أعاد مؤتمر أربيل الداعي إلى تطبيع العلاقات مع العدو، طرْح سؤال العلاقة بين بغداد و«كردستان العراق»، وتحديداً الشقّ الواقع تحت سيطرة «الحزب الديمقراطي الكردستاني»، بزعامة مسعود بارزاني. فمنذ نيل الإقليم الحُكم الذاتي بقوّة الاحتلال الأميركي، بعد حرب الخليج الأولى في عام 1991، صار هناك ارتباط عضوي بين علاقة «جماعة بارزاني» بإسرائيل وأوهام الانفصال التي ثَبُت مرّة بعد مرّة أنها عصية على التحقّق. ومع ذلك، يستمرّ رهان الرجل على إسرائيل والولايات المتحدة، بحيث أنه كلّما لاحت فرصة وهَن فيها العراق أو مرّ بلحظة انعدام وزن، أطلّت المشاريع الانفصالية برأسها من جديد. وفي هذه اللحظة التي يستعدّ فيها العراقيون لإجراء انتخابات يُتوقّع أن تمثّل تحوّلاً في أشكال ممارسة الحكم في البلاد، بفعل قانون الانتخابات الجديد، وجد «البارزانيون» الفرصة مؤاتية لتأكيد توجّههم هذا، فكان توقيت مؤتمر «السلام والاسترداد» الذي نظّمته «حركة اتصالات السلام»، والذي لا ينفصل عن ما يجري في المحيط، حيث يسعى المطبّعون وخاصة في الخليج إلى فرض وقائع جديدة في سباق مع الرفض الشعبي الخليجي والعربي المتزايد للتطبيع.آخر محاولات الانفصال كانت عند تنظيم ما سُمّي «الاستفتاء على استقلال كردستان» في 25 أيلول 2017، والتي أحبطها الشهيد قاسم سليماني حين قاد عملية سيطرة قوى المقاومة العراقية ليلة الاستفتاء على كركوك الغنية بالنفط (لا يمكن لإقليم كردي منفصل العيش من دونها). استغلّ بارزاني حينها، انشغال العراق بحرب وجودية على تنظيم «داعش»، محاولاً الظفر بما لم يستطع آباؤه وأجداده تحقيقه، حتى حين كان يَجري رسم حدود دول الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الأولى، لأنه استحال يومذاك أن تشتمل الرسمة على دولة كردية. ولم يحفظ بارزاني جميل «الحاج قاسم» الذي كان الوحيد الذي هبّ لنجدته بعد أن استغاث به عند وصول عناصر «داعش» بسكاكينهم المشحوذة إلى بوّابات «كردستان»، ففَتح جسراً جوياً لنقل السلاح إلى الإقليم، وكانت تلك نقطة التحوّل التي بدأت منها نهاية التنظيم الإرهابي. ردّ سليماني على تنكّر بارزاني، شكّل ضربة شبه قاتلة لطموحات الأخير، وأخرجه من رئاسة الإقليم، وكاد يُنهي حياته السياسية.
هل سيتمكّن بارزاني من حماية فارّين من وجه العدالة العراقية على أرض عراقية؟


وإذا كان بارزاني يريد من العلاقة مع إسرائيل تحقيق طموحاته الانفصالية، فهو يعرف الثمن الذي يتطلّع إليه العدو من وراء ذلك، والذي لا يقلّ عن السماح بتحوّل الإقليم إلى إحدى المنصّات الإسرائيلية للتجسّس على إيران، والتحرّك ضدها إذا سمحت الظروف، خاصة أن ثمّة تقارير تؤكد وجود قاعدة عسكرية إسرائيلية في مطار أربيل. أيضاً، تزامن مؤتمر التطبيع مع سخونة عسكرية على الحدود بين «كردستان العراق» وإيران، حيث أقام مسلّحون أكراد انفصاليون ممرّات بهدف التسلّل إلى الأراضي الإيرانية، ما حدا بالقوات الإيرانية إلى قصف تلك الممرّات. ويَعتقد بارزاني أن الوصول إلى «عراق مطبّع» للعلاقات مع إسرائيل، يمثّل الفرصة الأفضل لانفصال الإقليم، لكون إحباط الانفصال، وإن كانت تجتمع عليه كلّ الدول المحيطة بالعراق وخصوصاً تركيا، يحتاج إلى مقاومة عراقية، أمّا في حال التطبيع، فستنتهي معارضة بغداد، وفق ما يأمل بارزاني، للانفصال، الذي هو في الأساس مشروع أميركي - إسرائيلي ليس للعراق فحسب، وإنما حيثما أمكن في دول الشرق الأوسط.
التبرير «البارزاني» لانعقاد المؤتمر ــ التهريبة من خلال التذرّع بعدم العلم به، وفتح تحقيق في شأنه، ليس سوى خديعة واستخفاف مقصود بسلطة بغداد. فهل يمكن عقد مؤتمر في فندق في أربيل بمشاركة أكثر من 300 شخص، من دون أن تعرف به سلطة الإقليم؟ على أيّ حال، سيكون الاختبار الآن، بعد أن تَحرّك القضاء العراقي بإصدار مذكّرات توقيف بحق المشاركين في مؤتمر أربيل، هو التالي: هل سيتمكّن الزعيم الكردي من حماية فارّين من وجه العدالة العراقية على أرض عراقية، من بين أولئك الذي يختبئون في عاصمة الإقليم؟ بارزاني يشعر بقوّة مُستعادة الآن، فهو شريك في السلطة في بغداد، بينما يتحكّم وحده بالمنطقة التي يسيطر عليها في «إقليم كردستان». كما أن عدداً من القوى السياسية العراقية النافذة، وخاصة «التيار الصدري»، ورئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، تخطب ودّه قبيل الانتخابات، سعياً للتحالف معه في تشكيل الحكومة، في إطار محاولتها تصفية حساباتها مع بعضها البعض.
على أنه بخلاف اختراق أربيل، يمكن اعتبار العراق واحداً من أكثر الدول العربية مناعة ضدّ التطبيع مع إسرائيل، حتى وإن كان من بين المشاركين في المؤتمر الأخير، عراقيون ينتمون إلى فئات متعدّدة من المجتمع العراقي. إذ إن هؤلاء يمثّلون قلّة قليلة لا تمتلك أيّ تأثير، بدليل أن أميركا التي احتلّت العراق في عام 2003، وغيّرت السلطة فيه، وأعادت بناء الجيش والقوى الأمنية ومؤسسات الدولة، وفق ما يحلو لها، لم تستطع تقريب العراق قيد أنملة من التطبيع مع العدو، وما زال من غير الممكن عقد مؤتمر كهذا إلّا تهريباً، وفي منطقة لا تخضع لسلطة بغداد.