غرّد السيناتور الأميركي، والمرشّح الرئاسي الجمهوري الخاسر أمام باراك أوباما، ميت رومني، قبل أيام، قائلاً إنّ «دعم أوكرانيا يُضعِف غريماً ويعزّز تفوّق الأمن القومي (الأميركي)، وهو لا يتطلّب هدْر دماء أميركية». أصبحت الولايات المتحدة تمتهن، اليوم، الحروب التي لا تكلّفها دماً، أو حتى مالاً. لكن الإمبراطورية لم تُبْنَ بالوكالة، بل كان عسكرها ومرتزقتها، في يوم من الأيام، يغزون ويدمّرون وينهبون بلاداً في رحاب عالمنا كافةً. آخر هذه الحروب المباشرة، كان الغزو الأميركي للعراق، حيث سبق لمَن نَصّب نفسه «زعيماً للعالم الحرّ» أن خيّر البشريّة بين خيارَين: «إمّا أن تكونوا معنا، أو تكونوا مع الإرهابيين». كلمات الرئيس الأميركي، جورج بوش الابن، جاءت في اليوم العاشر لهجمات الحادي عشر من أيلول على بُرْجَي مركز التجارة العالمي في قلْب الحيّ المالي لمدينة نيويورك، ومبنى «البنتاغون» الذي يؤوي موظّفي ماكينة الحرب الإمبريالية في إحدى ضواحي العاصمة الأميركية. طبعاً، لم يكُن للعراق أيّ علاقة في الهجوم الذي تبنّاه تنظيم «القاعدة» بحلّته «البن لادنية» ونفّذه خمسة عشر انتحارياً سعودياً، بالإضافة إلى إماراتيَّيْن ومصريّ ولبنانيّ. لذلك، تطلّبت المرحلة الفاصلة بين خريف عام 2001، وشتاء عام 2003، الكثير من الكذب والتلاعب بالرأي العام الأميركي والعالمي من قِبَل المنظومة الحربية والإعلامية المهيمِنة، من أجل الترويج لعقيدة بوش الابن، وصَبّ الغضب الناتج من «غزوة نيويورك» على «بعْث» العراق وأهله. هناك أوجه شبه كثيرة بين تلك الحملة وما يجري اليوم من شيطنة لـ«الحزب الشيوعي الصيني»، وإنْ كان من الصعب أن يخلق التهويل بـ«غزوة التيكتوك» الأثر الجماعي نفسه على الجمهور المطبّل للحرب، والذي ولّدتْه هجمة الـ 2001 الدموية. لكن قصّة آل بوش مع تدمير العراق لم تبدأ بالغزو الذي مرّ عليه اليوم عشرون عاماً؛ فقبل حرب بوش الابن بعقدٍ ونيّف من الزمن، كان بوش الأب قد خاض حرب العائلة الأولى على العراق. وكانت الفترة الفاصلة بين حربَي الخليج الأولى والثانية هي عبارة عن سنين من حصار خانق أَنهك الشعب العراقي، وهيّأ الأرضية للتدمير الكامل للدولة لاحقاً. الحرب الأولى كانت أوّل حرب في العالم تُنقَل على الهواء مباشرة. وعندها، سطع نجم شبكة «سي إن إن» الإخبارية التي نقلت صوراً غبارية وأخرى من أنظمة رؤية ليلية لمعارك «جيش الائتلاف» الذي قادته الولايات المتحدة ضدّ الجيش العراقي. كانت «عاصفة الصحراء»، كما سمّاها مسؤولو الترويج «الهوليوودي» في «البنتاغون» في حينه، إعلاناً متلفزاً لبدء مرحلة التفوّق الأميركي الأحادي في العالم. كانت «نهاية التاريخ» وديستوبيا الكاوبوي المنتصر التي تلته.
ما زالت منطقتنا تعيش التداعيات المباشرة لآخر حرب خاضها جنود أميركيون


«هوليوود»، في حينه، كانت تواكب وتساهم بطبيعة الحال في صناعة الأسطورة الأميركية. أحد المسلسلات التي درجت في تلك الفترة، هو «Quantum Leap»، أو «القفزة الكميّة»، الذي كان يَعرض مغامرات العالِم سام بيكيت في القفز عبر الزمن. الزمن الذي كانت تغطّيه الوثبات كان محدوداً بالسنين التي عاشها بيكيت على الأرض، أي أن المغامرات بأغلبها تغطّي أحداثاً أميركية خلال الحرب الباردة. كان يفترض من بيكيت أن يصلح أخطاء الماضي ليتمكّن من القفز إلى جسد جديد وزمن آخر، آملاً أن يعود إلى جسده وزمنه بعد النجاح بمهمّاته. المهمّ في كل ذلك، هو أن البرنامج الذي يجمع بين الخيال العلمي والفكاهة كان استعراضاً للإنجازات العلمية والعسكرية والاجتماعية التي حقّقت للولايات المتحدة تفوّقها المحتفَى به أوائل تسعينيات القرن الماضي. لا يمكن إنكار الانتصار الأميركي يومذاك، لكن المفاجئ هو أن العصر الأميركي لم يَدُم كما كان متوقّعاً. اليوم، تُعيد «هوليوود» إنتاج مسلسل «القفزة الكميّة»، كما هي الحال مع الكثير من الأفلام والبرامج، نظراً إلى الرتابة والعقم الإبداعي اللذين يسيطران على صناعة الأفلام في الغرب الأميركي في هذه المرحلة من الرأسمالية المتقدّمة. إذا كان العرض الأصلي استعراضاً للإنجازات التي حقّقت للولايات المتحدة تفوّقها، فماذا يمكن أن تستعرض النسخة الجديدة من إنجازات للإمبراطورية في الثلاثين سنة الماضية؟ «أبو غريب»، إنقاذ المصارف من الإفلاس، حروب بالوكالة، خوان غوايدو؟
الرتابة والعقم الفكري تمكّنا من نخبة واشنطن السياسية في الشرق الأميركي أيضاً، وبدأ ذلك بالظهور عشية غزو العراق على أيدي بوش الابن وجوقته من المحافظين الجدد. فالائتلاف الذي بناه لم يكن شاملاً وتمّ استبدال قدرة الإمبراطورية على الإقناع بالاستهزاء من حلفاء كما كانت الحال مع فرنسا. المشهد في الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة التي جمعت بين هرِمَين، ليس دليل عافية، ولا يوحي بالطمأنينة للهيمنة الأميركية، لكنه ليس وليد اللحظة بل هو نتاج غطرسة إمبريالية في فترة ما بين البوشَيْن.
ما زالت منطقتنا تعيش التداعيات المباشرة لآخر حرب خاضها جنود أميركيون. لكن عدم استعداد الولايات المتحدة لتحمّل تكلفة هدْر الدم الأميركي لا يعني انتهاء الهيمنة الأميركية، أو أنها لا تحاربنا بكلّ الطرق المتاحة لها بالمجّان. الأميركيون باتوا يقولون في العلن إنهم مستعدّون لمحاربة أعدائهم «حتى آخر جندي أوكراني» (أو ألماني أو تايواني أو أعرابي). ترامب قالها صراحة إن على حلفاء الولايات المتحدة «دفْع فاتورة الحماية» التي يوفّرها «شرطيّ العالم». ميزان المدفوعات بين واشنطن وأتباعها لا يعنينا؛ ما يعنينا في مرحلة أفول الإمبراطورية هو ألّا تبقى جرائمها ضد شعوبنا من دون تكلفة عليها، لأن التدمير والتجويع ومحاولات الإخضاع لن تتوقّف، لا في العراق ولا هنا.