في 23 كانون الثاني/يناير 2019، أعلن رئيس البرلمان الفنزويلي وزعيم المعارضة، خوان غوايدو، تعديل المادّة 233 من الدستور ليُنصّب نفسه رئيساً مؤقتاً للبلاد بوجه الرئيس الحالي نيكولاس مادورو. فأُدخلت البلاد في سلسلة أحداث اقتصادية وجيوسياسية لم تظهر بوادر حلحلتها بعد، وأدّت إلى نزوح نحو 3 ملايين مواطن إلى الدول المجاورة. في 28 من الشهر نفسه، أعلن وزير الخزانة الأميركية فرض عقوبات على شركة النفط الوطنية الفنزويلية (PdVSA)، لتبدأ مرحلة جديدة من حظر النفط الفنزويلي عن الدول المجاورة، وتؤسّس لتحكّم الولايات المتحدة الأميركية بنفط أميركا اللاتينية.
لمحة تاريخية
تُعدّ فنزويلا صاحبة أكبر مخزون نفطي في العالم، يُقدّر بنحو 302 مليار برميل (تأتي بعدها السعودية بنحو 266 مليار برميل)، وهي عضو مؤسّس في منظّمة الدول المصدّرة للنفط OPEC ومُنتجة للنفط منذ عام 1914.
وفرة النفط في مرحلة 1980 وما بعدها، أدّت إلى أزمة ديون خارجية وأزمة اقتصادية مستمرّة منذ عقود. لقد عرفت البلاد عام 1999، قبل تولّي هوغو شافيز الرئاسة، ذروة إنتاجها من الخام، والتي بلغت 3.4 مليون برميل يومياً، لتبدأ بعدها مرحلة الهبوط الحادّ. بين عامي 2015 و2018، انخفض الإنتاج نحو مليون برميل ما فاقم ظواهر الأزمة الحادّة على الاقتصاد، والتي تجلّت بنقص السلع وتردّي الخدمات، ووصول التضخّم إلى حدود مليون في المئة في 2018! عملياً، انعكس ذلك سلباً على PdVSA وتُرجِم بالفساد داخلها، وسوء الإدارة، وعدم القدرة على إدارة المرافق النفطية وتأمين المعدّات وصيانتها، فضلاً عن هجرة اليد العاملة الخبيرة.
في حزيران/ يونيو 2018، بلغ إنتاج فنزويلا 1.34 مليون برميل يومياً، أي أقلّ بنسبة 30% من الإنتاج المسجّل في حزيران/ يونيو 2017، وفي الفترة نفسها، انخفضت الصادرات إلى الولايات المتّحدة الأميركية (المستهلِك الأكبر) نحو 30%.

تداعيات العقوبات والأزمة مع الولايات المتّحدة
منذ بدء الأزمة وفرض العقوبات، أصبحت PdVSA تحت سلطة الجيش الذي لا يزال بإمرة مادورو، وأُقفلت محطّات التكرير الأميركية بوجه النفط الفنزويلي، فتحوّل التركيز نحو إيجاد أسواق بديلة عن الولايات المتحدة الأميركية والدول المُعترفة بغوايدو، من أجل تأمين العائدات المالية الضرورية.
تشكّل الصّادرات النفطية نحو 95% من مجمل صادرات فنزويلا، والنسبة الأكبر منها، أي 75%، موجّهة نحو المستهلكين الثلاثة الكبار: الولايات المتحدة والصين والهند.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

لطالما عُرف نفط فنزويلا بتركيز مرتفع من الكبريت، وهو أقلّ جودة من الخام السعودي، كما أن كلفة استخراجه وتكريره أعلى، ولا بدّ من استخدام كمّيات كبيرة من المخفّفات (Diluents) لتخفيف القسم الأكبر منه قبل نقله. عام 2018، استوردت فنزويلا ما يقارب 120 ألف برميل من هذه المخفّفات من الولايات المتّحدة الأميركية، الأمر الذي لم يعد ممكناً راهناً، ما دفع كاركاس إلى البحث عن منافذ أخرى للاستيراد، وهي غير كافية، من الهند والصين، وسيتطلّب ذلك على الأرجح تقديم حسومات كبيرة على أسعار البيع، وسيزيد من تكاليف النقل ومن مصاعب نظام مادورو لتسديد الديون. ويُتوقّع أن ينعكس ذلك انخفاضاً إضافياً في إنتاج الخام الفنزويلي بنحو 200 ألف برميل يومياً. إذاً، تسعى PdVSA إلى تنويع أسواقها النفطية، وتظهر الهند في طليعة المستعدّين لمضاعفة الكمّيات المستوردة التي يُتوقّع أن تصل إلى 360 ألف برميل يومياً، تتبعها الصين التي يمكنها امتصاص كمّيات إضافية.

الاستحقاقات المقبلة
من ناحية أخرى، تأتي العقوبات في وقتٍ تعاني فيه الأسواق العالمية من فائض في الإنتاج، في مقابل طلب غير مُنتظم، وهو ما يُفسّر عدم تأثّر أسعار النفط بشكل كبير خلال شهر شباط/ فبراير وارتفاعها نحو دولارين فقط منذ بداية الأزمة. إلّا أن استحقاقات مهمّة عدّة ستتوالى في الأشهر القليلة المقبلة لتزيد من التشنّج السياسي، فماذا سيكون قرار OPEC خلال الاجتماع المُزمع عقده في 17 نيسان/أبريل بما يخصّ فنزويلا التي ستُعزل صادراتها كليّاً نهاية الشهر نفسه بسبب العقوبات؟ وماذا بالنسبة إلى الموقف الأميركي الصارم بإنهاء الامتيازات المُعطاة لبعض الدول المستوردة للنفط الإيراني، والتي تنتهي في 3 أيّار/ مايو؟ هل ستتحمّل الأسواق خسارة الكمّيات المُنتجة من إيران وفنزويلا في الوقت نفسه؟ وكيف ستتأثّر الأسعار حينها نتيجة ذلك؟
في الواقع، تعوّل إدارة ترامب على دور المملكة العربية السعودية، وتتوقّع أن تعوّض عن العجز عبر ضخّ كمّيات إضافية في الأسواق، وهو ما صرّح به علناً وزير الخزانة الأميركية مُرجّحاً حصوله.
يمكن الجزم أن فنزويلا تمرّ حالياً بعملية انتقالية، على الصعد السياسية والاقتصادية والطاقوية، سترسم معالم المرحلة المقبلة. يمكن اعتبار الخسائر الحالية في قطاع النفط كإحدى الفواتير الباهظة التي سبّبتها الأزمة، ولكن لا يمكن أبداً لهذا القطاع أن يستمرّ على ما هو عليه، فقد أثبتت التجربة اعتماد الاقتصاد برمّته على صادرات النفط ومشتقّاته. وهنا تبرز الأسئلة: كم سيستغرق وقتاً لأي حكومة مقبلة بعد الأزمة، وأياً كانت موازين القوى المحلّية والدولية، لإعادة بناء قطاع نفط سليم وشركة وطنية مزدهرة ومتطوّرة؟ وما هي قدرة هذه الحكومة على مواجهة التحدّيات الاقتصادية الجمّة في ظلّ المعادلات القائمة؟ وهل يمكن لفنزويلا أن تستعيد دورها المحوري في OPEC كما في أميركا اللاتينية، أم أن هذا الدور انتهى لصالح القوى الكبرى؟

* باحث في مجال الطاقة - معهد عصام فارس في الجامعة الأميركية في بيروت