نظّم معهد الاقتصاد المالي في الجامعة الأميركية في بيروت ورشة عمل تحت عنوان «أجندة السياسة الاقتصادية للمرحلة الانتقالية ما بعد الصراع»، استعرض خلالها ورقتين حول الآليات الاقتصادية المُفترض اتباعها خلال مرحلة إعادة الإعمار في البلدان العربية المتضرّرة من الصراعات: العراق وسوريا واليمن وليبيا. الفرضية، التي حاولت هاتان الورقتان الانطلاق منها، هي: أن تحقيق السلام والنمو والتنمية بصورة مستدامة هو من الشروط الرئيسة لتفادي تجدّد الصراعات. وبالتالي حاول المشاركون في النقاش أن يحدّدوا الأسس النظرية لاستيفاء هذه الشروط.
الورقة البحثية الأولى، أعدّها سمير مقدسي وريموندو سوتو تحت عنوان «الأجندة الاقتصادية لإعادة الإعمار في مرحلة ما بعد الصراع»، ومن المُفترض عرضها مجدّداً خلال ورشة عمل انطلقت اليوم في المغرب تحت عنوان «الصراعات والحوكمة والأجندة الاقتصادية لما بعد الصراع في البلدان العربية المتضرّرة من الحرب».
أمّا ورقة العمل الثانية، فأعدّتها الإسكوا مع مجموعة واسعة من الخبراء السوريين، تحت عنوان «أجندة وطنية لمستقبل سوريا» وتستعرض نموذج خطّة اقتصادية لسوريا، قدّمها رئيس فريق إعادة البناء والانتعاش الاقتصادي في الإسكوا أحمد شيخ عبيد، على أن يتمّ الإعلان عنها نهاية هذا الشهر.
في أسباب الانتفاضات العربية: لنفتّش عن البطالة واللامساواة

«ظاهرياً، تبدو العوامل الاقتصادية غير مرتبطة بجذور الصراعات في الشرق الأوسط. فقد أحرزت هذه المنطقة في الفترة التي سبقت الانتفاضات العربية تقدّماً في القضاء على الفقر المدقع، وزيادة الالتحاق بالمدارس، والحدّ من الجوع والوفيات عند الولادة، وكان النموّ الاقتصادي معتدلاً ويتماشى مع الاتجاهات العالمية، ونما الناتج المحلّي الإجمالي الحقيقي للفرد في العقود الثلاثة السابقة لعام 2010 في كلّ البلدان العربية باستثناء ليبيا».
هذه المؤشرات «الإيجابية» كانت تدفع المؤسّسات المالية الدولية، ولا سيّما البنك وصندوق النقد الدوليين، بالإضافة إلى النخب السياسية والاقتصادية الحاكمة، للتغنّي بالإنجازات المُحقّقة، وتشجّع على المضي بالسياسات المُعتمدة. إلّا أن الانتفاضات في العديد من البلدان العربية، التي حملت شعارات «الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية» وطالبت بـ«إسقاط النظام»، طرحت تساؤلات مهمّة عن مصادرها وأسبابها. أين تكمن؟ وهل صحيح أنها لا تكمن في العوامل الاقتصادية الآنفة الذكر؟

28%

كانت نسبة البطالة في مصر في فترة ما قبل الانتفاضات و30% في سوريا و19% في تونس


هذا ما حاولت أن تعالجه ورقة بحثية أعدّها سمير مقدسي (الجامعة الأميركية في بيروت) وريموندو سوتو (الجامعة البابوية الكاثوليكية في تشيلي)، بالتعاون مع منتدى البحوث الاقتصادية، تحت عنوان «الأجندة الاقتصادية لإعادة الإعمار في مرحلة ما بعد الصراع».
الخلاصة الأساسية التي توصلت إليها هذه الورقة تقول خلافاً للمؤشّرات «الوردية» السابقة، أن «الانتفاضات العربية قد تكون، ربّما، بمثابة المفجّر للأزمة السياسية الحالية التي تواجهها اقتصادات المنطقة». يرى الباحثان أن «سرعة اندلاع التظاهرات وانتشارها من بلد إلى آخر هي دليل على وجود عوامل عميقة الجذور وطويلة الأمد، يمكن ردّها إلى أسباب سياسية واجتماعية واقتصادية».
تشير البيانات المتاحة عن مرحلة ما قبل الانتفاضات، إلى أن اللامساواة لم تكن تأخذ منحىً تصاعدياً في بلدان الصراع في الشرق الأوسط. خلال العقد الأوّل من القرن الحالي، كان التفاوت في الإنفاق مُنخفضاً في كثير من الحالات أو معتدلاً (ديفرجان ولانشوفيشينا، 2017). ولم تكن اللامساواة في الدخل أعلى من باقي بلدان العالم (البنك الدولي). بلغ التفاوت في توزيع الدخل في سوريا في عام 2004 نحو 0.358 وفقاً لمعامل جيني، وهو توزيع متساوٍ نسبياً مع المملكة المتّحدة، وتحسّن إلى 0.32 بحلول عام 2007. ولوحظ اتجاه مماثل في اليمن، إذ انخفض التفاوت من 0.395 إلى 0.377 بين عامي 1992 و2005، وكذلك انخفض في العراق من 0.351 إلى 0.301 بين عامي 2003 و2007 (جامعة الأمم المتحدة – المعهد الدولي لبحوث الاقتصاد الإنمائي). أيضاً انخفضت نسبة دخل فئة الـ10% الأكثر ثراءً من سكّان الشرق الأوسط بين عامي 1990 و2010 بالمقارنة مع ركود هذه النسبة أو ارتفاعها في باقي مناطق العالم (تقرير اللامساواة في العالم – 2018).
ولكن بالنسبة إلى الباحثين، توجد أدلّة مغايرة على أن «هناك عوامل لعبت دوراً في تأجيج السخط الاجتماعي والسياسي، وأبرزها ارتفاع حدّة اللامساواة الاقتصادية التي تسير جنباً إلى جنب مع اللامساواة السياسية، والتفاوت في توزيع الخدمات العامّة وتردّي نوعيتها، وارتفاع معدّلات البطالة، فضلاً عن التصوّرات الذاتية للسكّان عن الظلم واللامساواة وتطوّرهما مستقبلاً. بحيث ظهرت فروق ذات دلالة بين البيانات والتصوّرات».


يستند الباحثان إلى دراسات عدّة حول أسباب الصراع في المنطقة، تشير إلى أن «الرفاهية الذاتية في البلدان العربية كانت مُنخفضة نسبياً، وانخفضت بشكل حادّ بالنسبة إلى الطبقة الوسطى وفي البلدان التي كانت فيها الانتفاضات أكثر حدّة. كان هناك استياء متنامٍ ومشترك من نوعية الحياة، لا سيّما بالنسبة إلى الطبقة الوسطى التي أُحبطت من تدهور مستويات معيشتها بسبب نقص فرص العمل في القطاع الرسمي ونقص الوظائف ذات الجودة، وسوء نوعية الخدمات العامّة، وتفشّي الفساد وغياب المحاسبة، وعدم كفاية الوصول إلى المساكن الميسورة ووسائل النقل العام والرعاية الصحية الجيّدة. ففي مصر على سبيل المثال، نظر الناس إلى أنفسهم في عام 2000 على أنهم أكثر ثراءً ممّا كانوا عليه بالفعل، ولكن بحلول عام 2008 انقلبت نظرتهم إلى أنفسهم على الرغم من أن بيانات الأسر بيّنت أنهم أصبحوا أكثر ثراءً».
ما يحصل فعلياً، وفقاً لنتائج البحث، هو «بناء مؤسّسات تعزّز التفاوتات، بحيث لم يستفد سوى عدد قليل من المتمتّعين بالامتيازات من منافع الموارد الطبيعية والنموّ الاقتصادي. فعندما يستجيب السياسيون لجماعة ثرية صغيرة، تكون السياسات موجّهة حتماً نحو تعزيز مصالح الأثرياء وزيادة تأثيرهم السياسي، فيما يصبح الباقون أقلّ تفاعلاً وغير متساوين سياسياً واقتصادياً. وبالتالي تصبح إعادة توزيع الدخل من خلال الضرائب والتحويلات أقلّ من المعدّل الذي يرغب فيه المواطنون، ما يؤدّي إلى عدم تخفيف المؤسّسات التمثيلية من حدّة اللامساواة الاقتصادية».
المسألة، كما تقدّمها الورقة، ليست محصورة بـ«تصورات» الناس عن نفسهم، وتباين هذه التصوّرات مع البيانات، بل في أن الواقع لم تكن تعكسه التصوّرات والبيانات معاً، وهذا يظهر بوضوح في تطور معدّلات البطالة، وخصوصاً بين الشباب، فقد ارتفعت في بلدان الصراع، «وكانت إحدى العوامل المساهمة في الانتفاضات. لقد بلغت البطالة بين الشباب في مصر نحو 28%، وفي سوريا 30%، وتونس 19%، في فترة ما قبل الانتفاضة، بين عامي 2000 و2009، وهو معدّل أعلى بكثير من المعدّلات في مناطق أخرى من العالم. وبالنتيجة، أدّت هذه المعدّلات المرتفعة إلى إضعاف قبضة الأنظمة على السلطة وإضعاف قدرتها على مقايضة الحقوق والمشاركة السياسية بالخدمات العامّة والمنافع الاقتصادية».
خطّة طريق لما بعد الصراع: عقد اجتماعي جديد

تبيّن التجارب السابقة أن معدّل نجاح إعادة الإعمار في الاقتصادات الناشئة منخفض جدّاً. ووفقاً للورقة البحثية (مقدسي وسوتو - «الأجندة الاقتصادية لإعادة الإعمار في مرحلة ما بعد الصراع») «يحول تعقيد القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وترابطاتها دون تحقيق سيناريوهات مستدامة ومثمرة في مرحلة ما بعد الصراع».
في هذا السياق، يرى الباحثان أن «الإصلاحات الاقتصادية لا بدّ أن تكون حاسمة، ويجب ألا تنحصر في التخفيف من احتياجات السكّان، وتوفير الموارد لجهود إعادة الإعمار، وتلبية المطالب السياسية لمختلف فئات المصالح، والتعامل مع المعونات المقدّمة، بل يجب أن تكون أوّلاً، موجّهة نحو تغيير أو تحسين، وإذا استطاعت، القضاء على المؤسّسات التي ساعدت على تهيئة ظروف الصراع. وثانياً، أن تركّز على تحقيق شمول اقتصادي أوسع ولامساواة أقلّ وتوليد فرص عمل متزايدة».
تحدّد خطّة الطريق المُقترحة خمسة مجالات عمل للأجندة الاقتصادية لإعادة الإعمار لتحقيق النموّ المستدام والتنمية البشرية في البلدان العربية الأربعة المتضرّرة من النزاع.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

1 ـــ فهم عوامل النزاع لفهم المصالح الراسخة التي تحول دون التطوير الاجتماعي والاقتصادي والنموّ والتنمية. وتنطلق الآلية من تحليل دوافع المجموعات المشاركة في الصراع والتفاوتات الاقتصادية والسياسية فيما بينها. وتحليل الدوافع الخاصّة لاعتماد السلوك العنيف، الذي ينبع عادة من كون الفوائد الاقتصادية المتوقّعة منه أكبر من التكاليف الناجمة عنه، ويُعزّز بإبراز العوامل الثقافية (الهوية والعرق والدين) لتلبية الدوافع. بالإضافة إلى تحديد أسباب فشل العقد الاجتماعي الذي يستمرّ طالما أن رضا الشعب عن السلطة متوافر، ومعاينة الترابط بين الصراع والندرة البيئية الذي يترجم بالتنافس للسيطرة على الموارد الطبيعية، وينجم عن استنزاف هذه الموارد بما لا يلبّي حاجة الجميع، وخصوصاً مع زيادة النمو السكاني، وتركّز الموارد لدى عدد قليل نسبياً من السكّان.
2 ـــ تقييم أضرار الحرب لكن دون التركيز فقط، كما العادة، على مصادر النموّ لتقييم تطوّر الإنتاجية الكلّية، إذ غالباً ما تكون هذه المصادر في مرحلة إعادة الإعمار خارجية (مساعدات وتدفّقات مالية ...) وإنّما التركيز على قضايا مهمّة مثل: مؤشّرات التنمية البشرية والأمن البشري (الصحّة والتعليم والوفيات عند الولادة والتشرّد)، لتقييم مدى طلب السكان على الخدمات العامّة المفترض توفيرها. وكذلك البنية التحتية (النقل والاتصالات والمياه والطاقة ومخزون المساكن)، لتخصيص الموارد لها. فضلاً عن تقديرات النزوج والهجرة، لتصميم السياسات الاقتصادية المناسبة التي تعوّض خسارة الأدمغة والرأسمال وتعزّز سوق العمل.
3 ـــ مؤسّسات البناء وإعادة البناء بهدف تحديد المؤسّسات الرئيسية، التي تسبّب غيابها أو فشلها، في العنف والحرب، واقتراح إصلاحات مناسبة ومجدية، كإعادة تأسيس حقوق الملكية وإتاحتها للناس لتحفيزهم على الإنتاج والاستثمار، وإزالة الامتيازات الاقتصادية وتحكّم النخب بالاقتصاد، وتعزيز المنافسة وعدم حصر المنافع لدى القلّة القليلة، وتقوية الحكومة المركزية وجعل دورها أكثر فعالية.
4 ـــ السياسات الاقتصادية الكلّية لتأمين نمو متوازن في البلدان التي دمّرتها الحرب عبر تنفيذ إصلاحات هيكلية عميقة، تنطلق من إعادة تشكيل الاقتصاد ومكافحة السوق السوداء للعملة الأجنبية، ووضع سياسات مكافحة التضخّم والعجز الحكومي، وهما سمتان بارزتان في اقتصادات ما بعد النزاع، وذلك عبر الحدّ من طبع العملة وزيادة التحصيل الضريبي والحدّ من التهرّب الضريبي وإدارة تدفّقات الموارد العامّة، ويضاف إلى ذلك استئناف النموّ الاقتصادي وتطوير القطاع الخاص الذي يعتبر دوره أساسياً في توليد النموّ والعمالة، فضلاً عن حسن إدارة المعونات الخارجية والتدفّقات المالية بعيداً من أخطار «المرض الهولندي».
5 ـــ سياسات الاقتصاد الجزئي، التي تساعد في حفظ السلام وتوفير الإغاثة للسكّان، بحيث تطال المجال الاجتماعي - الاقتصادي عبر الإنفاق على الاحتياجات والقطاعات الاجتماعية للحدّ من الفقر ودعم العمّال، والمجال الضريبي ليكون النظام الضريبي أكثر كفاءة وإنصافاً.
هل يمكن لسوريا النهوض مجدّداً؟

رتّبت الحرب السوريّة أضراراً كبيرة كانت آثارها تراجيدية على الشعب السوري والاقتصاد. فخلال ثماني سنوات من الصراع الدموي، خسرت سوريا نحو 538 ألف وظيفة كمعدّل سنوي، وانضمّ سنوياً نحو 482 ألف شخص إلى فئة العاطلين عن العمل، وارتفع معدّل البطالة فيها إلى 60%.
أيضاً، عاد متوسّط سنوات الدراسة إلى مستويات عام 2003، إذ انخفض إلى 5.1 سنة، وخرج أكثر من 1.75 مليون طفل من المدرسة، وانخفض العمر المتوقّع عند الولادة بنحو 5 سنوات.
في الواقع، لا يعمل اليوم في سوريا سوى 57% من المرافق التعليمية ونصف المرافق الصحيّة. أمام هذه الأضرار الإنسانية يصبح الحديث عن الفقر المالي أكثر تعبيراً مع ارتفاع معدّلاته بشكل حادّ من 33 إلى 80% بين عامي 2011 و2017.
كما خسر الناتج المحلّي السوري نحو 58% من مستواه بالمقارنة مع عام 2010. وتقدّر الخسائر المتراكمة في الناتج بنحو 269 مليار دولار. أمّا حجم دمار رأس المال المادي فقد بلغ نحو 120 مليار دولار.

80%

هو معدّل الفقر المالي في سوريا في عام 2017 علماً أنه ارتفع من نسبة 30% في عام 2011


خسرت الليرة السورية 10 أضعاف قيمتها، وزاد التضخّم نحو 8 مرّات، وخسرت الأجور 10 أضعاف قيمتها، وانخفضت الإيرادت 4.5 مرّات، والنفقات نحو 4 مرّات. وتمّ تدمير بيئة الاستثمار والتجارة وهربت الرساميل، وكانت الخسارة في رأس المال البشري كبيرة وضعضعت هيكلية القوى العاملة.
هذه النتائج يستعرضها تقرير اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا التابعة للأمم المتحدة (ESCWA)، ويستند إليها في اقتراحاته لتطوير سياسات بديلة لسوريا مبنية على أسباب الصراع وآثاره، تحت عنوان «أجندة وطنية لمستقبل سوريا».
ينطلق التقرير من أن الخيار الأمثل للبلدان المتأثّرة بالصراع هو «ضمان تدفّق مستمرّ للمساعدة الإنمائية خلال فترة إعادة الإعمار»، لكن قد يكون ذلك غير ممكن بالنسبة إلى سوريا نتيجة الظروف الجيوسياسية الحالية، وانقسام المجتمع الدولي حول الحرب نفسها ومحدودية مشاركة بلدان المنطقة، من هنا تتضمّن أجندة ما بعد الصراع أطر عمل تطاول محرّكات النمو وسياسات الاقتصاد الكلّي.
1 ـــ محرّكات النمو: رغم الحرب الدائرة إلّا أن الحياة الاقتصادية والاجتماعية في سوريا لم تتوقّف، ما يبيّن أهمّية العنصر السوري بوصفه محرّكاً أساسياً للنموّ وتوليد فرص العمل وتلبية حاجات السكان وإعادة دمج المتقاتلين والنازحين، وذلك من خلال الجهود والمبادرات التي يمكن للمجتمعات المحلّية والأفراد والأسر والشركات أن تقوم بها لتحفيز الحياة الاقتصادية بعد الحرب، والدور الذي يمكن للمغتربين الناشطين لعبه في تمويل عملية إعادة الإعمار والتأثير عليها.
أمّا أبرز القطاعات التي يمكن أن تحرّك النمو بعد نهاية الصراع، وفق تقرير «الإسكوا»، فهو القطاع الزراعي الذي يتطلّب عمالة كثيفة ويضمن الأمن الغذائي. قطاع البناء الذي يتطلّب أيضاً عمالة كثيفة ويبرز كحاجة أساسية للمجتمعات المتضرّرة والمهجّرين واللاجئين العائدين. القطاع المالي الوسيط الذي يحرّك المصادر المالية من الداخل (المدّخرات) ومن الخارج (التحويلات) نحو القطاعات التي تحتاج إلى التمويل، لولا أنه الآن مكبّل بالعقوبات. الشركات الصغيرة والمتوسّطة وخصوصاً في قطاع التصنيع التي تملك فيها سوريا سوقاً واسعة وقدرة تنافسية. فضلاً عن قطاعات البنية التحتية الاجتماعية والاقتصادية المفترض إعادة بنائها والتي تزيد الإنتاجية وتخفّض الكلفة وتوسّع الأسواق وتعيد تكوين رأس المال البشري.
2 ـــ الاقتصاد الكلّي: الهدف الأساسي للسياسات الاقتصادية الكلّية في مرحلة ما بعد الحرب، وفق «الإسكوا»، هو تعزيز الاستقرار الاقتصادي، وتحفيز النمو الشمولي والمستدام، وتوليد فرض عمل، ومعالجة عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية الشديدة للحدّ من مخاطر تجدّد الصراع.


عملياً، تقترح «الإسكوا» أن تقوم سياسات الاقتصاد الكليّ بترميم الضغوط التضخّمية، وأن تمتصّ تقلبات سعر الصرف، وأن تساعد على استعادة نشاط القطاع الخاصّ وإعادة بناء رأس المال البشري والمادي، والاستجابة إلى الحاجات الإنسانية الطارئة.
تواجه السياسة المالية مشكلات رئيسية في مرحلة ما بعد الصراع، تكمن، وفق «الإسكوا»، في القاعدة الضيقة للإيرادات في مقابل الإنفاق الجاري المرتفع والتضارب في أولويات الحاجات القصيرة المدى والطويلة المدى، فضلاً عن التوقّعات العالية للناس وتوسّع عجز الموزانة ومراكمة الديون وعدم استدامة المساعدات الخارجية، وهو ما يتطلّب إصلاح الإدارة المالية العامّة عبر تحديد الأولويات وتوسيع القاعدة الضريبية من خلال فرض الضرائب على الدخل والأرباح ورفع الإعفاءات عن نشاطات المنظّمات الدولية وتشجيع القطاعات الواعدة مثل الصناعة التحويلية التي تحتاج إلى حمائية، ودعم الشرائح التي تحتاج للمساعدة لتجنّب تجدّد الصراع.
أمّا في ما يتعلّق بالسياسة النقدية، فيفترض، وفق توصيات «الإسكوا»، تحقيق استقلالية المصرف المركزي، وتأمين استقرار العملة كمفتاح لجذب رأس المال، وذلك من خلال تشكيل مخزون من العملات الصعبة عبر تدفّقات المساعدات الخارجية والاستثمارات الأجنبية المباشرة وتحويلات المغتربين والنموّ المرتفع للاقتصاد وخصوصاً في المراحل الأولى، وضبط التضخّم رغم كونه أحد التحدّيات الأساسية عبر تأمين توزاناته من خلال المساعدات التي يمكن الاستناد إليها لاستبدال عائدات السندات، ما يقلّل من اعتماد الحكومة على التمويل التضخّمي. فضلاً عن اعتماد نظام سعر صرف مرن ضمن حدود يمكن السيطرة عليها وتفادي تقلّبات سعر الصرف وبما يترك مجالاً لإدارة التنافسية وتصحيح الخلل في التوازن التجاري، ويؤمّن مرونة في الأسعار التي تشجّع التصدير.