يطرح قرار زعيم «التيار الصدري»، مقتدى الصدر، مقاطعة الانتخابات المبكرة المقرّرة في العراق في العاشر من تشرين الأول المقبل، والانسحاب من الحكومة الحالية برئاسة مصطفى الكاظمي، وعدم المشاركة في تلك التي سيجري تشكيلها بعد الانتخابات، إشكاليات كبرى أمام العمل السياسي في بلد ينخره الفساد، الذي تسبّب بسلسلة كوارث وضعت كلّ القوى السياسية العراقية في مهداف الغضب الشعبي العراقي الذي يكاد ينفجر في وجه الجميع.الانسحاب من الحكومة مفهوم، وقد يكون تأخَّر قليلاً في حالة شخص يملك عقلية الصدر، الذي دائماً ما حرص على النأي بنفسه عن معسكر السلطة، ووضعها في خانة أقرب إلى المعارضة، على رغم وجود وزراء في الحكومة وأصحاب مناصب تنفيذية عليا يُحسبون على تياره، أو يَحسبون أنفسهم عليه، لكن مقاطعة الانتخابات تعني، في المبدأ، يأساً من إمكانية التغيير عبرها، وأن العراق بحاجة إلى عملية تأسيسية جديدة تعيد تعريف العمل السياسي.
يمثل «التيار الصدري» ظاهرة في السياسة العراقية تنطوي على مجموعة من المفارقات؛ فهو دائماً في السلطة عبر من يعلنون الانتماء إليه، وهو دائماً في المعارضة عبر مواقف رئيسه الذي يرفض المساومات. كان التيار في صفوف المحتجّين في كلّ الحراكات التي شهدها العراق في السنوات القليلة الماضية، سواء الخاصة بأنصاره، أو تلك العامة من مثل ذلك الذي أسقط حكومة عادل عبد المهدي في تشرين الثاني عام 2019، وجاء بمصطفى الكاظمي إلى رئاسة الحكومة بإيحاء من «الصدريين». هذه السياسة أكسبته شعبية بدا خلال الأسابيع الماضية أنها ستقوده إلى فوز واضح في الانتخابات المقبلة، إلى درجة أن نواب كتلته جاهروا بأن الصدر ستكون له الكلمة الأولى في اختيار رئيس الحكومة المقبلة، فيما بدأ تياره ينسج تحالفات، أحدها مع «الحزب الديمقراطي الكردستاني» بزعامة مسعود بارزاني وآخر مع رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي عن «السنّة»، على أساس أن يقوم هذا التحالف بتشكيل الحكومة إذا فاز في الانتخابات، ويبقى الآخرون في المعارضة، مع رفض المشاركة مرة أخرى في حكومة ائتلافية، يرى الصدريون أن طبيعتها التحاصصية تجعلها مرادفاً للفساد، بينما كان الهدف المضمر، والأهم، إخراج «الحشد الشعبي» من السلطة السياسية، بعد حملة هدفت إلى النيل من سمعته عبر اتهام عدد من قادته بالفساد وبالتصرف كميليشيا فوق القانون، ونجحت بشكل ما في التأثير على شعبيته.
إذا ساهمت المقاطعة في نسف الانتخابات فإن ذلك سيعني العودة بالعمل السياسي سنوات إلى الوراء


ثلاث كوارث غيّرت كلّ شيء، وتحديداً بالنسبة إلى الصدر، آخرها حريق مركز «دار النقاء» لمعالجة مرضى كورونا في مستشفى الإمام الحسين في الناصرية، والذي أودى بحياة العشرات ليل الإثنين - الثلاثاء، في حادثة هي الثانية من نوعها في غضون ثلاثة أشهر، بعد حريق مستشفى ابن الخطيب في بغداد في نيسان الماضي، والذي أوقع عشرات القتلى أيضاً. وبين الحريقين، تردّي خدمة الكهرباء، وصولاً إلى الانقطاع الكامل عن كلّ أنحاء البلاد، باستثناء كردستان. فوزراء الكهرباء والنفط والصحة، المعنيّون بهذه الكوارث، هم من المحسوبين على «التيار الصدري»، فضلاً عن عدد من المديرين في الوزارات والمسؤولين المحليين في المحافظات. ولذلك، سارع الصدر، في خطاب إعلان المقاطعة، إلى «سحب اليد من كلّ المنتمين إلى الحكومة الحالية واللاحقة، وإن كانوا يدعون الانتماء إلينا». انقلبت الموازين، فتراجعت حظوظ فوز «التيار الصدري» في الانتخابات، وتزايدت حظوظ «الحشد» وحلفائه، وهو ما لم يخفه قريبون من «الحشد»، إلا أنهم ربطوا استمرار هذه الفرصة بعدم ارتكاب الأخير أي خطأ يمكن أن يقلل تلك الحظوظ، من الآن وحتى موعد الانتخابات.
السؤال الكبير الذي تطرحه مقاطعة الصدر للانتخابات والانسحاب من الحكومة، هو من سيملأ الفراغ الذي سيتركه التيار الذي يملك أكبر كتلة في مجلس النواب بـ 54 عضواً من أصل 329؟ أما بالنسبة إلى مستقبل عمل التيار خارج الأطر السياسية، فهذا قد يكون ميزة وليس نقيصة. ذلك أن الصدر يستند إلى إرث مرجعية متجذرة في الوعي العراقي، ولها ملايين الأتباع في العراق وخارجه، كما يملك تنظيماً عسكرياً كبيراً إطاره «سرايا السلام» التي لها كتائب ضمن «الحشد الشعبي». وفي كلّ الأحوال، لن تستمرّ مقاطعة الانتخابات إلى الأبد. ويمكن أخذ استراحة من العمل التنفيذي والتشريعي معاً تمهيداً للعودة لاحقاً، في ظروف أفضل للتيار. وقد سبق للصدر أن فعل ذلك قبل سنوات، حتى إنه شخصياً اعتزل العمل السياسي، وعندما عاد إليه، كان أقوى مما سبق. الصدر يرى الآن أن مشروعه غير قابل للتحقق بأدوات العمل السياسي المعروفة.
لكن إذا ساهمت المقاطعة في نسف الانتخابات، وهو احتمال قائم، باعتبار أن التأجيل كان وارداً قبل القرار الصدري، فإن ذلك سيعني العودة بالعمل السياسي في العراق سنوات إلى الوراء، وربما سيشعل المواجهة في الشارع من جديد، بين ائتلافَين عريضَين يقود أحدهما الصدر، والآخر «الحشد»، بعدما كانا قد توافقا على هدنة في الشارع، باعتبار أن الانتخابات المبكرة التي جاءت استجابة لمطلب الحراك الشعبي، هي التي ستفصل في النزاع بينهما.