يمكن لمفهوم الدولة الاجتماعية البيئية أن يُلهم سياسة اجتماعية جديدة لمعالجة الأزمة المزدوجة لانعدام العدالة والتدهور البيئي.تُعتبر ثورة «السترات الصفراء» الأزمة الاجتماعية البيئية الأولى في فرنسا المعاصرة، والأولى من نوعها في فرنسا. وتمثّلت شرارة الاحتجاجات بالمسألة الكبرى - التي طالت كثيراً في بلد المساواة الجمهورية العريقة - المُتمثّلة في الوقود الأحفوري الذي يحجز ملايين العمّال يومياً.
ستتبع هذه الأزمة، أزمات كثيرة أخرى أو قد تبعتها بالفعل، بعضها متوهّجة وأخرى ملحّة. فجميع التحدّيات البيئية هي مشاكل اجتماعية، إذ إن البيئة تمثّل اليوم النطاق الجديد لانعدام المساواة. وأوجه انعدام المساواة البيئية قد تتراجع أو تنفجر في وجه السياسيين كالقنابل الاجتماعية. ولكنّها لن تختفي بسحر ساحر.
أزمة اجتماعية بيئية ملحّة؟ نعم. فغياب العدالة الغذائية، مضافاً إلى عدم القدرة على شراء الوقود، هما الصرخة التي لاقت صدى في الطرقات مع أصحاب «السترات الصفراء». فثمة مسألتان يعاني منهما الملايين في فرنسا اليوم: الوصول إلى الغذاء (حصّة المدخول من موازنة الغذاء للـ10% الأكثر فقراً تبلغ ضعفها لدى الأكثر ثراءً، بينما ينعدم الأمن الغذائي لدى 12% من البالغين)، والوصول إلى التغذية الجيّدة (الفرق في نوعية التغذية للفئات الاجتماعية المختلفة لا يكمن في الطاقة المُخزّنة بل في جودة الغذاء). وفي كل مرحلة من مراحل الحياة، يساهم الغذاء في انعدام المساواة في المجال الصحّي: خلال الحمل والرضاعة الطبيعية وتغذية الأطفال والبالغين. فنحن نأكل كما نكون ونعيش ونموت كما نأكل.
(نيمو ــ كندا)

لنأخذ أيضاً انتفاء العدالة الصحّية الذي يطال الأطفال في المناطق الحضرية الملوّثة بالجسيميّات. فالتعرّض المطوّل لـ10 ميكروغرامات في المتر المكعب (الأصغر وبالتالي الأخطر) يعني خسارة سنة من معدّل الحياة المتوقّع. فالبيئة هي الصحّة.
أزمة اجتماعية بيئية؟ بالطبع. فثمة ظلم في المصير، في تأثير موجات الحرّ المرتبطة بالتغيّر المناخي. التجربة المأساوية لموجة الحرّ لعام 2003 (70 ألف وفاة في أوروبا) ستعيد نفسها. وفي فرنسا وحدها التي تملك واحداً من أفضل أنظمة الرعاية الصحّية في العالم، توفي 15 ألف شخص خلال موجة الحرّ، وكان 90% من الضحايا ما فوق 65 عاماً، ولعبت العزلة الاجتماعية دور عامل الخطورة الرئيسي. فتقاطع خريطتي العزلة الاجتماعية لكبار السنّ وخطر موجات الحرّ، يوفّر لنا مؤشّراً اجتماعياً بيئياً للهشاشة المناخية للمناطق الأوروبية. فموجات الحرّ تقوم بدور كاشف العزلة الاجتماعية.
يبرز الظلم الاجتماعي أيضاً في أثر ما يسمّى «الكوارث الطبيعية» التي تتزايد في أوروبا كما في أنحاء أخرى من العالم. ومن أصل 158 مليار دولار هي كلفة الكوارث في العالم وفق مجموعة «سويس ري» لإعادة التأمين لعام 2016 (مقارنة بـ94 مليار دولار عام 2015)، فإن أقل من الثلث تغطيه شركات التأمين. لذلك فإن التغيّر المناخي يقود إلى التململ الاجتماعي.
والقائمة مستمرّة، من الوصول إلى المياه إلى التعرّض للضجيج، ومن «السرطانات البيئية» إلى المساواة في الحصول على نظافة الشوارع. وفي مواجهة هذه الأزمات الاجتماعية البيئية، يُطرح السؤال نفسه: هل نحن مستعدّون؟ من الواضح أن الجواب هو لا. ولكن ماذا يمكننا أن نفعل حيال ذلك؟ الجواب هو: كل شيء.

دولة اجتماعية بيئية
بشكل أدقّ، يمكن أن نفعل ما كنا نفعله بنجاح في أوروبا خلال عقد؛ بناء مؤسّسات جماعية قادرة على تشارك المخاطر من أجل تقليص الظلم. ويمكننا بناء دولة اجتماعية بيئية مناسبة للقرن الـ21 حيث أزمة الظلم والأزمة البيئية متراكبتان وتعزّزان بعضهما بعضاً.
لا شكّ أنّ الخطر البيئي خطر جماعي وعالمي، ولكنّه أيضاً تمييزي على الجانب الاجتماعي. من المسؤول عن ماذا؟ وما هي التداعيات؟ وعلى من تقع؟ هذا هو السؤال الأساسي للمقاربة الاجتماعية البيئية وهو يدعو إلى تبنّي سياسة اجتماعية بيئية.
ممّ تتألف هذه الدولة الاجتماعية البيئية؟ أولاً تنظّم هذه الدولة الانتقال الاجتماعي البيئي للردّ على التغيّر المناخي عبر التقدّم الاجتماعي. وهي مموّلة بالضرائب البيئية العادلة التي تضيء على الكلفة الاجتماعية الكبيرة الخفية للأزمات البيئية. وفي الوقت نفسه تقلّص المظالم الاجتماعية. ولا يوجد شيء لا مفرّ منه حيال الظلم الاجتماعي للضرائب البيئية: ضريبة الكربون الفرنسية لعام 2009 أعادت توزيع الأموال على 30% من الأكثر فقراً في فرنسا (الذين يسمّون اليوم أصحاب السترات الصفراء) على أساس المدخول والموقع المكاني، بينما أنظمة الضرائب البيئية الأكثر فعالية على وجه الأرض (لا سيّما في بلدان الشمال) كلّها بنيت على مبدأ التعويض الاجتماعي.
ولكن ضريبة الكربون التي ألغتها حكومة ماكرون - فيليب بضغط من الاضطرابات الاجتماعية، أُدرجت سراً في النظام الفرنسي وفُرضت بغض النظر عن أي معيار اجتماعي. ومن خلال إلغاء هذه الضريبة بشكل متسرّع، بدلاً من التفكير ملياً ومطوّلاً بالتعويض الاجتماعي، فعلت الحكومة عكس ما يجب عليها فعله: ليس علينا لعب الورقة الاجتماعية ضد الورقة البيئية بأسلوب يتّسم بقصر نظر بل من خلال عمل متأنٍّ لإدراج الاثنتين على المدى الطويل.
ويتطلّب تطوير سياسة اجتماعية بيئية، تحديداً وتحليلاً مسبقين للطابع الموازي والمعقّد أحياناً، للأبعاد الاجتماعية والبيئية: ثمّة حاجة لإعادة تنظيم الرهانات البيئية ضمن المسائل الاجتماعية فضلاً عن الكشف عن الرهانات الاجتماعية للمشاكل البيئية. فالكثير، إن لم يكن جميع المقايضات الاجتماعية البيئية، يمكنها أن تتحوّل إلى تآزر اجتماعي بيئي: عدم القدرة على شراء الوقود المُرتبط بالتدفئة المنزلية ينتج عن الفقر المالي والإفراط في استهلاك الطاقة. ولكن العزل الحراري للمنازل يتيح تقليص استهلاك الطاقة، ويخفّض بالتالي انبعاثات الغازات الدفيئة ويقود إلى تحسّن في البيئة، وهو ما يُترجم بانخفاض الإنفاق على الطاقة من الأسر غير القادرة على شراء الوقود ويتيح أيضاً تقدّماً اجتماعياً.
تضمن الدولة الاجتماعية البيئية أيضاً الحماية الاجتماعية البيئية للفئات الأكثر هشاشة (فئات اجتماعية فضلاً عن مناطق تواجه خطراً مناخياً). وهي تنظّم تطوير الوظائف في مرحلة انتقال الطاقة. وتعيد رسم المساحات الحضرية لجعلها مستدامة، وتضع تصوّراً لتعاونها البيئي مع المناطق الريفية (مقابل الطاقة والغذاء). يجب أن تُفهم «الدولة» بمعنى شامل: فالانتقال الاجتماعي البيئي متعدّد المراكز أي أنّ كل منطقة وكل وسط اجتماعي يمكنه ويجب أن يشارك.
وأخيراً، تهدف الدولة الاجتماعية البيئية إلى تحقيق الرفاهية الإنسانية - وليس النموّ أو الانضباط المالي - بدءاً من الصحّة. وهي تعتمد على حقيقة بسيطة ولكن صعبة: أن المجتمعات ستكون أكثر عدالة إن كانت أكثر استدامة وستكون أكثر استدامة إذا كانت أكثر عدالة. بعبارة أخرى، من المنطقي بيئياً أن نخفّف الأزمة الاجتماعية ومن المنطقي اجتماعياً أن نخفّف الأزمات البيئية.

«اتفاق بيئي جديد» في الولايات المتّحدة
طُرحت فكرة الاتفاق البيئي الجديد من جديد في الولايات المتّحدة، بضغط من الجيل الجديد الطموح من السياسيين المعارضين للرأسمالية والمناصرين للبيئة، الذين يفهمون الأزمات الاجتماعية البيئية التي نواجهها وليسوا خائفين من فرض ضرائب على النافذين لحماية الفئات الضعيفة. وفي حين كانت أوروبا سبّاقة في الاتفاق الأصلي بنحو نصف قرن إلّا أنها متأخّرة في هذا الأفق الجديد.
ولكن لدى الدولة الاجتماعية البيئية النفوذ والسلطة لإعادة اختراع التقدّم الاجتماعي في مواجهة الأزمة البيئية غير المُتكافئة اجتماعياً، تماماً كما أعيد اختراع الدولة حين ولدت دولة الرفاه وتمّ بناؤها والدفاع عنها. وتلك الثورة بدأت في أوروبا ويجب أن يتبعها انتقال اجتماعي بيئي أيضاً.

Social Europe *
* ترجمة: لمياء الساحلي

* إيلوا لوران هو باحث زميل في مركز العلوم السياسية للأبحاث الاقتصادية - باريس، وأستاذ في كلية الإدارة والابتكار في جامعة العلوم السياسية، وأستاذ زائر في جامعة ستانفورد. وهو مؤلّف لقسم بعنوان «نحو تحقيق الرفاه في أوروبا» (Toward a Well-Being Europe) في تقرير حول حالة الاتحاد الأوروبي و«الانتقال نحو الرفاه: قياس المهم لحماية ما يهم» (The Well-being Transition: Measuring what counts to protect what matters).