بغداد | يشهد العراق حالة من القلق والخوف، لا سيما في محافظتَي ميسان وذي قار الواقعتَين جنوبي البلاد، بسبب أزمة المياه الحادّة. ويَعدّ مختصّون ما يَحدث بمثابة جرس إنذار من خطر مُقبل قد يكبّد البلاد خسائر فادحة في أراضيه الزراعية، وقد يولّد مشكلات اقتصادية ومناخية وبيئية خطيرة مستقبلاً. وإضافة إلى ذلك، أَجبرت أزمة شحّ الموارد المائية، خلال السنوات الثلاث الأخيرة، بعض سكّان المناطق الوسطى والجنوبية على اللحاق بركب «الهجرة القسرية»، وحملت مئات الفلاحين على النزوح إلى مناطق أخرى، كي يؤمّنوا مستقبل مواشيهم المهدَّدة بالنفوق جرّاء موجات العطش والجفاف المتصاعدة.ويُعتبر العراق المشهور باسم «بلاد الرافدين»، من بين دول العالم الخمس الأكثر عرضة للتصحّر والتغيّر المناخي، وسط تحذيرات الخبراء من وقوع «كارثة بيئية» نتيجة تراجُع كمّيات المياه القادمة من دول الجوار. وعلى خلفيّة ذلك، شرعت ملاكات وزارة الموارد المائية في إزالة التجاوزات على مياه الأنهر والجداول في عدد من المحافظات، لتخفيف شحّ المياه، فيما تُواجه كوادر الوزارة اعتداءات متكرّرة من قِبَل أصحاب البحيرات المتجاوزة، بالأسلحة الخفيفة والمتوسطّة. وتعتمد البلاد على مياه الأنهر الآتية من دول الجوار، ولا سيما دجلة والفرات، بنسبة 70%، بينما تشكّل مياه الأمطار حوالى 30% من ثروتها المائية. ومنذ سنوات، يعاني العراق من عدم تأمين حصصه المائية، فيما بدأت الأزمة تتفاقم أخيراً نتيجة «القطع الممنهج» من قِبَل تلك الدول التي تبرّر سلوكها بأن الجانب العراقي لم يَشرع في بناء السدود وتحديث طُرق الريّ لضمان احتياجاته من المياه.
وتمضي تركيا في بناء سدود ضخمة على نهرَي دجلة والفرات، ومنها "سدّ أتاتورك" العملاق على الفرات الذي أنجزتْه في عام 1990، وتَبلغ الطاقة التخزينية لبحيرته نحو 48 مليار متر مكعّب، ما يؤدّي إلى تراجُع حصة العراق المائية بنسبة 80% من النهر، وفقاً لتقارير دولية. وبحسب الخبير المائي، رمضان حمزة، فإن دول الجوار «استمرّت في فرْض الأمر الواقع بإكمالها مشاريع السدود والأنفاق ونقْل الماء إلى خارج أحواض الأنهر، فأصبح موقف العراق رهناً بقرارات هذه الدول. ومستقبلاً، ستكون هناك مقايضة رسمية للماء مقابل النفط أو أيّ مقابل آخر». ويقول حمزة، لـ«الأخبار»، إن «العراق تعدّى مرحلة المعضلة المناخية والمائية. حالياً نحن على شفا كارثة إنسانية». كما ينبّه إلى أن وزارتَي الموارد المائية والزراعة «ليس لديهما تعاون جيّد»، ومنظومات الريّ قديمة وكلاسيكية، فيما لم يتقدّم العراق في تحديث منظومته المالية لترشيد الاستهلاك، وكذلك الحال في الصناعات النفطية التي تستهلك الكثير من الماء.
وفي ظلّ المخاوف من استنزاف العراق لخزينه المائي، يقول المتحدّث باسم وزارة الموارد المائية، خالد شمال، لـ«الأخبار»، إن «العراق خسر نحو 70% من حصّته المائية، وإن الإيرادات الحالية التي تأتي من دول الجوار لم تتجاوز الثلاثين في المئة»، مشيراً إلى أن من بين أسباب انخفاض منسوب نهرَي دجلة والفرات في جميع المحافظات، هو عدم التزام دول المنبع بـ«سياسة الاستحقاق العادل» بين الدول المتشاطئة، محذّراً من أن الخزين المائي للبلاد وصل إلى «مراحل حرجة». وكان وزير الموارد المائية، عون ذياب، أوصلَ صورة عن الوضع الحالي إلى رئيس الوزراء، محمد شياع السوداني، الذي وجّه باتّخاذ جميع الإجراءات اللازمة لتفعيل ملفّات التفاوض مع دول الجوار. وبحسب شمال، فإن جميع الحكومات السابقة لم تبرم اتّفاقات تُلزم تلك الدول بضخّ حصّة العراق المائية، علماً أنها لا تزال تشرع في بناء سدود على نهرَي دجلة والفرات، وهذا سيؤثرّ على البلد الجار لها مستقبلاً. ويَلفت إلى «(أنّنا) ننتظر ذوبان الثلوج لتعزيز الخزين، وأيضاً نعوّل خلال الأسابيع القادمة على أنه سيتمّ ضخّ المياه من بحيرة الثرثار لتعزيز نهر دجلة»، مضيفاً أن «التجاوزات على الأنهر بحجّة الزراعة أثّرت بشكل كبير على نسبة المياه».
في هذا الوقت، عَقد عدد من أعضاء مجلس النواب مؤتمراً صحافياً في مبنى البرلمان، للوقوف على أسباب أزمة المياه وتداعياتها. وحذّر النائب المستقلّ، رائد المالكي، في المؤتمر، من تفاقُم مشكلة الجفاف وقلّة منسوب المياه في نهرَي دجلة والفرات، وطالَب الحكومة باتّخاذ التدابير اللازمة لتلافي شحّ الموارد المائية. ونقل المالكي إلى الصحافيين ردّ وزارة الخارجية على كتاب رَفعه إليها في وقت سابق يخصّ ملفّ المياه، والذي جاء فيه أنها «لم تَصل إلى نتائج مقبولة مع دول الجوار، بسبب عدم تجاوبها بحسن نيّة مع العراق في منْحه حصة مائية عادلة». ورأى أن على الحكومة العمل على إعداد استراتيجية وطنية للتفاوض مع دول الجوار، واستخدام ملفّات ضاغطة يملكها العراق تطبيقاً لمبدأ الصفقة أو السلّة الواحدة، معتبراً أن جميع الجهود التي تَبذلها الحكومة حالياً، بمعنى المساعي الديبلوماسية والاحتجاج، هي "مضيعة للوقت، لأن دول الجوار لم تكترث لمطالب العراق". كما نَقل النائب عن الوزارة نفسها قوله إنه «توجد مذكّرة تفاهُم مع تركيا وُقِّعت عام 2014 ودخلت حيّز التنفيذ عام 2021، إلّا أن الأتراك لا يُبدون جدّية في تنفيذ ما تضمّنتْه».
وفي السياق نفسه، أكد رئيس الجمهورية، عبد اللطيف جمال رشيد، أن العراق من أكثر البلدان المتضرّرة جرّاء شحّ المياه والجفاف، مشدّداً على أهمّية أن يتبنّى مؤتمر نيويورك للمياه معالجات جذرية لهذا الملفّ وللتغيّرات المناخية القاسية.