تشهد المدن العراقية، منذ يومين، تظاهرات شبابية محقة في مطالبها، تفتقد قيادة واضحة تديرها. افتقادٌ يفتح الباب أمام التساؤل عن المحرّك الفعلي للشارع، وماذا يريد في هذا التوقيت تحديداً. ثمة من يؤكد أن الساحة العراقية، بالنسبة إلى واشنطن والرياض، باتت مهيأة للانقضاض على «النفوذ الإيراني» المتمثل في حكومة عادل عبد المهدي، التي تُتِمّ بعد أيام عامها الأول. الدوافع كثيرة، والأدوات أيضاً جاهزة، لكن التوقيت مرتبط على ما يبدو بالهزائم السعودية في اليمن، ومحاولة الرياض حرف الأنظار عن ذلك، بالاتفاق مع الأميركيين. هكذا، أصبحت «الخاصرة الرخوة» لإيران هي الحدث، فيما الهدف نسيان ضربة «أرامكو» وهزيمة نجران، وتسليط الضوء على «قمع» عبد المهدي للمتظاهرين. الأحداث - إن استمرت في هذا المنحى التصاعدي - تنبئ بصراعٍ كبير سيقود إمّا إلى الفوضى، أو إلى بقاء عبد المهدي رئيساً بما يمثل خسارة جديدة للمحور السعودي - الأميركي. الترقب سيّد الموقف، في انتظار اتضاح حجم التحرّك القائم؛ فبقدر اتساع رقعته ستتسع الخطوات الحكومية.التظاهرات في العراق مستمرةٌ في يومها الثاني على التوالي. مزيد من الدم والنار، ومزيد من الضحايا (قتلى وجرحى) في صفوف العسكريين والمدنيين. الإحصاءات، حتى ليل أمس، أشارت إلى سقوط 9 قتلى بينهم شرطي، وإصابة 400 بجروح في مختلف أنحاء البلاد، بالتزامن مع اتساع رقعة الاحتجاجات، لتشمل إضافة إلى العاصمة بغداد وأحيائها معظم المحافظات الجنوبية: كربلاء، النجف، بابل، الديوانية، المثنى، ذي قار، البصرة وكركوك (شمالاً).
القوات الأمنية لجأت إلى العنف لتفرقة المتظاهرين الذين أشعلوا بدورهم الإطارات، وقطعوا الطرقات الرئيسة، وأقدموا على تخريب عدد من المرافق الحكومية والمقارّ الحزبية في مختلف أنحاء المحافظات الجنوبية. في مقابل ذلك، وفي خطوة احترازية، عمدت الحكومة إلى حجب خدمات التواصل، في محاولة منها لضبط رقعة التظاهرات وحركة المتظاهرين، الذين هم - وفق مصادر أمنية - «أناسٌ عاديّون تأثروا بالتعبئة الإعلامية، ولهم مطالبهم، ولا علم لهم بهوية الجهة التي تقودهم، أو تمويلها...»، فالتظاهرات - وفق المصادر - دعا إليها ناشطون على منصات التواصل الاجتماعي للتنديد بواقع الدولة ومؤسساتها المُزري، والمطالبة بالقضاء على الفساد وإنهاء المحاصصة الطائفية والحزبية، ومعالجة الفقر والبطالة وتوفير الخدمات.
مصادر حكومية تؤكد وجود «يدٍ خفية» تدفع الشارع نحو العنف والتخريب


لكن مصادر حكومية تؤكد، في حديثها إلى «الأخبار»، وجود «يدٍ خفية» تدفع الشارع نحو العنف والتخريب، مشيرة إلى أنه - ومع اتساع رقعة التظاهرات - ثمة مجموعات، أشبه بـ«الخلايا النائمة»، تحرّض المتظاهرين على «استفزاز» الأجهزة الأمنية، أو استدراجها إلى المواجهة المباشرة. وتكشف المصادر أن هذه «اليد» محرَّكةٌ بشكل مباشر وكامل من السفارات الأميركية والبريطانية و(القنصلية) السعودية في العراق، بمشاركة «فاعلة» لـ«البعثيين»، وأنصار بعض الأحزاب المتضرّرة من تركيبة الحكم الحالية.
وعلى رغم أسف السفارة الأميركية لـ«استخدام العنف ضد المتظاهرين»، وحثّها على «تخفيف حدة التوتر»، كان لافتاً - وفق مصادر أمنية مطلعة - الدور الكبير لجمعيات «المجتمع المدني» المموَّلة من قبل السفارة في التحريض على التظاهر، ورفعها شعارات «مستفزّة» بالنسبة لملايين العراقيين، ودعوتها إلى «طرد إيران» و«ترحيل مراجع النجف الأربعة» (بوصفهم أجانب)، ومنع «الزيارة الأربعينية» (19 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري)، و«مقاطعة صلاة الجمعة في كربلاء»، وغيرها من الشعارات التي من شأنها إحداث شرخ داخل المجتمع العراقي.
مصدر في جهة ناشطة على صعيد الحراك القائم قال، لـ«الأخبار»، إن المطلب الرئيس هو «تعطيل العمل بالدستور لافتقاره إلى الإصلاحات المطلوبة»، من دون أن يقدّم أي بديل من ذلك، محمّلاً في الوقت عينه الحكومة مسؤولية «سقوط» القتلى والضحايا في صفوف المتظاهرين. المصدر نفسه اعترف بوجود «مندسّين» في الحراك، مُحمّلاً الأجهزة الأمنية مسؤولية ذلك، رافضاً أن يكون لمن خرج إلى الشارع أي «اتصال» مع أي سفارة أجنبية. وعند السؤال عن سبب «تجهيل» الجهة، لفت إلى أن «المشروع» قائم على «عرقنة» التظاهرات ورفض أي مشاركة حزبية، وتبنّي أي «ناشط» يريد أن يكون في الواجهة. وعلى رغم ادّعاء هؤلاء أن «غطاءً» ما منحته «المرجعية الدينية العليا» (آية الله علي السيستاني) لهم، ثمة من ينفي ذلك من المطلعين على أجواء النجف، ذاهبين إلى القول: إن الموقف الرسمي لـ«المرجعية» يصدر عنها، وعبر قنواتها المعهودة. وتابع المصدر أن الإشاعات التي تتحدث عن «وجود طرف ثالث» في الشارع عاريةٌ عن الصحة، مشدّداً على أن التظاهرات ستأخذ منحىً تصاعدياً في الأيام المقبلة، لتطاول معظم محافظات البلاد، والهدف «إسقاط النظام».
هدف تؤكد وجوده مصادر حكومية مقرّبة من رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، متحدثة لـ«الأخبار» عن وجود تناغم بين ذلك المشروع والبديل المُحضَّر أميركياً، أو ما يُعرف بـ«حكومة الإنقاذ». ولئن راهن المتظاهرون، ومن يساندهم من قوى تتردّد - على ما يبدو - في الإعراب عن موقفها الحقيقي، على استقالة عبدالمهدي، فإن الرجل - وفق مصادر مطلعة - لن يقدم على ذلك، بل إن الدعم الذي سيلقاه للبقاء في منصبه «كبير جداً»، والخيارات المُتاحة أمامه لضبط الشارع كثيرة، وستأخذ مسارها بالتوقيت المناسب، ووفق المتطلبات الميدانية، حسبما تقول المصادر نفسها.