تتوالى التحليلات والتقديرات المتشائمة بشأن الوضع الاقتصادي في لبنان. يجمع أصحاب هذه التحليلات على أن هذا الوضع سوف يفضي لا محالة إلى اندلاع أزمة مالية. المقصود بالأزمة المالية انهيار لسعر صرف الليرة، أي ارتفاع في سعر الدولار يجعله أعلى من السعر الثابت الذي هو عليه منذ آخر 1992. تختلف التحليلات في منشأ الأزمة. هل سيكون منشؤها القطاع العقاري بحيث يؤدّي انخفاض المبيعات إلى تعثّر المطوّرين العقاريين وتوقفهم عن تسديد القروض التي استلفوها من المصارف، ما يؤدي إلى انهيار المصارف نفسها؟ أم يكون منشؤها تحويلات كثيفة من الليرة إلى الدولار يعجز المصرف المركزي عن التصدي لها وتؤدي إلى ارتفاع سعر الدولار بشكل دائم؟ في حال أدّى الوضع إلى انهيار سعر صرف الليرة في سوق القطع، أي ارتفاع سعر الدولار، فإن النتيجة هي ارتفاع بالنسبة نفسها لأسعار السلع المستوردة، وبالتالي لأسعار السلع الاستهلاكية، وانهيار بالنسبة نفسها للقدرة الشرائية للمداخيل، وعلى الأخص الأجور. أي إذا ارتفع سعر الدولار من 1500 ليرة إلى 3000 ليرة للدولار، فسينجم عن ذلك ارتفاع الأسعار بنسبة 100% وانخفاض القدرة الشرائية للأجور بنسبة 50%. أي سيخسر الموظفون والأجراء في القطاعين العام والخاص نصف قدرتهم الشرائية. هل هذا أمر مقبول أو مبرّر؟ وهل يمكن التصدي للأزمة التي لا يفتأ الكل يعلن عنها بشكل مسبق، وتلافي مفاعيلها الكارثية؟ وهل هناك مصلحة وطنية في ذلك؟
نعرض أولاً المعطيات التي تسوقها الدراسات والصحافة كسبب يحتّم اندلاع الأزمة. ونعرض ثانياً ما تقوله النظرية النقدية الدولية، أي المقاربة النيو-كلاسيكية للعلاقات النقدية الدولية، التي تبرّر خفض سعر صرف العملة. وهي المقاربة التي تعتمدها المؤسسات المالية الدولية وأولها صندوق النقد الدولي. ونعرض ثالثاً واقع الارتباط بين المؤسسات الدولية وبين مسؤولي البلدان النامية بما يجعل خبراء هذه المؤسسات قادرين على إقناع هؤلاء المسؤولين بالموافقة على تسويغ انهيار سعر صرف العملة من دون التصدي لذلك. ونعرض أخيراً المبررات التي تفرض على اللبنانيين أن يتشبثوا بثبات سعر صرف عملتهم وكيفية ذلك.

1. المعطيات التي تسوقها الدراسات والصحافة
توالى صدور تقارير أعدّتها المؤسسات الدولية عن لبنان. هناك ثلاثة تقارير صدرت عن صندوق النقد الدولي بين خريف 2017 ومطلع 2018، وهناك تقارير البنك الدولي الفصلية عن لبنان. توجّس المراقبون من هذا الاهتمام الزائد من قِبل هذه المؤسسات بلبنان. رأوا أنها ربما تكون في معرض تحضير طبق مرّ له.
سيلفانو ميللو ــ البرازيل

يمكن أن نستدل على موقف صندوق النقد الدولي من الأوضاع في لبنان من خلال نصين مختصرين صدرا في 2018. أعدّ النص الأول خبراء بعثة الصندوق التي زارت لبنان بين 1 و 12 شباط / فبراير 2018 (بيان خبراء، 12 شباط/ فبراير 2018). وكانت أهم توصياته ثلاثاً: 1) إعداد خطة فورية لضبط عجز الموازنة لتثبيت الدين العام كنسبة من الناتج ووضعه على مسار تنازلي. وهي قدّرت الدين العام الإجمالي باعتباره يساوي 150 % من الناتج، وعجز الميزان الجاري باعتباره يساوي 20 % من الناتج؛ 2) التأكيد على البنوك لاعتماد مقررات بازل -3 التي تزيد قدرتها على الاحتراز من مخاطر الديون الهالكة؛ 3) إصلاح قطاع الكهرباء من خلال رفع التسعيرة على وجه الخصوص. وقد رأت البعثة أن المشكلة تعود إلى تراجع حجم الودائع الداخلة. وهو ما ينبغي مواجهته «بخفض الاحتياجات التمويلية للاقتصاد»، أي خفض الإنفاق العام وخفض حجم الاستيراد. وتناول التقرير موضوع سعر صرف الليرة قائلاً للمرّة الأولى منذ 1993 بأن هناك «مبالغة كبيرة في تقييم سعر الصرف الفعلي الحقيقي». والمقصود بذلك أنه ينبغي خفض سعر الصرف الاسمي لليرة، أي رفع سعر الدولار بالليرة اللبنانية. واستعاد بيان المجلس التنفيذي للصندوق هذه التوصيات مشدداً على ضرورة زيادة الضريبة على القيمة المضافة ورفع تسعيرة الكهرباء وكبح أجور القطاع العام (بيان المجلس التنفيذي، حزيران / يونيو 2018).

2. نظام الصرف في لبنان
هو نظام شبه معوّم منذ 1948، عام انتهاء الوحدة النقدية مع سوريا، وخلق ليرة لبنانية منفصلة عن الليرة السورية. تم تعيين سعر صرف رسمي للعملة اللبنانية في ذلك العام، أي قيمة كل ليرة لبنانية مقابل الذهب ومقابل الدولار، عملاً بمبادئ نظام «بروتون وودز». وهو سعر لم يُستخدم إلّا في التعاملات الرسمية للدولة، في حين كان هناك سعر آخر أكثر انخفاضاً، هو سعر السوق. كان هذا الأخير يعكس التعاملات اليومية في سوق القطع، عرضاً وطلباً على الدولار. وحين أُنشئ المصرف المركزي عام 1964، حدّد قانون النقد والتسليف «سعراً رسمياً انتقالياً» لمدة عشر سنوات، كان هو نفسه سعر السوق آنذاك. وبشكل عام، وحتى 1982، كان الاتجاه العام لسعر الصرف هو التحسّن لا الانخفاض، وهو ما سمّاه المدّاحون «العملة القوية». وذلك بسبب وجود عرض للدولار والعملات الصعبة يفوق الطلب عليها في السوق المحلية، يعبّر عنه فائض ميزان المدفوعات الدائم.
أما سبب وجود طلب على الدولار أقل من العرض له، فكان سببه الرئيسي التزام الحكومات المتعاقبة الامتناع عن الإنفاق التنموي، لكي لا تتسبّب بحصول عجز في موازنات الدولة السنوية. وقد عبّرت تجربة لبنان حتى 1975 عن سيطرة القطاع المصرفي، الذي كان يحتاج لثبات سعر صرف الليرة لاستقطاب المدّخرات والرساميل من الخارج. كذلك عكست التزام الدولة تحقيق هذا الهدف. وقد دفع ذلك هذه الأخيرة إلى التخلّي عن مسؤولياتها التنموية، الأمر الذي أدى إلى إفراغ ريف لبنان من أهله، وتهجير هؤلاء إلى أصقاع الأرض الأربعة. ومنذ 1993، استعادت التجربة اللبنانية خصائص ما قبل 1975، لجهة أولوية القطاع المصرفي وأولوية ثبات سعر صرف الليرة لخدمة أهداف هذا القطاع.
وبما أن سعر صرف الليرة لم يتغيّر منذ 1995، فيمكن إطلاق صفة «المعوّم الزاحف» (crawling) على سعر الصرف القائم حتى اليوم.

3. نماذج الاقتصاد الكلي النيو-كلاسيكية التي تسوّغ خفض سعر صرف العملة
يمكن الاستعانة بنموذج مونديل-فليمنغ بصيغة السبعينيات، وبنموذج العرض والطلب الإجماليين ضمن اقتصاد مفتوح، وبالنموذج النقدي، لتعريف خصائص نظام الصرف «المعوّم الزاحف» ونظرة المؤسسات الدولية إلى الدور المنوط بخفض سعر الصرف.
يفيدنا الأول في أمرين، أولهما تعريف ميزان المدفوعات، وثانيهما كيفية حفاظ المصرف المركزي على سعر صرف مثبّت. وفي التعريف الذي يقدمه لميزان المدفوعات، فإن هذا الأخير هو مجموع العمليات المدرجة في الميزان الجاري وفي ميزان حركة الرساميل. يكون العرض والطلب على العملات الصعبة حصيلة التصدير والاستيراد للسلع والخدمات، وحصيلة حركة دخول وخروج الرساميل أيضاً. وهي حركة يتيح تحريك سعر الفائدة التحكّم بها. ويؤدي ارتفاع سعر الفائدة المحلية (i)، مقارنة بسعر الفائدة في بقية العالم (if) إلى دخول الرساميل، وتحقيق رصيد إيجابي في ميزان حركة الرساميل يغطي العجز المحقّق في الميزان الجاري. أما إذا ارتفعت الفوائد العالمية فإنها تؤدي لخروج الرساميل وتسهم في التسبّب بعجز ميزان المدفوعات (فيدال، 1999). تقع على المصرف المركزي في هذا النموذج مسؤولية شراء العملات الصعبة بما يؤمن له الاحتفاظ بـ«كتلة مناورة» مهمة من هذه العملات. من شأن ذلك أن يسمح له بالاستجابة للطلب على هذه العملات، بحيث لا يتأثّر بذلك سعر الصرف الثابت. يكون نظام الصرف المعوّم الزاحف في هذه الحالة تحت الرقابة (managed).
يفيدنا النموذج الثاني في أمرين هو الآخر. الأمر الأول في التعبير عن أن نظام الصرف المرن هو أفضل من نظام الصرف الثابت، عاكساً في ذلك ما تُجمع عليه النماذج الاقتصادية النيو-كلاسيكية الثلاثة. والمقصود بنظام الصرف المرن، ترك سعر صرف العملة ينخفض أو ينهار في حالة انحسار اقتصادي وبطالة، مترافقين مع وجود عجز في ميزان المدفوعات. يؤدي خفض سعر صرف العملة في حالة كهذه إلى تعزيز تنافسية السلع المحليّة المعدّة للتصدير إلى الأسواق الخارجية، وزيادة الصادرات والخروج من حالة الانحسار الاقتصادي (المصدر نفسه).

4. مواجهة «صدمات العرض»
أما الأمر الثاني الذي يفيدنا به نموذج العرض والطلب الإجماليين، فهو جعله خفض سعر صرف العملة أو اعتماد سياسة نقدية توسعية، حلّين لمواجهة «صدمات العرض». تكون هناك «صدمة عرض» إذا ارتفعت الأجور وأدت إلى ارتفاع الكلفة وخفّضت قدرة المؤسسات الإنتاجية على الاستثمار. يؤدي خفض سعر صرف العملة إلى تحسين تنافسية السلع الوطنية كما سبقت الإشارة. وتؤدي زيادة الكتلة النقدية إلى ارتفاع للأسعار يؤدي بدوره لخفض القدرة الشرائية الفعلية للأجور، وإعادتها بالقيمة الفعلية إلى ما كانت عليه قبل «الصدمة» (المصدر نفسه).
لا تختلف النماذج النقدية السائدة منذ سبعينيات القرن الماضي، والمعتمدة من قبل المؤسسات الدولية كـ«روشتة» تصلح لكل بلدان العالم، عن النموذجين السابقين سوى في تشديدها على أهمية تلافي «صدمات العرض»، بمعنى الامتناع عن رفع الأجور لكي لا ترتفع كلفة الإنتاج (المصدر نفسه). لا ترى النماذج النيو-كلاسيكية في الأجور إلا عنصر كلفة، يُحبِط ارتفاعها القدرة على الاستثمار الخاص. وهي تحذّر من التهاون في ضبطها، خصوصاً ضمن إطار نظام صرف مثبّت، أي معوّم زاحف تحت الرقابة (المصدر نفسه). أما إذا ازداد عدد العاملين في القطاع العام، أو تمّ تصحيح أجورهم، فسيرتفع في هذه الحالة الإنفاق العام، ويؤدي إلى ازدياد عجز الموازنة. ولا حلّ لضبط هذا الإنفاق والحدّ من كلفته بالنسبة للنظرية النيو-كلاسيكية سوى بخفض سعر صرف العملة. يخفّض هذا الأخير كلفة كتلة الأجور والرواتب. تقول لنا النماذج النيو-كلاسيكية كلها إنه يمكن احتواء «صدمة عرض» متمثّلة في ارتفاع للأجر الحقيقي بنسبة 30 % مثلاً، من خلال خفض لسعر صرف العملة بالنسبة نفسها.

5. مواجهة عجز الميزان الجاري
يتيح خفض سعر صرف العملة أيضاً ضبط القدرة الوطنية على الاستيراد. فهو يتسبب برفع أسعار المستوردات بالعملة المحلية ويجعل الاستيراد أكثر صعوبة ويحد من القدرة عليه. أي إنه يخلق حالة انكماش اقتصادي (recession) يعوّل عليها لخفض عجز الميزان الجاري في ميزان المدفوعات. تسمى هذه المقاربة لضبط العجز في الميزان الجاري «تصحيحاً انكماشياً بواسطة سعر الصرف» (جاكمو، 1989). كان خفض سعر صرف العملة يصوَّر لبلدان العالم الثالث باعتباره الوسيلة المثلى لتعزيز القدرة على التصدير، وذلك في بلدان لا شيء لديها تصدره، ولا تستطيع تطوير قدرة على التصدير لا في وقت قريب ولا في وقت بعيد. وكان خفض سعر صرف العملة ينجح في خفض عجز الميزان الجاري ليس من خلال تعزيز القدرة على التصدير بل من خلال الحد من القدرة على الاستيراد. هذه هي الطريقة البربرية التي اعتمدتها المؤسسات الدولية منذ الثمانينيات للتصدي لعجز ميزان المدفوعات. وهي لا تزال تعتمدها حتى الساعة.

6. قدرة المؤسسات الدولية على الإقناع
تقول الباحثة أبراهمسن إن المؤسسات الدولية تخلّت عن فرض برامجها للإصلاح الاقتصادي على البلدان النامية بالطريقة التي كانت معتمدة أيام «سياسات التصحيح الهيكلي» خلال الثمانينيات والتسعينيات. اعتمدت مقاربة أخرى عنوانها إقناع مسؤولي هذه البلدان بأن لهم مصلحة في أن يكونوا متعاونين. وهي باتت تركّز على شرح ما تريده لهم بهدف كسبهم إلى جانبها وجعلهم يعتنقون مواقفها (أبراهمسن، 2004). وقد اتخذ البنك الدولي موقفاً معارضاً لتعديل سلسلة الرتب والرواتب لتصحيح أجور العاملين في القطاع العام عام 2013 (البنك الدولي، حزيران/ يونيو 2013). وفي ما بعد اعتبر المكتب الإقليمي للبنك الدولي في بيروت أنه مخوّل وضع خطة عمل لرئيس الجمهورية تنفّذ خلال المئة يوم الأولى من عمر العهد (البنك الدولي، 2017). وقد ركّز في هذه الخطة على إقرار موازنة لـ 2017 تتضمّن فائضاً أولياً، وزيادة توليد الطاقة وزيادة تعرفات الكهرباء، وإطلاق مشاريع نقل عام وتوسيع برنامج مساعدة الفقراء. وأشار تحقيق صحافي إلى أن رئاسة الحكومة تعتمد في المشاريع التي تعدّها على فريق عمل مكوّن حصراً من عاملين بإشراف «برنامج الأمم المتحدة للتنمية» (وهبه، 2017).
وطبعاً فإن لبعثات صندوق النقد الدولي السنوية كلمة الفصل في الحكم على الشأن الاقتصادي اللبناني. وهي كانت على مدى السنوات السابقة تحبّذ الإبقاء على سعر الصرف المثبّت (صندوق النقد الدولي، 2017). وقد تغيّر الوضع منذ شباط / فبراير 2018، تاريخ آخر بعثة. يقول بيانا الصندوق لشباط/ فبراير وحزيران/ يونيو 2018 إنه حتى لو تم ضبط عجز الموازنة بخفض الإنفاق وزيادة الإيرادات من خلال زيادة الضريبة على القيمة المضافة ووضع رسم على البنزين وزيادة تعرفة الكهرباء، فسوف تبقى المشكلة كامنة في عجز ميزان المدفوعات. الأمر الذي يبرر إصرار خبراء الصندوق على اقتراح خفض سعر صرف الليرة (بيان خبراء الصندوق).


الدفاع عن سعر الصرف المثبّت لليرة اللبنانية واستباق الانهيار
يجب أن يتكوّن رأي عام معارض لخفض سعر صرف الليرة، لأن الهدف من هذا الخفض إذا حصل هو انتزاع القدرة الشرائية الحالية للأجور أي إفقار أصحابها. وذلك من دون أن تكون له أية نتائج إيجابية من أي نوع. يتطلّب تعزيز قدرة لبنان على الإنتاج والتصدير أكثر بكثير من مجرد خفض سعر صرف الليرة. ينسجم هذا الرأي مع الموقف المعبّر عنه من قِبل حاكم مصرف لبنان (زبيب، 2018). ينبغي التفكير والتداول في كل الوسائل الممكنة التي تجنّب لبنان هذا الخفض.

السيناريو الكارثي
في تجربة 1984، كان ارتفاع العجز في الموازنة وتراكم الديون على الدولة وتيقّن دائنيها (أي المصارف) من أنها لم تعد قادرة على سداد ديونها، سبب الهروب من الليرة. وفي تجربة 1992، افتعل المعترضون على الإجراءات الحكومية طلباً على الدولار جعل البنك المركزي غير قادر على مواجهته. ترك البنك المركزي في الحالتين تحديد سعر الدولار لقوى السوق. الأمر الذي عنى أنه تخلى عن مسؤولياته ووقف يتفرج على انهيار سعر صرف الليرة. وبما أنه أصبحت لدينا تجربة وطنية في كيفية افتعال خفض لسعر صرف العملة، فإنه يمكن تصوّر السيناريو التالي: يمكن أن يستفيق اللبنانيون ذات صباح ويجدوا أن محلات الصرافة ترفض بيع الدولار بالسعر المتداول وتطلب أكثر. ينتهي النهار بأن سعر الدولار يصبح أعلى بسبب إصرار الشارين على الشراء وإصرار البائعين على رفع السعر. يحجم البنك المركزي عن التدخّل طوال النهار إن لفرض التعامل بالسعر المثبّت أو لتوفير دولارات. يبقى في خلفية الصورة. كما تبقى المصارف في خلفية الصورة هي الأخرى من خلال امتناعها عن التعامل بالدولار بيعاً وشراء وترك محلات الصرافة تحدد هذا السعر. هذا كان سيناريو خفض سعر صرف الليرة عام 1992 حين ارتفع سعر الدولار من 879 ليرة في شباط/ فبراير إلى 2825 ليرة. في آخر أيلول/ سبتمبر من العام نفسه. ماذا ينبغي إزاء هذه الحال؟

ضبط الطلب على الدولار
ينبغي الحد من عجز الميزان الجاري وميزان المدفوعات ككل. هذا ما يسعى إليه حاكم مصرف لبنان. وقد رفض الاستجابة، في لقائه الشهري في 25 أيلول/ سبتمبر مع ممثلي جمعية المصارف، لطلب هؤلاء استثناء القروض السكنية من سقف التسليف، معتبراً أن ضخ سيولة إضافية بالليرة سوف يتحول إلى طلب على الدولار. وقال للمصارف إن عليها إيجاد ودائع بالليرة إذا أرادت زيادة التسليفات بالليرة (وهبه، 18/9/2018). وقال مودعون إن المصارف رفضت تحويل ودائعهم إلى الدولار ورفضت خروج الودائع من المصرف إلا بالليرة (المصدر نفسه).

خفض العجز في الموازنة
يضع خبراء المؤسسات الدولية ومؤسسات التصنيف هذا المؤشر في رأس لائحة المتغيرات التي يبنون عليها حكمهم على الأوضاع. الخيار الآن بالنسبة إلى اللبنانيين هو بين أن يتعرضوا لحصول السيناريو الكارثي أعلاه أو أن يدفعوا ضرائب ورسوماً أكثر، تقتطع نسباً إضافية من مداخيلهم لخفض عجز الموازنة وتحقيق فائض فيها. وذلك لكي يستعيد قطاع الأعمال والمموّلون ثقتهم بالدولة ويرتدعوا عن الهروب من الليرة. أن يصار لرفع الضريبة على القيمة المضافة من 12% إلى 15% مع رفع تسعيرة كيلوواط الكهرباء لهو خيار أفضل من الممانعة والتسبب بانهيار سعر صرف الليرة.

تمديد آجال تسديد الدين العام
لقد عمدت الدولة منذ التسعينيات إلى استبدال قسم متزايد من سندات الخزينة القصيرة الأجل بسندات ذات أجل أطول. وينبغي المثابرة في هذا الاتجاه.

التصدي للصندوق في مسألة سعر صرف الليرة
لم يعد ما يقوله صندوق النقد الدولي «منزلاً». حطّمت الأزمة الآسيوية أواخر التسعينيات صورة المؤسسات الدولية في عموم البلدان النامية. ضغطت هذه المؤسسات على البلدان النامية لتزيل الحواجز على حركة دخول وخروج الرساميل. وحين استجابت هذه الأخيرة كانت النتيجة أزمات مالية حادة اندلعت في أرجاء العالم الثالث، كان يتسبّب بها هروب المودعين الأجانب.
حاول العديد من البلدان النامية الخروج من سيطرة مؤسسات «بروتون وودز» بأشكال شتى. أنشأت بلدان آسيا مثلاً صندوق نقد أسيوياً يتولى مهمات المقرض الأخير ويعفي من إملاءات صندوق النقد الدولي (غرابل، 2014). جعلت هذه التطورات الصندوق مجبراً على التعامل مع واقع دولي حيث البلدان النامية تتصدى للمشاكل الناجمة عن حركة الرساميل من دون العودة إليه.
استعادت الباحثة إيلان غرابل كيفية تقبّل صندوق النقد الدولي ما لم يكن ممكناً أن يتقبّله في السابق، أي فكرة الرقابة على حركة الرساميل. أصبحت التدخلات الحكومية غير المقبولة في أسواق المال هي نفسها «إجراءات مالية احترازية» (prudential financial regulations) (المصدر نفسه). أرجعت ذلك إلى التغيير في طريقة تفكير العاملين فيه، وإلى التصدي الناجح من قبل بلدان نامية عديدة للأزمات المالية التي كانت تتعرّض لها واكتسابها مصداقية في هذا المجال. تقوم بلدان نامية بـ«فلترة» الرساميل التي تدخل إليها وتضع حواجز على خروج الرساميل من دون أن تثير امتعاض أصحاب هذه الرساميل (المصدر نفسه). وافق الصندوق على إجراءات من هذا النوع لجأت إليها دول كثيرة خلال السنوات السابقة (المصدر نفسه).
يمتلك مصرف لبنان عناصر قوة في هذه المواجهة، ليس أقلها الاحتياطي الهائل بالدولار الذي راكمه. ويستطيع كما فعلت بلدان أخرى أن يستثمر هذه العناصر. والمطلوب في ما يخص حركة الرساميل هو إبطاء حركتها و«فلترتها» (غرابل، 2003؛ داغر، 2012). وهو ما يمكن أن تتولاه مؤسسة عامة أو مختلطة يصار لإنشائها. والأهم في الوقت الحاضر هو توفير الدعم لموقف حاكم مصرف لبنان في الإبقاء على سعر صرف مثبّت لليرة.

فتح تحقيق في ملابسات ما حصل في أيلول / سبتمبر 2017
لقد صدرت دراسة للباحث توفيق كسبار في أوائل أيلول / سبتمبر 2017 تناولت بالنقد تجربة البنك المركزي ونشرتها «الأخبار» واستدرجت تعقيبات (كسبار، الأخبار، 4 و5/9/2017). وكان مقرّراً عقد مؤتمر لمناقشتها في فندق لوغبريال بحضور حشد من المتموّلين الكبار. ولأن حاكم مصرف لبنان داخل المعمعة منذ سنوات طويلة، فقد وجّه في لقائه الشهري مع جمعية المصارف بعد أيام من صدور الدراسة «اتهامات بوجود عمل مخابراتي ضد المصرف المركزي». بهدف استثارة حالة ذعر تدفع للهرب من الليرة (الأخبار، 18/9/2017). وذلك وفق سيناريو تكرّر مرّات ومرّات في بلدان نامية. ألم يقل الصحافي توماس فريدمان في لقاء له غير رسمي مع مسؤولين في الجامعة العربية قبل سنوات، أن الولايات المتحدة بعد تحرير حركة الرساميل خلال الثمانينيات والتسعينيات باتت قادرة على افتعال أزمة مالية في أي بلد من بلدان العالم؟
تصريح الحاكم لم يدوّن في محضر اللقاء! علماً أن هذا المحضر سجّل أسف المشاركين «لاستغلال ورقة بحثية لإحداث بلبلة في السوق». وانتظرنا أن يصار للتوسّع في التحقيق لمعرفة الأطراف المتهمة بخلق شائعات تنتقل بالعدوى وتؤدي إلى هروب المودعين بالليرة وخفض سعر صرف الليرة، أي التسبّب بكارثة وطنية. ينبغي فتح التحقيق لمعرفة حقيقة ما حصل في 2017 وما يحصل في الفترة الأخيرة في سوق اليوروبوندز.

النزول إلى الشارع
ينبغي في هذا الإطار أن يتحضّر اللبنانيون للنزول إلى الشارع بمجرّد الشروع بتطبيق السيناريو الكارثي. ويجب أن يدافعوا بالتظاهرات عن سعر الصرف المثبّت لعملتهم.

* أستاذ جامعي، باحث اقتصادي

المراجع
Abrahamsen Rita, «The power of partnership in global governance», Third World Quarterly, 25 (8), 2004, pp. 1453–1467

Grabel Ilene, «The rebranding of capital controls in an era of productive incoherence», Review of International Political Economy, 2014, 37 pages

Grabel Ilene, «International Private Capital flows and Developing Countries», in H-J Chang (ed.), Rethinking Development Economics, London: Anthem press, 2003, pp. 325-345

International Monetary Fund, Lebanon: Financial System Stability Assessment, Country Report, No. 17/21, January, 2017, 70 pages

Jacquemot Pierre, «Rôle du taux de change dans l'ajustement d'une économie à faible revenu: une revue de la littérature récente», Revue Tiers Monde, n. 118, avril-juin, 1989

Vedel Claude, Théorie Monétaire Internationale, Economica, Paris, 2ème édition, 1999

World Bank, Economic and Labor Force Impact of the Proposed Change in the Wage Structure of the Public Sector, Report no. 79324-LB, June 2013, 35 pages

«سلامة: «الأشباح» تحاول هزّ الاستقرار النقدي»، الأخبار، 18/9/2017

ألبر داغر، «احتمالات الأزمة المالية في لبنان»، الأخبار، 22/3/2010
أعيد نشرها في ألبر داغر، أزمة بناء الدولة في لبنان، دار الطليعة، 2012، 224 صفحة، ص. 188 - 192

ألبر داغر، «سياسة سعر صرف العملة: التجربة اللبنانية والدور المطلوب من هذه السياسة»، نشرت في مجلة الدفاع الوطني اللبناني، العدد 42، تشرين الأول/أكتوبر 2002. وأعيد نشرها في ألبر داغر، أية سياسة صناعية للبنان: مقاربة مختلفة لدور الدولة في الاقتصاد، «المركز اللبناني للدراسات»، 2005، 197 صفحة، ص. 75 – 125

البنك الدولي، «10 توصيات على المدى القصير»، الأخبار، 28/4/2017

توفيق كسبار، «الأزمة المالية في لبنان»، الأخبار، 4 و5/9/2017

صندوق النقد الدولي، «المجلس التنفيذي يختم مشاورات المادة الرابعة مع لبنان»، 22 تموز/ يونيو 2018، 7 صفحات

صندوق النقد الدولي، «لبنان: بيان خبراء الصندوق في ختام بعثة مشاورات المادة الرابعة لعام 2018»، 12 شباط/ فبراير 2018، 11 صفحة

محمد زبيب، «سندان مصرف لبنان ومطرقة صندوق النقد الدولي»، رأس المال، الأخبار، 23/7/2018

محمد وهبه، «الـUNDP في رئاسة مجلس الوزراء: نحن منفكر عنك»، الأخبار 22/8/2017

محمد وهبه، «سلامه يقرّ بـ«المرحلة الصعبة»: المهم إبعاد «الفقاعة المالية»»، الأخبار، 27/9/2018

محمد وهبه، «مؤشرات مالية مقلقة: «حرب فوائد» بين المصارف»، الأخبار، 18 أيلول 2018