يتناول الجزء الأوّل القراءات المُختلفة لدور الدولة كإدارة عامّة في التنمية. والمقصود بالتنمية التحويل الصناعي. ويعرض باقتضاب شديد أفكار أربعة تيّارات، هي: تيّار المؤسّساتية المُقارنة، تيّار النفعيين الجُدُد، تيّار «أنتروبولوجيا الدولة»، ومقاربة المؤسّسات الدولية، وخصوصاً البنك الدولي لهذا الموضوع.
1- تيّار النفعيين الجُدُد
عرض الباحث الكبير بيتر إيفانز مواقف مدرستين أو تيّارين فكريين، هما: تيّار النفعيين الجُدُد وتيّار المؤسّساتية المقارنة في التعاطي مع موضوع الإدارة العامّة والتنمية، وذلك في نصّ مشوّق صدر عام 1995.
وفّر تيّار النفعيين الجُدُد (new utilitarianism) للنيو - ليبرالية الأسس الفكرية التي استندت إليها في اكتِساحها للعالم في الفكر والممارسة. وقد دأب منظّرو هذا التيّار منذ السبعينيات على نقد الدولة بوصفها تجمّعاً للباحثين عن ريوع (rent seeking)، أي باعتبارها مأهولة بأناس يعملون على تحقيق منفعتهم الخاصّة ومنفعة الأطراف من خارج الدولة التي تدعمهم. وقد بلغ نقد هؤلاء للدولة حدّ «شيطنتها». وبات الشائع أن تحجيمها وخفض عديدها ونزع صلاحياتها، أفضل ما تقوم به كلّ بلدان العالم. وأظهر بيتر إيفانز في عرضه لأفكار أعلام هذا التيّار، من كرييجر إلى بوكانان وتوليسون وتيلوك، الطابع الأيديولوجي وغير العلمي لهذه القراءة لطبيعة الدولة. فقد قدّموا نموذجاً للدولة، مصرّين على أنه قائم في كلّ زمان ومكان. وهذا غير مقبول. ورأى إيفانز أن دولة مأهولة بالباحثين عن ريوع لا تستطيع التنكّب للمهمّات التي وضعها النفعيون الجُدُد أنفسهم على عاتقها، ومنها حفظ النظام وفرض تطبيق القانون في التعاملات الاقتصادية الاعتيادية.

2- تيّار المؤسّساتية المُقارنة
أمّا تيّار المؤسّساتية المُقارنة، الذي يُمكن اعتبار ماكس فيبر أحد أعلامه، مروراً بكارل بولانيي وألكسندر غرشنكرون وألبرت أوتو هيرشمان، فهو على نقيض الأوّل، لا يرى إمكان تحقيق التنمية و«التصنيع المُتأخّر» إلّا إذا كان للدولة دور في ذلك. وهو دور لا أحد يستطيع أن يحلّ محلّها فيه. وفي قراءة إيفانز لأفكار أعلام هذا التيّار، بيّن مساهمة كلّ منهم في تفسير الدور الذي قامت به الدولة لتسهيل النمو الرأسمالي. أظهر بولانيي دور السياسات التي اعتمدتها الدولة في الغرب والتي لم يكن مُمكناً من دونها أن تتوسّع علاقات السوق. وأظهر ماكس فيبر دور البنى المؤسّسية المُمثّلة بالإدارة العامّة في خلق الشروط التي أتاحت النموّ الرأسمالي. أما غرشنكرون وهيرشمان، فقد تناولا علاقة الدولة مع النخب الاستثمارية التي اختصرها إيفانز بمفهوم «علاقة الدولة مع المجتمع» (state-society relation). وقد وجد إيفانز أن أفضل تعريف لدور الدولة لدى المؤسّساتيين هو الذي اختصره هيرشمان بتعبير «تعظيم الدولة لقدرة النخب الاستثمارية على اتخاذ القرار الاستثماري». ورأى إيفانز أن نجاح التنمية، كما أثبتت تجارب القرنين التاسع عشر والعشرين، مرهون بهذه العلاقة بالذات التي تنسجها الدولة مع النخب الاستثمارية.
فلاديمير خاخانوف روسيا

وقد بيّن إيفانز، وغيره من الباحثين المختصّين بالدولة التنموية في شمال شرق آسيا، دور السياسات المُعتمدة من قِبلها والبنى الإدارية التي توفّرت عليها وعلاقة الدولة بالنخب الاستثمارية التي تميّزت بها، في إنجاح تجربة التصنيع المُتأخّر أو التحويل الصناعي فيها. وبيّنوا وجود إدارة عامّة أو بيروقراطية حكومية فعّالة على نقيض الصورة التي رسمها لها النفعيون الجُدُد. وهي إدارة عامّة بقيت مُستقلّة عن النُّخب الاستثمارية التي أسهمت هي نفسها في خلقها، وتمكَّن أفرادها من إعطاء الأولوية للأهداف العامّة المرسومة وتصدّوا لمحاولات رشوتهم وامتنعوا عن التفتيش عن منافع خاصّة.

3- تيّار «أنتروبولوجيا الدولة»
عام 2001، نشر الباحث الأنتروبولوجي الفرنسي كوبانز مقالة تحت عنوان «أفريقيا السوداء: دولة من دون موظّفين؟». قصد بذلك أنه لا يمكن الاستمرار بدراسة دولة في العالم الثالث من دون دراسة موظّفيها والعاملين فيها. أشار كوبانز إلى وجود نقص فادح في دراسة «الدولة وهي تعمل» («state at work») في دول العالم الثالث. وهو وضع يتعارض مع ما أوضح الباحثان أوليفييه دو ساردان وبيارشنك في تقديمهما لمجموعة من الدراسات حول «الدولة وهي تعمل»، صدرت عام 2014 المقاربة الأنكلو - ساكسونية للدولة التي تراها شرّاً لا بدّ منه. وقد طبع عداء هذه المقاربة للدولة تصوّر المؤسّسات الدولية لسياسات التنمية التي جسّدها «توافق واشنطن». وهو التصوّر الذي مثّلت مقولة «دولة الحدّ الأدنى» عنصراً رئيسياً فيه.
بيّن الباحثان أن مقاربة البرّ الأوروبي لمسألة الدولة كانت على الدوام أكثر اقتناعاً بالدولة وضرورتها وأكثر إيجابية في التعاطي مع موضوعها. وقد كان للمفكّرين الألمان قصب السبق في تناول هذا الموضوع، بدءاً من هيغل، مروراً بفون ستاين وماكس فيبر. كان هيغل الأكثر تقريظاً لفكرة الدولة ومنافحة عن دورها، من دون أن يهتمّ بالتعرّف إلى كيفية ممارستها لهذا الدور على الأرض. وقدّم فون ستاين في أواخر القرن التاسع عشر مقاربة لموضوع الدولة، قامت على دراسة هذه الأخيرة وهي تعمل، من خلال دراسة مكوّناتها والعاملين فيها. بدت مقاربته كأنها ردّ على المقاربة الهيغلية لموضوع الدولة التي اكتفت بالمنافحة عنها كفكرة مُجرّدة. وسيوفر ماكس فيبر الدراسة الأوفى للدولة بوصفها بيروقراطية، عارضاً الخصائص والمواصفات لما يُفترض أنه النموذج الأمثل (ideal type) للإدارة الحكومية، كما هي قائمة في الغرب.
ورأى الباحثان أوليفييه دو ساردان وبيارشنك وجوب اعتماد مفاهيم واحدة في دراسة إدارات الدول النامية والغربية، والابتعاد عن التفاسير «الثقافوية» من نوع «نظرة الأفارقة للعالم» أو مفهوم «الدولة المستوردة» كما عند برتران بادي. وعندهما أن المفاهيم الموحّدة ستتيح المقارنة وستُظهر أن الانتفاع الفردي والروابط الشخصية وإهمال النصوص الرسمية في الواقع اليومي للإدارة، أمور متفشية إلى أقصى حدّ في الدول النامية، لكننا يمكن أن نقع عليها، وإن مُغفلة أو مُموّهة، في الإدارات الحكومية الغربية.

4- مقاربة المؤسّسات الدولية
بدأ الباحثون الغربيون النيو - كلاسيكيون نقد تجربة الحمائية أو تجربة «استبدال الواردات» في دول العالم الثالث منذ أواخر الستينيات. سيتطوّر هذا النقد ويتحوّل إلى برنامج نيو - ليبرالي للتنمية جرى تسويقه وفرضه منذ مطلع الثمانينيات واختُصِر لاحقاً تحت اسم «توافق واشنطن». اتخذ الباحثون من تجرِبتَي كوريا الجنوبية وتايوان في اعتماد استراتيجية تنمية تقوم على «التوجّه نحو الخارج» والتصدير إلى الأسواق الدولية نموذجاً اقترحوه على كلّ دول العالم الثالث.
أ - «تشوّهات الأسعار» كحجر الزاوية في نقد دور الدولة في التنمية
يقول هنري بريتون إن الباحثين النيوكلاسيكيين في اعتمادهم نموذجَي كوريا الجنوبية وتايوان كمثالين ينبغي أن تحتذي بهما كلّ دول العالم الثالث، لم يهتمّوا إلّا بموضوع تشوّهات الأسعار (distorsions) التي عمل هذان البلدان برأيهم على إزالتها، مقدمةً لاعتماد سياسة «توجّه نحو الخارج» (outward orientation) والانفتاح على التصدير إلى الأسواق الدولية. مثّل موضوع تشوّهات الأسعار الناجمة عن تدخّل الدولة في الاقتصاد حجر الزاوية في النقاش النظري بشأن دور الدولة على مدى عقدَي السبعينيات والثمانينيات. وباختصار شديد، إذا فرضت الدولة رسوماً جمركية لحماية قطاع معيّن، فسيرتفع السعر المحلّي للمُنتج ويصبح أعلى من الأسعار الدولية، ويشجّع منتجين غير فعّالين، أي لا يملكون «ميزات تنافسية» للدخول إلى هذا القطاع. وتكون الدولة في هذه الحالة في وضع التسبّب بسوء تخصيص الموارد والتأسيس لاقتصاد لا يملك «ميزات تنافسية» ولا يستطيع التصدير. أتاح استخدام مفهوم «تشوّهات الأسعار» نزع الشرعية عن تدخّلات الدولة برمّتها.
ب - الحلّ بـ«جعل الأسعار حقيقية»
سيختصر البنك الدولي موقفه المعادي للدولة وتدخّلاتها، إن لفرض رسوم جمركية أو لإنشاء احتكارات حكومية أو لفرض أسعار إدارية... إلخ، باعتماد شعار «جعل الأسعار حقيقية» («Getting Relative Price Right»). وهو عنى في التطبيق كفّ يد الدولة عن التدخّل بواسطة الأسعار لدعم أي قطاع من القطاعات الإنتاجية. وسيتعاون في ذلك مع صندوق النقد الدولي الذي سيؤدّي على هذا الصعيد الدور الأهمّ خلال الثمانينيات من خلال نموذج الإصلاح الذي فرضه تحت مسمّى «سياسات التصحيح الهيكلي». وقد تبنّت برنامج الإصلاح هذا، برضاها أو غصباً عنها، نحو 120 دولة. عملت هذه السياسات على إزالة «تشوّهات الأسعار»، أي قامت على خفض سعر صرف العملة وخفض أو إزالة الرسوم الجمركية على الاستيراد وإحلال أسعار السوق محل الأسعار الإدارية التي كانت تحدّدها الدولة في قطاعات عدّة كالزراعة والطاقة والنقل، إلخ. وتولّى البنك الدولي الإشراف على الشقّ المُتعلّق بخفض عديد الإدارات العامّة والمؤسّسات الحكومية وخصخصة هذه الأخيرة.
ج - نقد «البيروقراطيات المُتضخّمة» عند البنك الدولي وبرامج خفض عديد الإدارات العامّة
كان تقرير البنك الدولي المُسمّى تقرير برغ Berg، الصادر عام 1981 عن إفريقيا، باكورة التقارير التي تنتقد دور الدولة كإدارة عامّة وكمالك لوسائل الإنتاج. رأى أن من غير المقبول أن تزداد على مدى السنوات العشرين السابقة حصّة القطاع العام في القوى العاملة الوطنية بوتيرة أسرع من زيادة الدخل الوطني، وأن تدخل الدولة كمُستثمر في القطاعات الإنتاجية الرئيسية. يؤشّر هذا التقرير بالنسبة إلى الباحثين أوليفييه دو ساردان وبيارشنك على اكتمال الأجندة النيو - ليبرالية الأولى لإصلاح الإدارة العامّة. ويمكن اعتماد تقارير البنك الدولي لأعوام 1981 و1983 و1987 و1993 لرصد الحرب الشعواء التي شنّها البنك على الدولة بوصفها كناية عن «بيروقراطية متضخّمة» (bloated bureaucracy).
يمكن وضع إصلاح الإدارة العامّة الذي أشرف عليه البنك الدولي وموّله بالقروض والهبات، تحت عنوانين: خفض عديد الإدارة العامّة (downsizing)، واعتماد المقاربة تحت عنوان «الإدارة الحكومية الجديدة» (new public management)، التي تختصرها فكرة التعاقد الوظيفي. تولّى البنك الدولي تمويل 40 برنامجاً لخفض عديد القطاع العام والإدارة العامّة بين عامَي 1991 و1993. وموّل برامج لخفض هذا العديد في 68 بلداً بين عامَي 1987 و1996. ثمّ بدأ بعد ذلك التاريخ يوفّر قروضاً للبلدان التي تطبق برامج خفض لأعداد العاملين في القطاع العام بواسطة التعويضات الموفّرة لمن يغادرون هذا القطاع (severance pay).

* أستاذ في كلية العلوم الاقتصادية وإدارة الأعمال - الجامعة اللبنانية


المراجع
ألبر داغر، «الإدارة الحكومية كشرط للتنمية»، الأخبار، 28/ 12/ 2016، أعيد نشرها في مجلة «الإدارة اليوم»، الصادرة عن الجامعة العربية – المنظمة العربية للتنمية الإدارية، العدد الأول، 22 شباط/فبراير، 2017.

Bierschenk Thomas and Jean-Pierre Olivier de Sardan, “Ethnographies of Public Services in Africa: An Emerging Research Paradigm”, in Thomas Bierschenk and Jean-Pierre Olivier de Sardan (eds.), States at work. Dynamics of African Bureaucracies, Brill, Leiden, 2014, pp. 35-65, 51.

Bierschenk Thomas and Jean-Pierre Olivier de Sardan, "Studying the Dynamics of African Bureaucracies: An Introduction to States at Work", in Thomas Bierschenk and Jean-Pierre Olivier de Sardan (eds.), States at work. Dynamics of African Bureaucracies, Brill, Leiden, 2014, pp. 1-33.

Bruton Henry, “ A Reconsideration of Import Substitution”, in Journal of Economic Literature, vol. 35, June 1998, pp. 903-936.

Copans Jean, “Afrique noire: un Etat sans fonctionnaires ?”, in Autrepart, (20), 2001, pp. 11-26.

Evans Peter, "A comparative Institutional Approach", in P. Evans, Embedded Autonomy: States and Industrial Transformation, Princeton Univ. Press, 1995, pp. 21-42.

l’Hériteau Marie-France, “ Le Modèle de politique économique du FMI”, in l’Hériteau, Le Fonds Monétaire International et les pays du Tiers Monde, Paris, PUF, 1990, pp. 121-164.

Martín Rama, “Public Sector Downsizing: An Introduction”, The Wold Bank Economic Review, 1999, VOL. 13, NO. 1: 1–22, p. 3.

McCourt W., “Public Management in Developing Countries: From downsizing to governance”, Public Management Review 10 (4), 2008, pp. 467–479, p. 468.

World Bank, Accelerated Development in Sub Saharan Africa: An Agenda for Action, Washington, World Bank, 1981.