بدأت السعودية محاولات لاستغلال الانتخابات العراقية، مُصوّرةً خسارة الأذرع السياسية لـ«الحشد الشعبي»، نتيجة تنافس قادتها في ما بينهم بالدرجة الأولى، على أنها انتكاسة لإيران، فيما الواقع يقول إن الساحة العراقية أكثر تعقيداً بكثير، وإن ما حصل ليس إلّا حدثاً موضعياً، له أسبابه التي تبدأ بقانون الانتخاب ولا تنتهي بالنسبة المتدنّية للتصويت، مروراً بالمال الانتخابي الخليجي الذي حفّز جانباً واحداً من المقترعين، دون البقيّة الغالبة. مع ذلك، يبقى الكثير من الأسئلة مُعلّقاً في شأن مستقبل الأوضاع في العراق، خصوصاً في ظلّ توقّع دورة جديدة من التأزّم السياسي، مردّها غياب قدرة أيّ طرف على الإمساك بزمام الأمور بمفرده، وسيلان لعاب أطراف كثيرة على إعادة ضبط البوصلة في بلاد الرافدين، بما يخدم مصالحها
سريعاً، سيسيل لعاب السعودية على إمكانية إبعاد العراق عن إيران وإمالته نحو المملكة، واعتبار ما حدث في الانتخابات العراقية منذ الآن، حتى قبل تشكيل الحكومة الجديدة، انتصاراً للرياض ولمحمد بن سلمان شخصياً، نتيجة موقف الفائز الأوّل، مقتدى الصدر، في ما يتعلّق بالعلاقات العراقية - السعودية، خاصة أن الصدر عقد اجتماعاً مع ابن سلمان بُعيد تولّي الأخير ولاية العهد في عام 2017، أي في عزّ جنوحه نحو التطرّف، قبل أن يصطدم بالجُدُر، ويبدأ البحث عن مخارج لأزماته، متعكّزاً على إيران بالذات.
ومع بدء ظهور نتائج الانتخابات العراقية، نشط الإعلام السعودي في محاولة تصوير ما حدث على أنه انتصار للقوى المناوئة لإيران، في ما يبدو مقدّمة لحصاد نتائج الاستثمار المالي السعودي الذي كان جزءٌ منه علنياً، عبر تأسيس صندوق مشترك برأسمال بلغ 3 مليارات دولار، خلال زيارة رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، إلى الرياض في أيار الماضي، بهدف تنفيذ اتفاقات في مجالات عديدة منها الطاقة المتجدّدة، وهو ما اعتبره مراقبون في حينه استثماراً في الكاظمي الذي تراه المملكة بعيداً عن إيران أيضاً. لكن الاستثمار الأهمّ يبقى ذلك غير العلني في القوى السياسية العراقية، ولا سيما على الساحتين «السُنّية» و«الكردية»، حيث حقّق حلفاء السعودية في «حزب تقدّم» بقيادة محمد الحلبوسي، و«الحزب الديموقراطي الكردستاني» بقيادة مسعود بارزاني، مكاسب كبيرة، في ظلّ شبهات بضخّ مال خليجي كثيف في الحملة الانتخابية العراقية. لكن يبقى الهاجس الأساسي للرياض، هو اختراق الساحة «الشيعية» في العراق، وهذا بالذات ما ترى فرصة لتحقيقه حالياً.
يظلّ الهاجس الأساسي للرياض اختراق الساحة «الشيعية» في العراق


الأخطر ممّا قام به الإعلام السعودي المباشر، هو ما يواصل الجيش الإلكتروني نفثه انطلاقاً من حسابات على «تويتر» توحي بأنها لمواطنين سعوديين عاديين، وتسعى إلى إيصال فكرة مفادها أن السعودية «لا تريد إلّا الخير» للعراق، علماً أن عودة بسيطة إلى التاريخَين القريب والبعيد، تؤكد العكس تماماً. فقبل سنوات قليلة فقط، حين كان يسقط ألف قتيل في الشهر في تفجيرات انتحارية بسيّارات ملغومة في بغداد والكثير من المدن العراقية الأخرى، استهدفت أكثر ما استهدفت مدينة الصدر في العاصمة، والتي أعطاها الاسمَ مقتدى الصدر نفسه، حيث يقيم جمهور عريض له من فقراء العراقيين، كان الانتحاريون السعوديون ينتظرون بالأشهر حتى يأتي دورهم لتفجير أنفسهم بالمدنيين العراقيين، بل إن بعضهم لجأ إلى وساطة لتقريب دوره على تلك القوائم، عبر أحد أقربائه النافذين في تنظيم «القاعدة» أيّام أبو مصعب الزرقاوي، ولاحقاً «داعش» تحت قيادة أبو بكر البغدادي. المفارقة أن عرّاب الدعم السعودي آنذاك للانتحاريين، أي بندر بن سلطان، يُعدّ أحد المساندين القلائل من كبار أفراد الأسرة لابن سلمان، الذي كافأه بتعيين أبنائه في مراكز مهمّة في حكومته، وخصوصاً تعيين ابنته ريما سفيرة في واشنطن. والدعم المذكور يؤكّده العدد الكبير من المعتقلين السعوديين الذين ضبطتهم السلطات العراقية متلبّسين في القيام بأعمال إرهابية. وأثار ذلك يومها أزمة بين البلدين، لأن العراق كان يرفض تسليم المملكة هؤلاء المعتقلين، ولا سيما بعد لجوء حكومة نوري المالكي إلى إعدام عدد منهم، في مسعى للحدّ من التفجيرات الدموية.
قبل ذلك، في ثمانينيات القرن الماضي، كانت السعودية أحد كبار الداعمين لصدام حسين في حربه العبثية ضدّ إيران التي شكّلت نقطة بداية تدمير العراق، وساهمت مساهمة كبيرة في تبديد ثروته، وفي النتيجة في الوضع الاقتصادي الذي يعيشه البلد اليوم. ومن بين أسباب هذا الوضع المزري، تخلّف القطاع النفطي العراقي، على رغم أن العراق يملك واحداً من أكبر احتياطات النفط العالمية المؤكدة. فلو كان القطاع المذكور متقدّماً، كما هو في السعودية ودول «مجلس التعاون الخليجي» الأخرى، لنافس العراق المملكة على الحصّة السوقية، ولحاز الكلمة الأعلى في التحكّم بالأسعار. في هذه، بالتأكيد، السعودية لا تريد الخير للجار الشمالي. وإلى هذه وتلك، يُضاف أن المملكة واحدة من أولى الدول التي ساندت المحاولات الانفصالية للأكراد وفتحت قنصلية لها في أربيل، إن لم يكن كُرهاً بالعراق، فنكاية بتركيا. وفي كلتا الحالتين، كانت الرياض وما زالت مساهِمةً في محاولة تمزيق البلد، إلى جانب أبو ظبي وواشنطن وتل أبيب. وفي ما تَقدّم أيضاً، السعودية لا تريد الخير للعراق.


حالياً، بدأت تظهر مخاوف من احتمال عودة الإرهاب بدعم من الخارج، نتيجة الانتكاسة الانتخابية التي تعرّضت لها الأذرع السياسية لـ«الحشد الشعبي»، أساساً بسبب الانقسام بين قادتها الطامحين إلى السلطة، ما يضعف من قدرة العراقيين على مواجهة احتمال كهذا. إلّا أنه من غير الواقعي تفسير الانتخابات على أنها استفتاء للعراقيين حول المقاومة العراقية للاحتلال والإرهاب، خاصة وأنها شهدت أدنى نسبة اقتراع في كلّ الانتخابات التي جرت منذ عام 2003، ما يحدّ من قدرة القوى الفائزة على التصرّف باعتبارها حصلت على تفويض بالتغيير. فالتصويت كان، في جانب منه، تصويتاً عقابياً احتجاجاً على الفساد، أكثر منه تصويتاً سياسياً مع محور ضدّ آخر. ومن هنا، فإن انتخابات واحدة، بالمواصفات المذكورة، لا يمكن أن تؤدّي إلى تغيير موقع العراق، إلى مثل ما يسيل عليه اللعاب السعودي، ولا حتى يمكن أن تجعل البلد ساحة تَأْمن لها المملكة، ممّا تزعم أنه استهداف لها انطلاقاً من الأراضي العراقية، بالمسيّرات والصواريخ، بما في ذلك الهجوم على منشآت «آرامكو» في بقيق وهجرة خريص في أيلول 2019، والذي تدّعي الرياض أنه انطلق من الأراضي العراقية، رافضة الاعتراف بالعجز أمام حركة «أنصار الله» في اليمن، والتي تبنّت الهجوم.
كلّ هذا يحصل قبل أن تستقرّ الانتخابات التي ما فتئت تثير شكوكاً كبيرة، على نتائج نهائية حاسمة، وقبل أن يتمكّن العراقيون أنفسهم من إجراء تقييم وافٍ لما حدث في ذلك اليوم الانتخابي الملتبس، خاصة أن الفرز اليدوي للأصوات أظهر اختلافاً بين نتائجه ونتائج الفرز الإلكتروني - الذي أثار شبهات الجهات المتضرّرة بحصول عمليات تزوير أحدثت فوارق في الحصائل -، لكن ليس بالحجم الذي يغيّر جوهرياً في الخارطة البرلمانية. أيضاً، ما زال العديد من الأسئلة من دون أجوبة، حول ما الذي سيحصل في عملية تشكيل الحكومة الجديدة، وما إذا كان الصدر وحليفاه المحتملان، الحلبوسي وبارزاني، الذين يملكون مجتمعين نحو 140 مقعداً من أصل 329 مقعداً، سيتمكّنون من تشكيل الحكومة بسهولة، أم سيستطيع معارضوهم منْع ذلك، وبالتالي يدخل العراق في فترة عدم استقرار طويلة، سياسية على أقلّ تقدير، وربّما أمنية أيضاً؟
الصدر نفسه يعرف أن الموقع الذي صار فيه العراق بعد الغزو، لا يمكن أن يتغيّر بالمعنى السياسي، وإنما لم يَقُل كلمته بعد بشأن الموقف الذي سيتّخذه في مقبل الأيام، وخاصة في ما يتعلّق بتشكيل الحكومة والعلاقات مع دول الجوار والولايات المتحدة وغيرها. وهو حليف لإيران ضدّ الأميركيين وضدّ بقايا «البعث» وضدّ الإرهاب، ويعرف الدور الذي لعبته إيران في هزيمة الثلاثة، فيما الباقي يخصّ حياة العراقيين التي يجب أن تكون لائقة أكثر بكثير مما كانت عليه في السنين الماضية، ولربّما يكون «التيار الصدري» مؤهّلاً أكثر من غيره لتحسينها.