بغداد | قلقٌ وحذر يسودان المشهد العراقي الراهن. صحيحٌ أن الهدوء عاد إلى الشارع الذي أُلهب بالعنف والعنف المضاد على مدى أيام شهدت تحركات مطلبية، إلا أن احتمال عودة التظاهرات أواخر شهر تشرين الأول/ أكتوبر الجاري لا يزال مرجّحاً. ثمة من يقول إن «التيار الصدري» سيقود «جماهير الإصلاح» للضغط أكثر على الحكومة ورئيسها عادل عبد المهدي، على رغم ظفر زعيمه مقتدى الصدر، قبل أيام، بحقيبة الصناعة التي تُضاف إلى الحقائب المحسوبة على حصّته. هي إذاً «ضبابية كبيرة» بتعبير مصادر سياسية عدة، وخاصة أن «المرجعية الدينية العليا» (آية الله علي السيستاني)، في بيانها، أمس، وجّهت رسائل شديدة اللهجة إلى الحكومة ورئيسها وإلى أطراف أخرى، واضعةً عبد المهدي بين خيارين، أحلاهما مرّ: البقاء أو الاستقالة. الأوّل صعبٌ، والثاني أصعب؛ إذ إن كليهما يؤسّس لمرحلة تبدو معالمها «سوداوية»، بوصف المصادر.عبد المهدي ترجم ضعف موقفه بالطلب من البرلمان، أول من أمس، التصويت على جملة تعديلات وزارية، يُطاح بموجبها وزراء يفتقدون الغطاء السياسي، في خطوة عُدّت هروباً إلى الأمام. لكن هذه الخطوة لم تفلح في تحصين الرجل من انتقادات «المرجعية»، التي حمّلت الحكومة أمس مسؤولية «الدماء الغزيرة التي أريقت... سواء من المواطنين أو من العناصر الأمنية»، مشددة على أنه لا يمكنها «التنصل من تحمّل هذه المسؤولية». كما حمّلتها أيضاً مسؤوليات أخرى، غامزةً من قناة بعض الفصائل المسلحة، بالقول إن الحكومة «مسؤولة عندما يقوم بعض عناصر الأمن باستخدام العنف المفرط ضد المتظاهرين... أو عندما تقوم عناصر مسلحة خارجة عن القانون باستهداف المتظاهرين وقنصهم، وتعتدي على وسائل إعلام معينة بهدف إرعاب العاملين فيها»، إضافةً إلى «عدم حمايتها المواطنين والمؤسسات الحكومية والممتلكات الخاصة من اعتداءات عدد قليل من المندسّين، الذين لم يريدوا أن تبقى التظاهرات خاليةً من العنف».
استقالة عبد المهدي ستدخل البلاد في فراغ دستوري كبير يبدو الخروج منه صعباً


مواقف «المرجعية» الأخيرة أعادت إلى الأذهان مواقفها في نيسان/ أبريل 2006، عند تشكيل حكومة نوري المالكي الأولى، وخصوصاً في تأكيدها أنها «لم ولن تداهن أحداً في ما يمسّ المصالح العامة للشعب العراقي، وهي تراقب الأداء الحكومي، وتشير إلى مكامن الخلل متى اقتضت الضرورة، وسيبقى صوتها مع أصوات هذا الشعب أينما كانوا بلا تفريق بين انتماءاتهم...»، وتشديدها على ضرورة «إجراء تحقيق يتّسم بالصدقية حول كلّ ما وقع في ساحات التظاهر، والكشف أمام الرأي العام عن العناصر التي أمرت أو باشرت بإطلاق النار على المتظاهرين أو غيرهم، وعدم التواني في ملاحقتهم واعتقالهم وتقديمهم إلى العدالة مهما كانت انتماءاتهم ومواقعهم»، بل وذهابها إلى القول إنه «لا بد من أن يتم ذلك خلال مدة محدّدة (كأسبوعين مثلاً)، ولا يجري التسويف فيه...». وخلصت خطبة «المرجعية» إلى أن التحقيق يكشف «جدية الحكومة وصدق نيتها في القيام بخطوات واسعة للإصلاح الحقيقي»، داعية إلى «فرض هيبة الدولة وضبط الأمن... ومنع التعدي على الحريات... ووضع حدّ للذين يهدّدون ويضربون ويخطفون ويقنصون ويقتلون، وهم بمنأى عن الملاحقة والمحاسبة».
بيانٌ شديد اللهجة دفع بعض المصادر السياسية إلى القول في حديث إلى «الأخبار» إن «المرجعية دقّت مسماراً جديداً في نعش الحكومة (قد يكون آخرها)»، ووجّهت سهامها إلى عبد المهدي الذي «يواجه تحدّيات أكبر من قدرته على حلها». وعليه، فإن «عمر الحكومة يبدو قصيراً جداً» بحسب المصادر نفسها. لكن المتفائلين يعتبرون خطبة «المرجعية» محاولة لاستيعاب الشارع الغاضب، درءاً لأي إحراج لها أمامه، وفي الوقت نفسه تحميلاً للمسؤولية من دون أن يقود ذلك إلى إضرار كبير بالحكومة. هذا الرأي يُدعَّم ــــ وفق أصحابه ــــ بإشارة «المرجعية» إلى المندسّين وضرورة ضبط الأمن، ما يعني أنها لا تزال على موقفها السابق، لكن بـ«تعاطف أكبر مع الشعب».
إزاء ذلك، يبدو عبد المهدي أمام خيارين: إما الصمود في موقعه، مع ما يتطلّبه هذا من تحدٍّ للأحزاب والقوى السياسية، وإما الاستقالة التي ستدخل البلاد في فراغ دستوري كبير يبدو الخروج منه ــــ راهناً ــــ أمراً صعباً جداً.