إن إلقاء نظرة سريعة على التطوّرات، التي تتعلّق بمسار السياسة النقدية وعلاقتها بسياسة الدولة بعد سنة 1993، يسمح باستخلاص الدروس المفيدة، ويُظهر العلاقة الخفية بين مرحلة 1990 ــــ 1993 الصاخبة ومرحلة الهدوء الطويلة التي أعقبتها. فالمرحلتان، وإن اختلفت ظروفهما، تتكاملان تكامل السبب والنتيجة، وتشكّلان تاريخاً واحداً لمصرف لبنان وللسياسة النقدية في مواجهة معضلة واحدة لم تتغيّر وهي العجز المستمرّ والمتعاظم في مالية الدولة.إن شبج الانهيارات التي تعرّض لها النقد اللبناني في المرحلة الأولى هو الذي تحكّم بالسياسة النقدية في ربع القرن الذي أعقبها، وجعل السلطات المسؤولة تقبل بدفع أثمان باهظة لشراء الاستقرار، وشراء الوقت. ويبقى التحدّي الأكبر لمصرف لبنان بين سنتي 1990 و1993 وبين سنة 1993 ويومنا الحاضر، هو كيفية مواجهة تمويل عجز الموازنة وضبط النتائج النقدية والاجتماعية الخطيرة التي تترتّب عليه، في ظل نظام سياسي لا يملك الخطّة ولا الإرادة لإصلاح الوضع المالي ومعالجة الخلل «السرطاني» في مالية الدولة.

زمن الاتّفاق الثلاثي
للأسباب التي جرى شرحها في الفصل السابق، الأخير، اعتبر الرئيس الشهيد رفيق الحريري استقرار سعر صرف الليرة اللبنانية ووقف الانهيار في سوق القطع هدفاً أساسياً لحكومته ولمرحلته، لا يوازيه في الأهمّية إلّا تنفيذ مشروعه الكبير لإعادة إعمار لبنان بعد الحرب المدمّرة. وأرسى الرئيس الحريري لهذه الغاية اتّفاقاً مثلث الأطراف بين الحكومة والمصارف ومصرف لبنان، تُساهم المصارف بموجبه في تمويل ديون الدولة مهما بلغت، مقابل فوائد مجزية. وقد تطوّر هذا الاتّفاق مع الوقت لكي يشمل استعمال ودائع المصارف في تأمين استقرار سعر صرف الليرة اللبنانية عن طريق تغذية موجودات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية. وقد أمكن إرساء هذا الاتّفاق على قاعدة ثقة القطاع المصرفي المُستجدّة برئيس الحكومة رفيق الحريري وحاكم مصرف لبنان الجديد رياض سلامة.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

كانت هذه الآلية مفيدة وضرورية في السنوات التي أعقبت الانهيارات النقدية في لبنان، شرط أن يرافقها عمل حثيث لوقف النزف في مالية الدولة وتأمين توازنها بتحقيق التناسب بين إيرادات الدولة ونفقاتها. وبذلك، يستند استقرار سعر الصرف إلى سلامة الأوضاع المالية للقطاع العام، ولا يعتمد فقط، كما جرى طوال خمس وعشرين سنة متواصلة، على احتياطي مصرف لبنان بالعملات الأجنبية الذي يتكوّن تباعاً من التزاماته المتعاظمة للقطاع المصرفي.
لكن الاستمرار في استعمال هذه الآلية من دون ضوابط طوال عقدين ونصف عقد من الزمن أدّى إلى نتائج نقدية ومالية واقتصادية فادحة، وأوصل الوضع النقدي والاقتصادي إلى خطر الانهيار الشامل، الذي كثُر الحديث عنه في الآونة الأخيرة، داخل لبنان وخارجه.
فقد أمّنت هذه الطريقة للدولة «راحة البال»، وسمحت لها بأن تنفق من دون حدود وتستدين من دون حدود ولا تكترث لضرورة إصلاح أوضاعها المالية المتدهورة، طالما أن مصرف لبنان والقطاع المصرفي يؤمّنان لها تمويل العجز من دون عناء، عاماً بعد عام. بين سنتي 1993 و2018 ارتفع دين الدولة 28 مرّة مقابل زيادة الناتج المحلّي القائم تسعة أضعاف فقط، فارتفعت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلّي في الفترة نفسها من 50% إلى أكثر من 155%.
القاعدة الذهبية في المالية العامّة أن النفقات الجارية يجب تغطيتها من الإيرادات العاديّة، ولا يجوز أن تستدين الدولة إلّا لتمويل نفقات الاستثمار، حتى لا تتحمّل الأجيال المقبلة الأعباء المترتّبة حصراً على الجيل الحاضر. وما حصل في لبنان هو تماماً عكس هذه القاعدة، فقد جرى استعمال المديونية الهائلة لتمويل موازنات تطغى عليها النفقات الجارية. إن رواتب القطاع العامّ وفوائد دين الدولة باتت تمثّل مع التحويلات لمؤسّسة كهرباء لبنان ثلاثة أربع النفقات العامّة، فيما لا تزيد نفقات الاستثمار على 9% من مجموع النفقات، من دون أن نتحدّث عن استعمال قسم من ديون الدولة لدفع فواتير الفساد والهدر والإنفاق غير الضروري.
في معظم السنوات الخمس الماضية مثّل الإنفاق العام الإجمالي في لبنان حوالى 28.5% من الناتج المحلّي القائم، بينها 27% للنفقات الجارية. لم تتجاوز حصّة الإنفاق الرأسمالي المموّل من الموازنة 1.5% من الناتج، فيما بلغت خدمة الدين العامّ حوالى 9.5%.
تسبّبت هذه السياسة ــــ أو اللاسياسة ــــ في وضع يد القطاع العام على التمويل المصرفي في لبنان، ضمن سقوف ومستويات لا مثيل لها، بهدف تمويل الدين العام وتعزيز احتياطي مصرف لبنان عن طريق الاستدانة من المصارف.
تُظهر أرقام جمعيّة مصارف لبنان لشهر آب 2018 أن إيداعات المصارف لدى مصرف لبنان بلغت سقفاً لا سابق له يعادل 120 مليار دولار أميركي، أي حوالى 50% من مجموع موجودات المصارف. وإذا أضيفت ديون الخزينة من المصارف إلى هذا الرقم، تُصبح حصّة القطاع العام من التمويل المصرفي في حدود 65% من موجودات القطاع المصرفي ككلّ، مقابل 25% فقط للقطاع الخاص، المقيم وغير المقيم. ولا يخفى ما لهذا «التأميم» لودائع المصارف من تشويه لدور الوساطة المصرفية في لبنان وإخراجها من دورها المفترض في تمويل القطاع الخاص.
وسط هذه الفوضى، وفي وقتٍ مبكّر، خطرت لدى «مهندسي» سياسات التمويل فكرة شيطانية، لا نعرف إلى أين ستوصل الدولة والبلاد. إنها فكرة الاستدانة بالعملات الأجنبية لآجالٍ متوسّطة وطويلة، ليس لتمويل المشاريع الاستثمارية بل لتمويل الإنفاق الجاري وتجديد ديون الدولة عند استحقاقها. وقد جرى تزيين هذه الفكرة بأنها تحدّ من العجز باعتبار فوائد الدين على الدولار الأميركي هي أدنى من الفوائد على الليرة.

اللهاث وراء الدولار
هكذا انتصب جبل التزامات القطاع العام اللبناني بالعملات الأجنبية المكوّن من سندات اليوروبوندز، ومن إيداعات المصارف لدى مصرف لبنان، بما في ذلك الاحتياطي الإلزامي على ودائع المصارف بالعملات. لا تقلّ التزامات القطاع العام بالعملات عن 75 مليار دولار، ويصعب إعطاء رقم دقيق لهذه الالتزامات لأن مصرف لبنان يمتنع عن الإفصاح عن إيداعات القطاع المصرفي لديه موزّعة حسب العملات.
في زمن شحّ الدولار في المنطقة العربية عموماً، أصبح الهاجس الأكبر لمصرف لبنان تأمين الموارد بالعملات الأجنبية، بأي ثمن، لتجديد استحقاقات سندات اليوروبوندز وخدمة ديون الخزينة ودين مصرف لبنان نفسه للمصارف بالعملات، وكذلك لأجل تغذية احتياطات المصرف المتآكلة بفعل الطلب على النقد الأجنبي في زمن فقدان الثقة بالوضع العام في البلاد.
المأزق الذي تواجهه البلاد الآن بعد تراكم الديون والاستحقاقات بالعملات الأجنبية، وتزايدها بشكلٍ مطّرد، هي أن الأموال الوافدة بهذه العملات تسير في خطّ معاكس لحاجات البلاد، فهي، لسوء الحظ، تسلك مساراً انحدارياً مثيراً للقلق، فيما تزداد حاجة الدولة ومصرف لبنان إلى المزيد من الدولارات.
فقد أدّت المشاكل الإقليمية التي انفجرت منذ سنة 2011 وإغلاق معابر التصدير إلى دول مجلس التعاون الخليجي عبر سوريا، إلى إلحاق ضررٍ فادح بالصادرات اللبنانية مع سلع وخدمات، إذ انخفضت حصّتها من 78% من النتائج المحلّي سنة 2008 إلى 36% سنة 2017، وهو أدنى مستوى لها منذ خمس عشرة سنة. ارتفع متوسّط العجز التجاري من 20% من الناتج المحلّي في 2002 - 2010 إلى 24.3% في فترة الأزمة 2011 - 2017. بموازاة ذلك، ارتفع العجز في الحساب الجاري من معدّل 16.3% من الناتج في الفترة الأولى إلى متوسّط 20% في فترة الأزمة.
تراجع النموّ في ودائع المصارف بشكلٍ ملحوظ اعتباراً من سنة 2011، السيّئة الذكر، وشمل هذا التراجع ودائع المقيمين وغير المقيمين على حدّ سواء. وقد انخفض صافي الاستثمارات الأجنبية من قرابة 10% من الناتج المحلّي قبل الأزمة إلى 3.4% في فترة 2011 - 2017، وسُجّل أيضاً انخفاض حادّ موازٍ في صافي الاستثمارات الأخرى، أي القروض والعملة والودائع.
إزاء تراجع صافي الأصول الأجنبية في لبنان وتراجع احتياطي مصرف لبنان بالعملات الأجنبية، أطلق مصرف لبنان سلسلة من العمليات غير التقليدية ذات الكلفة العالية، والتي لا تحلّ المشكلة إلّا لفترات زمنية محدودة. ونظراً الى تراجع النموّ في الودائع، حوّلت المصارف تباعاً جزءاً من إيداعاتها في المصارف الخارجية لكي تستفيد من الفرص التي تتيحها عمليات مصرف لبنان. لقد سجّلت المستحقّات على المصارف غير المقيمة، كنسبة مئوية من إجمالي الأصول، تراجعاً كبيراً في السنوات الأخيرة فتراجعت من 19% في فترة 1994 - 1996 إلى 6% منتصف سنة 2017.
في الفترة نفسها، وفي تحوّلات مسيئة للنموّ الاقتصادي، انخفضت التسليفات إلى القطاع الخاصّ من 34% من إجمالي الأصول إلى 25% في العام الماضي، بينما ارتفعت إيداعات المصارف لدى مصرف لبنان من 12% إلى 43% وزادت مستحقّات المصارف على القطاع العام ككلّ في المرحلة نفسها بما يقارب 50%.

دعوة مصرف لبنان إلى التمرّد
ضمن هذه الصورة القائمة، انتُدب مصرف لبنان لثلاث مهمّات مستحيلة:
المهمّة الأولى، هي تأمين تمويل العجز باستمرار لدولة تسرّع الخطى باتّجاه الإفلاس ولا تبذل الحدّ الأدنى من الجهود الفعّالة لحماية نفسها وإنقاذ مجتمعها من هذا المصير.
المهمّة الثانية، هي الحفاظ على سعر الصرف في بلدٍ محاصر بالاضطرابات والصراعات السياسية وبالحروب الإقليمية، ومهدّد بآثار العجز المستدام في موازنة الدولة.
والمهمّة الثالثة، هي تحقيق الهدفين الأولين مع الحفاظ على معدّلات معتدلة للفوائد.
وحتى يستطيع القيام بهذه المهمات، تحمّلت ميزانية المصرف نفسه أعباء جسمية عبر السنوات الطويلة الماضية، أبرزها كلفة عمليات السواب لتمديد آجال مستحقّات الدولة، والفوارق بين الفوائد المدفوعة للمصارف وتلك التي يجنيها المصرف على إيداعاته في الخارج. وقد وجد المصرف نفسه مضطراً إلى الاستثمار في سندات الخزينة اللبنانية لتعويض خسائره الكبيرة، لكنّه في كلّ الأحوال يمتنع عن نشر تفاصيل حساباته المالية، حتى لا يكتشف المضاربون نقاط الضعف لديه فينقضّوا على الليرة كلّما حانت أمامهم الفرص.
لكن العبء الأكبر الذي ترتّب على تنفيذ المهمات المستحيلة لا يتعلّق بميزانية مصرف لبنان وحساباته المالية، بل بكونه سخّر سياسته النقدية وأدواتها وكلّ سلطاته القانونية على المصارف لتأمين تمويل عجز الدولة وزيادة احتياطاته من إيداعات المصارف لديه، بهدف ضبط سوق القطع. لا يعني ذلك إلّا إخضاع السياسة النقدية لأهداف تهمّ الطبقة السياسية الحاكمة، مع أنه يفترض فيها أن تكون في خدمة الاقتصاد والمجتمع.
كنا نودّ القول إن ما يجري هو إخضاع السياسة النقدية للسياسة المالية وأهدافها. لكن الدولة اللبنانية لم تعد تملك منذ زمن بعيد سياسة مالية، بما هي استعمال الإنفاق والضرائب والمديونية لتحقيق الأهداف الاقتصادية الكبرى، مثل تحفيز النموّ أو لجم التضخّم أو إعادة توزيع الثروة بين اللبنانيين. سياسة لبنان المالية تقتصر على تأمين تمويل العجز الناجم عن قصور الإيرادات في تمويل نفقات لا تستطيع الدولة تغيير أرقامها (الرواتب والفوائد وعجز الكهرباء...).
إن التخلّي عن استقلالية السياسة النقدية وأهدافها المستقلّة، منذ تلك المنازلة الشهيرة بين الحاكم الأسبق إدمون نعيم وكلّ النظام السياسي، وحتى اليوم، ساهم كثيراً في الواقع المالي والاقتصادي المأسوي الذي وصلنا إليه.
التدابير غير العادية للحفاظ على الاستقرار النقدي في ظل الأوضاع السياسية المضطربة وتهافت مالية الدولة هي أمور مفهومة، لأن الاستقرار النقدي هو أساس الاستقرار الاجتماعي، كما أنه يقع في جوهر مهمّة المصرف المركزي. لكن في يد مصرف لبنان طريقة أخرى للضغط على الدولة وإجبارها على سلوك طريق الإصلاح، وهو الامتناع عن مساعدتها المُكلفة، له وللبلاد، لتأمين تمويل عجزها المالي المتمادي، والذي تجاوز كلّ المعايير والحدود.
وفقاً لأحكام قانون النقد والتسليف، ليس تمويل العجز ولا المساعدة على تمويله هما من المهمات المناطة بمصرف لبنان. بل على العكس من ذلك، فإن القانون يمنع بشكلٍ قاطع كلّ إقراض مباشرة من المصرف المركزي للخزينة. أمّا المساعدة على التمويل من المصارف فهي أمرٌ بإمكان مصرف لبنان أن يعتذر عنه، موضحاً للحكومة أن المبالغة في الاستدانة تقود إلى انهيار الاقتصاد اللبناني، وعليها أن تلجأ إلى زيادة وارداتها وتخفيض نفقاتها لكي تقترب من توازن الموازنة.
حدّدت المادة السبعون من قانون النقد والتسليف المهمّة الرئيسية لمصرف لبنان كما يأتي:
مهمّة المصرف العامّة هي المحافظة على النقد لتأمين أساس نموّ اقتصادي واجتماعي دائم. وتتضمّن مهمّة المصرف بشكلٍ خاصّ ما يأتي:
- المحافظة على سلامة النقد اللبناني.
- المحافظة على الاستقرار الاقتصادي.
- المحافظة على سلامة أوضاع النظام المصرفي.
- تطوير السوق النقدية والمالية.
بالتالي، فإن مساعدة الدولة على مضاعفة ديونها بالشكل الحاصل ليست ضمن الوظيفة الأساسية لمصرف لبنان، بل هي تناقضها تناقضاً أكيداً، لأنها تهدّد سلامة النقد اللبناني، وتعرّض الاستقرار الاقتصادي للخطر وتتعارض مع «سلامة أوضاع النظام المصرفي».
بموجب المواد اللاحقة من قانون النقد والتسليف، المصرف هو مستشار الحكومة الذي يجب أن يتمتّع بالجرأة الأدبية والشجاعة ليطلعها على مخاطر سياساتها عند الاقتضاء. فحسب المادّتين 71 و72 من القانون نفسه، المصرف «يتعاون مع الحكومة ويقدّم لها كلّ مشورة تتعلّق بالسياسة المالية والاقتصادية بغية تأمين الانسجام الأوفر بين مهمّته وأهداف الحكومة... وله أن يقترح على الحكومة التدابير التي يرى أن من شأنها التأثير المفيد على ميزان المدفوعات وحركة الأسعار والمالية العامّة وعلى النموّ الاقتصادي بصورة عامّة. ويطلع المصرف الحكومة على الأمور التي يعتبرها مُضرّة بالاقتصاد وبالنقد».
المصرف يعرف ربّما أن ممارسته لهذا الدور المستقلّ والتعبير عن رأيه المستقلّ أمران لا يحتملهما النظام السياسي، ولا تتقبّلهما الطبقة السياسية الحاكمة. فهي تعتبر المؤسّسات العامّة كلّها رهن أوامرها وفي خدمة مصالحها، حتى ولو كرّس القانون استقلاليتها بأحرف من ذهب.

* الفصل الأخير من كتاب صدر حديثاً عن دار سائر المشرق، تحت عنوان «وراء أسوار مصرف لبنان: نائب حاكم يتذكّر (1990 - 1993)»

* مصرفي، نائب سابق لحاكم مصرف لبنان