قبل أن يطوي عام 2018 أيّامه الأخيرة، برز تصريح رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري، على هامش مشاركته في منتدى الأعمال العالمي بنسخته الخامسة في بيروت، معلناً عن نيّة الحكومة المقبلة خفض الدعم عن الطاقة الكهربائية في عام 2019 بقيمة 600 مليون دولار، بما يوشّر إلى زيادة التعرفة الكهربائية كأحد الحلول العملية المطروحة لخفض عجز الموازنة والتقيّد بتعهّدات «سيدر» والحؤول دون زيادة ضرائب جديدة ومباشرة على المواطنين.لكن قبل الغوص في التفاصيل، لا بدّ من الإشارة إلى أمرين أساسيين يشكّلان مدخلاً ومنطلقاً لأي مقاربة مُحتملة لرفع الدعم:
أوّلاً، التأكيد والجزم أن الكهرباء تشكّل خدمة أساسية تقدّمها الدّولة للمواطنين والمقيمين على أراضيها، على الأقلّ في البلدان التي تعتمد على أسواق غير مُتحرّرة للكهرباء.
ثانياً، الحاجة إلى إعادة النظر بتعرفة فاتورة الكهرباء وتصحيحها، فكلفة الإنتاج والنقل والتوزيع اليوم هي أعلى من كلفة مبيع الكيلوواط/ساعة من قبل كهرباء لبنان ما يرتّب على الخزينة سنويّاً أعباء مالية ضخمة وغير محمولة أصبحت تُعرف بـ«الدعم» أو «السعر المدعوم للكهرباء».

واقعٌ مؤلم
يبلغ متوسّط تسعيرة كهرباء لبنان نحو 9 سنتات لكل كيلوواط/ساعة مستهلك على الشبكة فيما يبلغ متوسّط سعر الإنتاج في المعامل المُشغّلة حالياً (باستثناء البواخر) نحو 14 سنتاً للكيلوواط/ساعة، ويصل في بعض المعامل القديمة إلى 17 و20 سنتاً نظراً لكلفة التّشغيل الباهظة فيها.
نتج من ذلك عبر السنوات دعماً حكومياً للقطاع، بلغ ما بين 1.5 و2 مليار دولار أميركي سنوياً، وفق تقلّبات أسعار النفط، وراكم نحو 20 مليار دولار من إنفاق المال العام بين عامي 1993 و2017. خلال العام المنصرم مثلاً، ساهمت أسعار النفط المنخفضة نسبياً إلى رسو هذا الدعم على 1.4 مليار دولار (مقابل 150 مليون دولار عام 1996)، وعلى رغم ذلك لم تكفِ الأموال المرصودة من ضمن الموازنة لتغطية النفقات فاضطرت الحكومة إلى طلب اعتمادات إضافية بين أيلول/ سبتمبر وكانون الأول/ ديسمبر الماضيين، وهو رقم يشكّل نحو 40% من عجز الموازنة السنوي البالغ 4.5 مليار دولار خلال 2018. أضف إلى ذلك، يشكّل إنتاج الطاقة الكهربائية 50% من مجمل استهلاك الواردات النفطية الباهظة نسبيّاً.
وعلى رغم هذا الكمّ الهائل من الإنفاق، لا يزال اللبنانيون يعانون من تقنين مكثّف للتيار الكهربائي ويغطّون 40% من الطلب عبر المولّدات الخاصّة الملوّثة المنتشرة في الأحياء والعاملة على الديزل.

بين «سيدر» والأثر الاجتماعي لرفع الدعم
تعهّدت الحكومة اللبنانية على طاولة مؤتمر «سيدر» في نيسان/ أبريل 2018 بخفض العجز بنسبة 5% من الناتج المحلّي خلال 5 سنوات، أي ما يعادل 1% سنوياً حتى 2023 (نحو 3 مليار دولار). ويأتي الحديث عن رفع الدعم عن الكهرباء بقيمة 600 مليون دولار ضمن هذا السياق.
وهنا تبرز الإشكالية: كيف ستتمّكن الحكومة من إزالة هذا الدعم؟ وعلى ماذا استُند لتحديد هذا المبلغ. بما معناه، الـ600 مليون هو مقارنة لأي فترة زمنية من فترات الدعم التاريخية؟
عملياً، لا يمكن أن يُترجم هذا الهدف إلا بطريقة من اثنتين: رفع تعرفة أسعار الكهرباء (أي سعر الكيلوواط/ساعة)، أو خفض استيراد الفيول أويل المُخصّص لمعامل إنتاج الكهرباء، وبالتالي خفض الفاتورة النفطية وزيادة ساعات التقنين، وهو ما قد يفسّر المسارعة إلى تركيب عدّادات لمولّدات الأحياء خلال صيف وخريف 2018 كعملية استباقية تقونن هذا القطاع وتخفّض فاتورته على المواطنين.

وفي ظل التعثّر السياسي القائم في البلاد منذ الانتخابات النيابية والتعثّر في تشكيل الحكومة، تُطرح علامات استفهام عدّة؛ أولاً حول مدى التزام الدولة بمقرّرات «سيدر»، وثانياً حول كيفية خفض 1% من العجز في 2019. فتأتي مسألة رفع الدّعم عن الكهرباء كأحد الحلول السريعة والسّهلة، بالإضافة إلى ما يُحكى عن إعادة النظر في جزء من سلسلة الرتب والرواتب وخفض أجور موظّفي القطاع العام، فنكون بذلك قد وصلنا إلى حدود 1%، وأمّنا التزام الدولة تجاه الدائنين من دون إعلام المواطن الذي سيدفع الفرق عمّا سيؤول إليه وضع الكهرباء، وبمعزل عمّا إذا كانت ستتحسّن التغذية أم لا.
إن رفع تعرفة الكهرباء هو حقٌّ قد يتحوّل إلى باطل، فيصيب صغار المستهلكين الذين يعدّون أقلّ المستفيدين من دعم الكهرباء في ظل نظام الشطور المتّبع، ما قد يحوّل الكهرباء من خدمة إلى سلعة عرضة للعرض والطّلب. لذا، من الضروري القيام بوضع برامج واضحة تراعي شبكة الأمان الاجتماعي (Social Safety Nets) قبل القيام بالإصلاحات في قطاع الطاقة، من أجل الحدّ من التداعيات التي قد تنشأ من جرّاء تطبيقها على الطبقتين الفقيرة والمتوسّطة.
وفي ظل الوضع الاقتصادي الصعب الذي يعيشه النّاس اليوم، من الصّعب القبول بإزالة الدعم قبل الشروع برزمة إصلاحات في القطاع تعكس جدّية الدولة والوزارات المعنية في مقاربة المعضلة وتقديم الحلول، وعلى رأسها زيادة إنتاج الكهرباء من خلال إيصال الغاز للمعامل التي يمكن تحويلها إلى الغاز الطبيعي، وإطلاق المناقصات اللازمة لبناء معامل جديدة ومعامل الإنتاج على الطاقة الشمسية (Utility Scale solar plant) في المناطق الداخلية، حيث يبدأ المواطن بالشعور بتحسّن في التغذية الكهربائية في كلّ المناطق من دون تفرقة أو تمييز، فيمكن حينئذٍ الحديث عن تصحيح الفاتورة الكهربائية.

خريطة طريق
رفع الدعم عن الكهرباء تدرّجياً هو أمرٌ قابل للدرس في المستقبل القريب، ولكن لا يمكن تحميل آثاره وتداعياته منذ اليوم للمواطن الذي يشكّل الحلقة الأضعف. وإذا كان هناك فعلاً عمل جدّي نحو التصحيح العادل، الشامل والطوعي لنظامنا الاقتصادي، فعلينا النظر في سلّة إجراءات عملية فعّالة تشكّل خريطة طريق نحو إزالة الدعم، وتلخّص بالنقاط التالية:
1- إعادة النظر في تجربة شركات مقدّمي الخدمات (Service Providers) وإجراء تقييم شامل للعمل المُنجز منذ بدء أعمالها، لا سيّما ما يتعلّق بمستويات الجباية في المحافظات كافة والخسائر غير التقنية (Non-technical losses)، كما العدّادات الذكية التي وُعد بها المواطنون.
تشكّل الخسائر غير التقنية رقماً يتراوح بين 20 و25% من الكهرباء المُنتجة، وهي تشمل فواتير غير محصّلة أو غير مجباة (أي كهرباء مسروقة) وضعف في تأمين إدارة سليمة للقطاع. فهل ساهمت فعلاً شركات مقدّمي الخدمات في رفع نسب الجباية؟ وكيف يمكن تفعيل عملها لخفض الخسائر وبالتالي العجز الكهربائي؟
2- العمل على تدعيم الشبكة الكهربائية لا مركزياً من دون انتظار الخطّة الوطنية الشاملة والمُكلفة، بحيث يمكن البدء بتخفيف الخسائر التقنية (Technical losses) خلال التوزيع والنقل من جرّاء سوء أحوال الشبكات والتعدّيات الكثيرة، وبالتالي زيادة الإنتاج جزئياً.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن أي عملية بناء لمعمل جديد تتطلّب تحسين الشبكة في المنطقة المحيطة وإنشاء محطّات لامركزية للنقل والتوزيع. أمّا في حال معامل الطاقة الشمسية، فيمكن استخدام الطاقة المُنتجة محلّياً في المراحل الأولى من دون لزوم التوزيع إلى محافظات أخرى.
3- تدعيم نظام الرقابة وحسن إدارة القطاع الضعيف نسبياً في الكهرباء، والذي يتسبّب بشللٍ مؤسّساتي، وذلك من خلال إحياء الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء المنصوص عليها في القانون 462/2002، ما يؤدّي إلى تطوير القطاع وتأمين استدامة إدارية مستقلّة عن التجاذبات السياسية.
4- اعتماد تسعيرة تصاعدية للكيلوواط/ساعة وفق الاستهلاك في الفاتورة الكهربائية، بحيث لا يتحمّل صغار المستهلكين (أي أصحاب الدّخل المتوسّط والمحدود) تبعات ارتفاع الكلفة في الوقت الذي يتأثّر كبار المستهلكين للطاقة جزئياً. أو اقتراح إبقاء الدعم على الشطور الدنيا (ما دون 250 كيلوواط/ساعة في الشهر) الذي يستفيد منه صغار المستهلكين، وإزالته عن الشطور الكبرى التي لا تؤثر جدّياً في كبار المستهلكين ولكن تؤمّن مداخيل إضافية للدولة (75% من الاشتراكات لدى مؤسّسة الكهرباء تبلغ حصّتها من الاستهلاك 50%، في حين أن ربع الاشتراكات الباقي يستهلك النصف الآخر).
5- البحث بكيفية إيصال الغاز الطبيعي المصري إلى معملي الذوق والجيّة اللذين يمكن تحويلهما على الغاز، وإلى معمل دير عمار المنتظر، وذلك قبل الانتهاء من مشاريع الـFSRU ما يخفّف الفاتورة النفطية.
6- تشجيع الصناعات الكبرى على استخدام الطاقة المتجدّدة وتفعيل نظام FiT) Feed in Tariffs) المُعتمد في لبنان منذ عام 2011 على صعيد محدود، وتوعية الناس لأهمية الاستخدام الرشيد للطاقة (Energy Efficiency) بحيث تتمكّن كهرباء لبنان من تخفيف استخدام الفيول ورفع وارداتها.
7- الاستعاضة عن زيادة التعرفة الكهربائية (أي رفع الدعم) في المرحلة الأولى عبر التفتيش عن مصادر تمويل سهلة وسريعة تؤدّي الغرض نفسه، فرؤية ماكينزي الاقتصادية المنشورة حديثاً تشير على سبيل المثال إلى أن نسبة التهرّب الضريبي تشكّل 10% من الناتج المحلّي أي نحو 5 مليارات دولار، وأن مجهود التحصيل الضريبي للدّولة هو من بين الأدنى مقارنة بدّول أخرى عدّة (42% مقابل متوسّط عالمي يبلغ 50%). فلم لا نبدأ من هنا مثلاً؟
إن رفع الدّعم عن الكهرباء يجب أن يُقرن بالأفعال أولاً وليس بالأقوال، ويجب أن تسبقه زيادة في إنتاج الطاقة الكهربائية وتحسّنٌ في التغذية على جميع الأراضي اللبنانية. إن هندسة رفع الدعم عن الكهرباء وبالتالي التسعيرة المعدّلة يجب أن تحاك بعناية ودقّة لتخفيف الأعباء المترتّبة عن ذوي الدخل المحدود والمتوسّط واتّباع العدالة بين جميع المواطنين. إن قطاع الكهرباء يحتاج إلى مقاربة استراتيجية وتقنية وموضوعية وهادئة، تأخذ في الاعتبار الحلول المجدية والأقل كلفة على حدّ سواء، وتؤمّن زيادة الإنتاج من خلال حسن الإدارة، ومن ثم البحث بزيادة التعرفة مرحلياً.

* باحث في مجال الطاقة