لم يكن لبنان بحاجة إلى اختراع البارود عندما واجه، منذ أكثر من عشر سنوات، السؤال نفسه الذي واجهته عشرات الدول الأخرى قبله، ممن لم تكن تمتلك الخبرة والرساميل اللازمة لاستثمار مواردها النفطية المُكتشفة أو المُحتملة. لقد احتاجت هذه الدول إلى التعاون مع شركات بترولية كبرى، وأقامت أطراً لهذا التعاون يصون سيادتها، ويؤمّن لها مشاركة فعلية في الأنشطة البترولية، كما يؤمّن أفضل الشروط المالية والاقتصادية المُمكنة، ويمنحها إمكان اكتساب الخبرة وتدريب الكوادر الوطنية والمراقبة (من الداخل) لعمليات الشريك الأجنبي وحساباته. وكل ذلك بهدف التوصّل تدرّجاً إلى إمكان القيام بنفسها بدور المشغّل (Operator)، وهو ما حصل في الدول الأعضاء في منظّمة «أوبك» وعشرات الدول الأخرى، التي تبنّت، منذ حوالى نصف قرن، نظام الاستثمار المعروف باتفاقيات تقاسم الإنتاج (Production Sharing Agreements – PSA). يقوم هذا النظام في خطوطه العريضة على منح شركة، أو مجموعة شركات كبرى، رخصة استطلاع، ثم رخصة استكشاف على نفقتها، شرط أن تتحمّل المخاطر وحدها، وينتهي التعاقد معها في حال عدم التوصّل إلى اكتشاف تجاري. أما إذا كانت النتيجة إيجابية، فيمكن للدولة ممارسة حقّها في الدخول معها كشريك في إطار اتفاقية إنتاج، بنسبة لا تقل عادة عن 40%، تكون محدّدة سلفاً في الاتفاقية بين الطرفين. في هذه الحالة، يسدّد البلد المضيف للشريك الأجنبي، وفق آلية «الحصة المحمولة» (Carried interest)، حصته من النفقات الرأسمالية (Capex) السابقة، ثم حصته من نفقات الإنتاج، تزامناً مع تسلّمه حصته من إنتاج البترول والغاز. إضافة إلى ذلك، يدفع الشريك الأجنبي ضريبة دخل على أرباحه، فضلاً عن علاوات ورسوم مختلفة أخرى، ما يرفع نصيب الدولة من مجموع الأرباح إلى نسب تتراوح بين 65% و85% حسب الحالات.
سيلفانو ميللو - البرازيل

هناك ميزة أخرى، على جانب كبير من الأهمية، لنظام تقاسم الإنتاج، هي أن كل ما يتم اكتشافه هو ملك للدولة، في حين أن هذه الملكية تعود للشركات العاملة في نظام الامتيازات. لذلك، لم يكن مفاجئاً أن يتبنّى المشرّع اللبناني نظام تقاسم الإنتاج في القانون البترولي 132/2010، إذ جاء في نصّ المادة 3: «يهدف هذا القانون إلى تمكين الدولة من إدارة الموارد البترولية في المياه البحرية». ونصّت المادة 4: «تعود ملكية الموارد البترولية والحق في إدارتها حصراً للدولة». في حين نصّت المادة 6 تحت عنوان «مشاركة الدولة» على: «تحتفظ الدولة بحق القيام أو المشاركة في الأنشطة البترولية». وهذه هي تماماً ركائز نظام تقاسم الإنتاج الذي أصبح الأكثر انتشاراً في العالم، حيث يوجد حالياً مئات العقود المطبّقة في أكثر من 70 بلداً.
إلا أن الوضع في لبنان انقلب فجأة رأساً على عقب في عام 2013، عندما جاءت بعض المراسيم، المفترض أن تكون «تطبيقية»، لتهدم ما بناه القانون 132/2010، ولا سيّما المرسوم 43/2017، الذي صاغه بعض موظّفي وزارة الطاقة ومستشارون أجانب كنموذج للاتفاقيات المقترح توقيعها مع الشركات الأجنبية. وهكذا، جاءت المادة 5 من هذا المرسوم لتعلن حرفياً أنه: «ليس للدولة مشاركة في دورة التراخيص الأولى»، ما يعني طرد الدولة برمّتها من الأنشطة البترولية. كما نصّت المادة 16 من هذا المرسوم (المتعلّقة بلجنة إدارة الشركات العاملة) على أنه: «يمكن للوزير ولهيئة إدارة قطاع البترول تعيين ممثلين يكون لهم الحق بالحضور كمراقبين». نعم، مراقبون يسمح لهم بأن يسمعوا دون أن يتكلّموا في بعض اجتماعات لجنة إدارة الشركات الأجنبية. لا بل إن المادة 16 نفسها توضح حرفياً أنه: «لا يحق للوزير ولا لهيئة البترول حضور اجتماعات اللجان ومجموعات العمل»، التي يشكّلها أصحاب الحقوق، أي الشركات العاملة! وهذا كلّه يناقض طبعاً نصّ القانون البترولي وروحه.
تضاف إلى ذلك أحكام وتدابير أخرى، من أغربها المرسوم الرقم 9882 تاريخ 16 شباط 2013، الذي جرى بموجبه الإعلان رسمياً عن قبول التأهيل المُسبق لـ 46 شركة، يمكنها الحصول على حقوق استكشاف وإنتاج، معظمها شركات متوسطة أو صغيرة، بعضها ملاحق قضائياً في أكثر من دولة عربية بتهم الاحتيال والفساد، فضلاً عن شركات وهمية لا وجود لها إلا على الورق. كذلك المرسوم الرقم 43/2017 الذي حصر حق طلب حقوق الاستكشاف والإنتاج بما سمّي «شراكة تجارية غير مندمجة»، قوامها ثلاثة أصحاب حقوق تمّ تأهيلهم مسبقاً، منهم شركة كبرى تتولّى دور المشغّل (Operator) بحصة لا تقل عن 35%، وشركتان غير مشغّلتين (Non-Operators) بحصة لا تقل عن 10% لكل منهما. وهذا كله دون أي إشارة إلى حق شركة حكومية في طلب وممارسة حقوق يمكن منحها لـ 46 شركة أجنبية، علماً بأن عددها ارتفع في ما بعد إلى 53 شركة من مختلف أطراف المعمورة، من أصلها حوالى 15 شركة فقط تمتلك الخبرة والرساميل اللازمة للتنقيب عن البترول والغاز بعمق ألفي متر في البحر، ما يعني أن بعض الموظّفين والمستشارين قرّروا إبعاد الدولة برمّتها عن الأنشطة البترولية ومن مواقع المسؤولية والإدارة التي تعود إليها، ووضعوا مكانها مصالح خاصّة تتلاقى مع مصالح الشركات الكبرى «المشغّلة»، الساعية إلى اكتساب حقوق الملكية وحقوق التصرّف بجزء من البترول والغاز المكتشفين، بما يتناسب وحصتها في «الشراكة التجارية غير المندمجة».


أبعد من «مستر 5%»
إذا افترضنا (مثلاً) أن قيمة مجموع ما يتم اكتشافه من الهيدروكربونات في رقعة ما يساوي 50 مليار دولار، تكون حصة كل شركة غير مشغّلة 10%، أي 5 مليارات دولار على الأقل. وبما أن المرسوم 43/2017 يشترط وجود ما لا يقل عن شركتين غير مشغّلتين في كل اتفاقية، تصبح قيمة حصتيهما 10 مليارات دولار على الأقل... نتيجة لهذه الهندسة البهلوانية، طارت المبادئ التي يقوم عليها القانون البترولي، وتم شلّ الدولة، وطار معها تلقائياً نظام تقاسم الإنتاج.
هذا الوضع الشاذ الذي أدّى إليه المرسوم 43/2017، شأنه في ذلك شأن دفتر الشروط، هو أشبه ما يكون بما جرى في العراق قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها، عندما كانت الشركات الغربية تتسابق للاستيلاء على المناطق الغنية بالنفط في الشرق الأوسط، فشكّلت مجموعة شركة نفط العراق، وحصلت على امتياز يغطّي كل مساحة العراق. ونظراً إلى دور الوسيط الذي لعبه كالوست سركيس كولبنكيان لدى الباب العالي، تمّ منحه حصة 5% في شركة نفط العراق، ما أكسبه لقب مستر 5%، وأمّن له ثروة كانت تعتبر من الأكبر في العالم عند تأميم النفط العراقي عام 1971. الفرق مع لبنان أن السيد كولبنكيان «اكتفى» بحصة 5%، في حين أن حصة كل من الشركات غير المشغّلة في لبنان حدّدها المرسوم 43 بنسبة 10% على الأقل لكل شركة!

نظام استثمار لا يمتّ بصلة إلى «النموذج النرويجي»!

ما يزيد في ضبابية النقاش الدائر وتناقضاته، هو التغنّي بأن لبنان يستوحي سياسته البترولية من «النموذج النرويجي»، الذي حكمت «الوصايا العشر» تطوّره. وهي «وصايا» أقرّها البرلمان النرويجي عام 1971، وسمحت لهذا البلد بتطوير صناعة هيدروكربونات وطنية تتماشى ومصالحه الخاصة، وتعتبر عن حق صناعة رائدة للبلدان الناشئة وغيرها من البلدان الحديثة العهد في هذه الصناعة. وفي طليعة الوصايا العشر المذكورة، يأتي تقليص هيمنة الشركات الأجنبية، ومشاركة الدولة الفعلية، وإلى أبعد حدّ ممكن، في الأنشطة البترولية، وبشكل خاص عبر شركات نفط وطنية، أهمّها شركة «ستاتويل».
ليس من الصعب اكتشاف أن ما تم في لبنان لا يشبه، لا من قريب ولا من بعيد، ما يسمّى النموذج النرويجي، لا بل إنه يناقضه كلياً، وخصوصاً في النقاط الجوهرية الآتية:

1- الشفافية
منذ تحديد مبادئ سياسة النرويج البترولية وأهدافها في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، تمّ ترسيخ الشفافية عبر حوار وطني عام، وعبر سيل من الدراسات والتقارير، كان للمجلس النيابي دور محوري فيها (وهو ما حصل في إسرائيل أيضاً). هذه الشفافية كانت درعاً واقياً ضد الأخطاء والفساد واستغلال السلطة لمآرب خاصة. أما في لبنان، فما كاد المجلس النيابي يوافق على القانون البترولي 132/2010، بما يتضمّنه من مبادئ أساسية، حتى سارع بعض الموظّفين إلى خطف صلاحيات هذا المجلس ووضعوا مراسيم تطبيقية، ولا سيّما المرسوم 43/2017، بما لا ينسجم مع المبادئ المقرّة، وتحت غطاء من السرّية (...) إلى أن تمّت الموافقة عليها على جناح السرعة، في مطلع عام 2017، عند تأليف حكومة جديدة.

2 - مشاركة الدولة
تنصّ إحدى «الوصايا العشر» النرويجية على «أنه يجب على الدولة أن تشارك على كل المستويات اللازمة، وأن تساهم في تنسيق مصالح النرويج لجهة تطوير صناعة نفطية متكاملة على الصعيدين الوطني والدولي». انطلاقاً من هذه «الوصية»، حدّدت مشاركة الدولة بنسبة 50% على الأقل، وتمّ رفعها في بعض الحالات إلى نسب تراوحت بين 60% و80% عند حصول اكتشافات كبرى. وذلك عندما كانت النرويج بحاجة إلى نظام تقاسم الإنتاج، أي قبل أن تكتسب الخبرة اللازمة للسيطرة الكاملة على هذه الصناعة. أما في لبنان، فقد سارت الأمور بعكس ذلك تماماً.

3 - إنشاء شركة نفط وطنية
نصّت الوصية رقم 8 النرويجية على: «إنشاء شركة نفط وطنية تؤمّن مصالح الحكومة بالتعاون وبالوسائل الملائمة مع الجهات الوطنية والأجنبية المتخصّصة»، فتمّ فوراً إنشاء الشركة الوطنية «ستاتويل» عام 1972، وباشرت عملها إلى جانب الإدارة العامة للبترول، التي أسندت إليها مهمّات الهيئة الناظمة. أما في لبنان، فلا يزال موضوع إنشاء شركة وطنية في مرحلة مشروع قانون قدّم للمجلس النيابي في أواخر 2017، علماً بأن مهمّات شركات النفط الوطنية لا تقتصر على مراحل الاستكشاف والتنقيب والإنتاج، بل تغطّي سائر المراحل حيث تستلزم المصلحة الوطنية ذلك، وتقرّر الدولة ممارسة صلاحياتها كالنقل والتكرير والبتروكيمياء وشتّى أنواع الخدمات إلخ… لذلك توجد في مختلف البلدان الصناعية أو النامية ليس شركة وطنية واحدة، بل شركات متخصّصة عدّة يطاول نشاطها هذا القطاع أو ذاك من صناعتي البترول والغاز. هذه الشركات أصبحت تشكل العمود الفقري للاقتصاد الوطني في بلدان عدّة، كشركتي «أرامكو» و«سابك» في السعودية وشركة «سوناطراك» في الجزائر.
لقد تمكّنت النرويج من خلال مشاركتها المباشرة والفعلية في صناعة البترول والغاز، عبر شركة «ستاتويل» وغيرها من الشركات الوطنية، من الانتقال من اقتصاد يعتمد على النقل البحري وصيد الأسماك قبل نصف قرن، إلى اقتصاد صناعي من أكبر مصدّري الهيدروكربونات. وقامت النرويج بتطوير صندوق سيادي تتجاوز موجوداته حالياً ألف مليار دولار، علماً بأن لبنان يمتلك اليوم جامعات وطاقات بشرية وكوادر بترولية تعمل في شتّى أنحاء العالم، تفوق أضعاف ما كانت تملكه النرويج في مطلع السبعينيات عند إنشاء شركة «ستاتويل».
على الرغم من توقيع أول اتفاقيتين للاستكشاف والإنتاج في الرقعتين 4 و9 في لبنان، لا يزال الجدل العقيم دائراً حول جدوى إنشاء شركة نفط وطنية وتاريخ مشاركتها في الأنشطة البترولية. ومن أبرز الحجج التي يردّدها بعض المسؤولين لتبرير التلكؤ في إنشاء هذه الشركة قولهم إن ذلك سيكون ممكناً في حال التوصل إلى اكتشافات تجارية واعدة. إلا أن المادة 6 من القانون البترولي تنصّ صراحة في فقرتها الأولى على أن الدولة تحتفظ بـ«حق القيام أو المشاركة في الأنشطة البترولية… وتحدّد حصتها في الرخصة البترولية و/أو في اتفاقية الاستكشاف والإنتاج بموجب مرسوم…». لذلك، وإذا افترضنا جدلاً أنه، لسبب أو لآخر، تمّ تأجيل قيام الشركة الوطنية، فهذا لا يحول على الإطلاق دون ضرورة التأكيد، في صلب كل اتفاقية تعقد مع شركة بترولية، على أن الدولة تحتفظ بحق المشاركة لاحقاً، وبنسبة تحدّد سلفاً عند توقيع الاتفاقية. إن بنداً كهذا لا يكلّف الدولة دولاراً واحداً، في حين أن عدم وجوده يفقد لبنان حقّه في المشاركة، كما يفقده تلقائياً حقوق الملكية على القسم الذي يعود له من كمية البترول والغاز المُنتجة، والتي قد تبلغ مليارات الدولارات في كل رقعة.
إن وجود شركة نفط وطنية ليس الشرط الوحيد لتحقيق المشاركة، إذ إن الدولة يمكنها أن تكون شريكاً مباشراً وأن تعيّن من تشاء ليمثلها في هذه المشاركة.


حصة الدولة هي الأدنى في العالم
تمتاز حصة الدولة من أرباح الشركات العاملة بكونها من الأدنى في العالم. فوفق قانون الأحكام الضريبية والمرسوم 43، تتكوّن هذه الحصة (بالنسبة إلى الغاز) من رسوم مساحات تكاد تكون رمزية، وأتاوة لا تتجاوز 4% من قيمة الإنتاج، في مقابل معدل عالمي يبلغ 12,5%. وجرى السماح للشركات باستعادة النفقات بمعدل 65% في السنة، في مقابل حدّ أقصى لا يتجاوز 50% في البلدان الأخرى. أما ضريبة الدخل فحدّدها القانون بـ 20% في مقابل 26% كمعدل عالمي، ما يعني أن حصة الدولة لن تتجاوز 47% من مجموع الأرباح في سنوات الإنتاج الأولى، في مقابل نسب تتراوح بين 65% و85% في الدول التي تطبّق عقود تقاسم الإنتاج، وهذ النسبة ترتفع الى أكثر من ذلك في النرويج.
إن حصة الدولة في لبنان (47%) هي أدنى بكثير ممّا كانت تحصل عليه الدول المُنتجة في ظل الامتيازات القديمة، أي أتاوة 12,5% من قيمة الإنتاج وضريبة 50% على أرباح الشركات. وهي تبقى حصة نظرية لأن إقصاء الدولة عن العمليات البترولية يحول دون التأكّد من المعطيات الخاصة بالنفقات والإيرادات وأرباح الشركات العاملة، ما يضع الدولة في موضع «الأطرش في الزفّة».
في السنوات التالية بعد بدء الإنتاج، تصطدم تقديرات الدخل في لبنان بثلاث عقبات، تكمن بشكل خاص في تقلّبات الأسعار على المدى البعيد، وفي اعتماد آلية المزايدة لتحديد مكوّنات «عامل الدخل» في تطوّر نسبة حصة الدولة من الأرباح، وأخيراً في استحالة التدقيق والتحكّم في هذه الأرباح نتيجة لعدم مشاركة الدولة في الأنشطة البترولية.
هذا المستوى المنخفض لمكوّنات حصة الدولة من الأرباح، يفسّر ما كتبته أناليزا فيديلينو، مديرة بعثة صندوق النقد الدولي، في مقال نشرته «الحياة» في 27 كانون الثاني/ يناير 2017، إذ أشارت إلى أن الدخل المرتقب من استغلال الغاز «يقدّر بنحو 4% من الناتج المحلي الإجمالي في أواخر العقد المقبل، في حين أن خدمة الدين العام تخطّت 9% من الناتج المحلي عام 2016». وهذا يعني دخلاً بحدود ملياري دولار في أواخر العقد المقبل، مقابل خدمة دين بلغت قرابة ثلاثة أضعاف هذا الدخل في عام 2016. وعلى سبيل المقارنة، تقدّر إسرائيل دخلها من إنتاج حقلي تامار وليفياتان بين 130 ملياراً و140 مليار دولار خلال الفترة 2015 - 2040، أي بمعدل يفوق 5 مليارات دولار سنوياً، أي 2,5 أضعاف الدخل المتوقع في لبنان خلال سنوات الإنتاج الأولى.

كي يسترجع مجلس النواب صلاحيّاته


أولاً: التشريع والرقابة
إن إعادة الأمور إلى مجراها الطبيعي تقتضي، بالدرجة الأولى، استرجاع المجلس النيابي لصلاحيّاته كسلطة تشريعية، يخوّلها الدستور رسم الإطار القانوني اللازم لتأمين المصلحة العامة، بما في ذلك تحديد نظام الاستثمار وشروط التعاطي مع الشركات العاملة المعنية. وكذلك
استرجاع صلاحيّاته الرقابية على تنفيذ القوانين والاتفاقيات السارية للتأكّد من مطابقتها نصّاً وروحاً للمصلحة العامة.
وعلى الصعيد العملي، تبرز الضرورة لإتخاذ التدابير الآتية:
• الإسراع في مناقشة وإقرار مشاريع القوانين الخاصة بقطاع البترول، ولا سيّما مشروع قانون إنشاء شركة نفط وطنية. ويمكن أن تكون هذه الشركة مختلطة بين القطاعين العام والخاص، بشرط أن تتمتع الدولة بما يسمّى «السهم الذهبي»، وأن تكون حصتها أكثر من النصف، وأن تضع الضوابط اللازمة لمنع هيمنة عدد من الأفراد أو المساهمين من القطاع الخاص.
• تمكين المجلس النيابي من الاطلاع على المراسيم التطبيقية، والمصادقة على الاتفاقيات المُبرمة مع الشركات العاملة، ومساءلة القائمين على تنفيذ سياسة البترول والغاز. وبالتالي، إعادة النظر في المراسيم التطبيقية التي اتخذت حتى الآن، وفي طليعتها المرسوم 43/2017، بما يضمن مطابقتها للقانون البترولي. ولذلك، يجدر شطب المادة 5 من هذا المرسوم التي تلغي مشاركة الدولة في العمليات البترولية. ويجدر، على سبيل المثال، الفصل بين رخصة الاستطلاع واتفاقية الإنتاج، وإعادة النظر بالشروط المالية الخاصة بمستوى الأتاوة، وسقف استرداد النفقات، وتحديد فترة زمنية لاسترداد الخسائر السابقة، وقواعد التحكيم في حلّ النزاعات... إلخ.
كذلك، يجدر إعادة النظر بمرسوم تقسيم المنطقة الاقتصادية الخالصة إلى 10 رقع، إذ تبلغ مساحة الرقعة الواحدة حالياً نحو 1.790 كلم مربّع، علماً بأن إسرائيل (مثلاً) عمدت إلى تقسيم المنطقة الخالصة إلى ما لا يقل عن 69 رقعة، لا تتجاوز مساحة كلّ منها 400 كلم مربّع. كذلك الأمر في النرويج، حيث تم تقسيم الجرف القاري إلى رقع بحدود 500 كلم مربّع لكل منها، مع العلم بأن مساحة القسم النرويجي من الجرف القاري في بحر الشمال تبلغ 2.140.000 كلم مربّع، أي ما يزيد قرابة مئة مرّة على مساحة المنطقة الاقتصادية الخالصة في لبنان.

ثانياً: إعادة هيكلة تنظيم قطاع البترول
فمن غير الطبيعي أن تُحصر المسؤوليات بهيئة واحدة (هيئة إدارة قطاع البترول)، التي تخضع لوزير الطاقة، وتتولّى مهمّات تتناقض بعضها مع البعض، وتشمل الاستشارات، وصياغة العقود مع الشركات، والتأهيل المُسبق للشركات، وصياغة المراسيم التطبيقية، وغير ذلك من الشؤون القانونية والفنية والبيئية. وعلى أي حال، يجدر إنشاء هيئة ناظمة تتمتع باستقلالية تامّة، كما هي الحال في النرويج وغيرها.
ثالثاً: التعاون مع منظّمات دولية متخصّصة
نظراً إلى أن تجربة لبنان لا تزال في خطواتها الأولى، يبدو من المفيد والضروري أن يستأنس النواب، وفي كل فرصة ممكنة، برأي واحدة أو أكثر من المنظّمات العالمية المتخصّصة، ولا سيّما في مجال حسن الحوكمة ومكافحة الفساد، منها: البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظّمة OECD، ومنظّمة أوبيك، والمنظّمة البرلمانية العالمية لمكافحة الفساد، أو الشركات البترولية الوطنية في الدول الصديقة، كمصر والسعودية والجزائر وأبو ظبي... إلخ. سيكون مثل هذا التعاون فرصة ثمينة لتبادل الآراء وتوضيح مخاطر نظام الامتيازات القديمة التي عانت منها هذه الدول، والفرق بين سياسة تقوم على سيطرة الدولة على صناعة الهيدروكربونات وأخرى تبيح تحكّم بعض المصالح الخاصة بثروة تعود ملكيّتها لكل المواطنين.

* نص ورقة عمل قدّمها نقولا سركيس في ندوة «نحو رؤية وطنية لقطاع النفط والغاز في لبنان»، عُقدت في مجلس النواب، في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018

*مستشار في قضايا البترول