لا انسحاب أميركياً حقيقياً من العراق. ما يهمّ، بالنسبة إلى القائمين على الفكرة، هو التوقيت قبل أيّ اعتبار آخر، ولا سيما أن قرار الانسحاب الجزئي المُعلَن عنه أول من أمس ليس إلّا ما يعتقد الرئيس دونالد ترامب أنه رافعة يمكن أن تحمله إلى البيت الأبيض من جديد، لأنه يَعِد، ويفي في الأوقات الحرجة. انطلاقاً من هنا، لم يكن مفاجئاً إعلان الجيش الأميركي اعتزامه خفض عديد قواته في العراق بنحو الثلث، في خطوة ستتبعها أخرى مماثلة، إذ يُتوقع أن يصدر إعلان رئاسي قريب يشمل أيضاً سحب قوات أميركية من أفغانستان. وبحسب قائد القيادة المركزية الأميركية، الجنرال كينيث ماكنزي، فإنه «بعد الاعتراف بالتقدّم الكبير الذي أحرزته القوات العراقية والتشاور والتنسيق مع الحكومة العراقية وشركائنا في التحالف، قرّرت الولايات المتحدة خفض وجودها العسكري في العراق من حوالى 5200 إلى 3000 جندي في شهر أيلول/ سبتمبر». وفي خطاب ألقاه لمناسبة تسلُّم القائد الجديد لـ»التحالف الدولي»، الجنرال بول كالفير، مهمّاته، قال ماكنزي من بغداد إن بلاده ستواصل دعم الجيش العراقي في معركته على آخر عناصر ناشطة لتنظيم «داعش»، إلى جانب أنها ستُبقي على وجود عسكري محدود في سوريا.
أكد ماكنزي أن واشنطن ستواصل دعم الجيش العراقي في معركته ضدّ «داعش»

وبسعيه إلى ترسيخ معادلة تفيده في الإقليم، يكون الرئيس الأميركي قد حقّق اثنين من أهداف برنامجه الانتخابي: أولهما، دفع حلفائه الأوروبيين إلى المساهمة بشكل أكبر ضمن «حلف شمال الأطلسي» الذي سيتوسّع دوره في العراق بعد لملمة رايات «التحالف الدولي»، وثانيهما، تقليص عديد القوات الأميركية الموجودة في المنطقة بما يتناسب مع وعود حملته الانتخابية، على أمل أن يُحقِّق ذلك خرقاً يعزّز حظوظه المنهارة في السباق أمام خصمه جو بايدن؛ إذ جدّد ترامب في لقاء انتخابي في كارولاينا الشمالية، قبل أيام، وعده بالانتهاء من «الحروب التي لا تنتهي»، قائلاً إنه سيعيد «قواتنا إلى البلاد من كل تلك الأمكنة البعيدة»، بعدما «صرفنا مليارات الدولارات، وما الذي حقّقناه من ذلك؟». وأثناء اجتماعه الأول مع رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، في واشنطن الشهر الماضي، أكد الرئيس الأميركي أن قوات بلاده ستغادر العراق، «لكن إذا فعلت إيران أيّ شيء، فسنكون هناك لمساعدة الشعب العراقي»، من دون أن يحدِّد جدولاً زمنياً أو مستويات محدّدة للقوات، لكنّه لفت إلى أن الشركات الأميركية تعقد بالفعل «صفقات نفطية ضخمة» في هذا البلد.
الانسحاب الجزئي المعلَن جاء أيضاً استناداً إلى طلب البرلمان العراقي إلى الحكومة إنهاء الوجود الأجنبي في البلاد، إثر اغتيال الأميركيين قائد «قوة القدس» في الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني ونائب رئيس «هيئة الحشد الشعبي» العراقي أبو مهدي المهندس قرب مطار بغداد في كانون الثاني/ يناير 2020، وما أعقب ذلك من عمليات عراقية ضدّ المصالح الأميركية في البلاد، وضربات صاروخية إيرانية على قاعدتَي «عين الأسد» وأربيل الأميركيتَين. إلا أن حكومة الكاظمي لا تزال تتباطأ في تبنّي قرار البرلمان بشأن إخراج القوات الأجنبية، على اعتبار أن «التحالف الدولي» بدأ منذ آذار/ مارس بسحب قواته بهدوء، بينما قلّص وجوده في عشرات القواعد في جميع أنحاء البلاد إلى ثلاثٍ فقط. وبحسب مسؤولين أميركيين تحدّثوا إلى «فرانس برس»، فقد أُعيد نشر بعض القوات في القواعد الرئيسة في بغداد وأربيل في الشمال و»عين الأسد» في الغرب، لكن معظمها نُقل إلى خارج العراق. وأشاروا إلى أن التقليص كان مخطّطاً له منذ فترة طويلة بعد هزيمة تنظيم «داعش»، لكنهم اعترفوا بأنه تمّ تسريع الجدول الزمني بسبب الضربات الصاروخية وفي ظلّ تفشي وباء «كورونا».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا