويتحقق ذلك من خلال إنقاص عجز الموازنة تدريجيًا بمقدار حوالى ثلاثة مليارات دولار كما هو مخطط له، ليسجل فائضًا أوليًا مقداره نقطتين مئويتين من الناتج، وتقليص عجز ميزان تجارة السلع والخدمات بحوالى عشر نقاط منه، بحيث تتضاعف قيمة الصادرات خلال سنوات قليلة، فيما يمكن تخفيض الواردات فورًا من خلال إجراءات جمركية وبما لا يقل أو يزيد عن 10% منها.
بيد أنّ الإجراءات المتعلقة بالرسوم الجمركية مهما كانت، يجب أن لا تلحق الضرر بقدرة الفئات الشعبية على تلبية حاجاتها الأساسية، وأن لا تتسبب في ارتفاع المعدل العام للأسعار، وأن لا تشمل مدخلات الانتاج المحلي والتجهيزات الرأسمالية الصناعية ولا السلع الحيوية، وأن تعطى الأولوية في رفع الرسوم للسلع التي تقلل الاستيراد من ناحية وتحمي الإنتاج المحلي وتعزز تصديره من ناحية ثانية. وبناءً عليه، يجب أن يشمل رفع الرسوم الجمركية مجموعتين من المنتجات: السلع الكمالية والفاخرة، والسلع غير الضرورية و/أو ذات البدائل المحلية. وتقدر حصة المستوردات المصنفة في هاتين المجموعتين بحوالى 30% من مجموع الواردات.وبالتالي فان إجراءات الحماية ومكافحة الإغراق واعتماد مبدأ المعاملة بالمثل سيساهم في تقليص الواردات بما لا يقل عن ملياري دولار، وفي رفع الصادرات على نحو تدريجي وصولًا إلى مضاعفة قيمتها.
باختصار، إن استعادة التوازن الاقتصادي العام أمرٌ ممكن من خلال القيام بإجراءات متوازية في أربعة مسارات: خفض النفقات الحكومية وزيادة وارداتها وخفض الاستيراد وزيادة التصدير، على أن لا يمس ذلك التوازنات الاجتماعية ولا يؤدي إلى إغراق الاقتصاد في مزيد من الركود. وقد بات معروفًا ما هي بنود الانفاق الحكومي التي لا يلحق خفضها ضررًا بالنمو الاقتصادي ولا بالأوضاع المعيشية للأسر (خدمة الدين العام، الانفاق الزائد على المواد والخدمات الاستهلاكية، عجز الكهرباء...) ويكفي من أجل زيادة الايرادات الحكومية التخلص تدريجيًا، وبالحدود الممكنة، من التهرب الضريبي (المقدر بـ10% من الناتج المحلي تقريبًا). أما مضاعفة قيمة الصادرات فتكون من خلال حزمة من الاجراءات الجريئة تضمّ مزيجًا من الحماية والدعم، المشروطين بتحقيق الوحدات المدعومة أو المحمية أهدافًا معياريّة محددة سلفًا (مثل أن تشكل السلع المصدرة نسبة معينة من انتاجها بعد مدة زمنية محددة)، فيما يعاد النظر في خفوضات عام 2000 الجمركية للحد من الاستيراد.
تبدأ الحلول المستدامة في لبنان بجعل السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية تمضي نحو الأهداف نفسها. فتتكفل معًا بالقيام بالاصلاحات المؤقتة والدائمة، وتتقاسم أعباءها. فإذا كان الهدف في السنوات الثلاث الآتية هو وقف نزف العملات الصعبة لحماية استقرار الاقتصاد وعملته الوطنية، فإن الأدوات النقدية لم تعد قادرة على تحقيق ذلك وحدها، حتى لو وافقنا على تحمل المزيد من الأعباء. فبدلًا من الاكتفاء بتحريك أسعار الفائدة صعودًا لاجتذاب الأموال من الخارج، الأمر الذي ينعكس سلبًا على النشاط الاقتصادي وأوضاع المالية العامة، يمكن الانطلاق من تصحيحات اقتصادية فورية وتدابير مالية تواكبها إجراءات نقدية، والطموح من ذلك هو تحويل الحلقة السلبية التي يدور فيها الاقتصاد (فوائد مرتفعة فركود فتراجع إيرادات الدولة وتضخم نفقاتها فحاجة أكبر إلى الاستدانة...) إلى حلقة إيجابية قائمة على الإنتاج والاستثمار والنمو.

* رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق