منذ الاحتلال الأميركي للعراق، بقي «التيار الصدري» مثار جدل. مردّ ذلك، بالدرجة الأولى، إلى شخصية زعيمه مقتدى الصدر. يصفها البعض بـ«العاطفية والانفعالية، وصاحبة القرارات الارتجالية». وصفٌ يكاد يجد له الكثير من الانعكاسات على أرض الواقع: مقاطعة للعمل السياسي في يوم، واشتغال في صلبه في يوم آخر، تأييد للحكومة حيناً ورفض لها حيناً ثانياً. على أن هذا التقلّب يراه مقرّبون من الصدر «الاستراتيجية» بعينها. صحيح أنهم يفتقدون في توصيفهم هذا الحجج المقنعة، في ظلّ تحذير الصدر إيّاهم من الإدلاء بأي موقف «يُحسب على القائد»، إلا أن الأخير بحسبهم «هو المناور الذكي الذي يعرف أين يقف ومتى»، في تعبير يجلّي مدى تعلّق الصدريين بزعيمهم، على رغم كل التناقضات التي حفلت بها مسيرة «التيار الصدري» (الثابت الوحيد فيها هو الموقف المعادي للاحتلال الأميركي).قبل أيام، نشرت صفحة «صالح محمد العراقي»، التي تُعدّ الناطق غير الرسمي باسم الصدر، رسالة تحذيرية حملت عنوان «الفرصة الأخيرة». وعلى الرغم من أن الرسالة تبيّن خلفيات الورشة «الإصلاحية» التي تعكف عليها قيادة التيار في الوقت الراهن (ويُقال إنها جدية هذه المرة)، وعلى الرغم أيضاً من أن «الصدريين» يشدّون على يد «السيد» في إصلاح تيار تنخره الطبقية، بين مؤيدين بسطاء وقادة كدّسوا الأموال والثروات، إلا أنهم يأسفون لاعتماد الصدر «أداة إعلامية سيئة»، قديمة في خطابها، حديثة في شكلها التفاعلي، علماً بأن صفحة «صالح العراقي»، التي يصفها الصدر نفسه بـ«الثقة»، تقف خلفها مجموعة مقرّبة منه تعمل على توجيه الرسائل باسمه.
يحاول الصدر مداراة وضع «تياره» وإصلاحه بما تيسّر


خلفيات الرسالة الأخيرة تراكمات أفرزتها سياسات «التيار» منذ دخوله العملية السياسية أواخر عام 2005. يومها، برّر البعض هذا الدخول بأنه «نوعٌ من أنواع المقاومة، مقاومة سياسية للمحتل المؤثر/ صانع القرار السياسي». وبعد خروج قوات الاحتلال وانتفاء العذر قالوا إن «وجودنا تقويمي للعملية السياسية، نكون فيهم ولا نكون منهم». لكنّ لخصوم الصدر رأياً آخر، إذ يرون أن الرجل يعرف كيف يجيّر الظروف لصالحه؛ فهو ــــ من وجهة نظرهم ــــ قطف ما أراد قطفه في ظلّ نداءاته المتكرّرة بضرورة القضاء على الفساد والفاسدين، علماً بأنه لا يعارض أي تجارة (باسم «التيّار» أو آل الصدر أو...) تعود بالمنفعة على لجان «التيار» الاقتصادية.
رئيس الوزراء السابق، إبراهيم الجعفري، منح الصدريين في الحكومة الانتقالية (2005 ــــ 2006) وزارتَي الصحة والنقل. خطوةٌ شرّعت الباب أمام «الصدريين» لركوب قطار العملية السياسية، وكسر جزء من المحظورات بالنسبة إليهم متمثل في الجلوس مع ممثلي الاحتلال. في حكومة نوري المالكي الأولى (2006 ــــ 2010)، مُنحوا 6 وزارت معظمها خدمي، ليثبت بعد عام واحد فشل وزرائهم في مهامهم. هنا، جاء الأمر من الحنانة بالانسحاب، وإعطاء الحصة «الصدرية» لرئيس الوزراء من أجل شغلها بـ«تكنوقراط مستقلين». أما في حكومة المالكي الثانية (2010 ــــ 2014)، فقد نال «الصدريون» خمس وزارات. حينها، اشترط الصدر مقابل منح الحكومة الثقة مشاورة الشركاء وعدم التفرد بصنع القرار، وتوفير الخدمات، ومحاربة الفساد، لكن أياً من ذلك لم يتحقق، ليقود الصدر في عام 2012 حملة سحب الثقة. ومع بدء الاعتصامات في محافظة الأنبار (غرب) عام 2013، طالب الصدر المالكي بالذهاب إلى المعتصمين لسماع مشاكلهم وتلبية الممكن منها، لكن رئيس الوزراء آنذاك فضّل انتهاج مسار آخر.

يصف البعض شخصية الصدر بـ«العاطفية والانفعالية، وصاحبة القرارات الارتجالية» (عن الويب)

على عكس علاقته بالمالكي، وُصفت علاقة الصدر بحيدر العبادي بـ«الطيبة والودية»، خاصة أن الأخير أراد «الانفتاح على محيطه العربي» وتحجيم النفوذ/ التأثير الإيراني في العراق. احتجاجات صيف 2015 لم تكدّر صفو العلاقة بين الطرفين، على رغم مشاركة الصدر وتياره فيها. في حكومة العبادي، كانت حصة «الصدريين» 3 وزارات إضافة إلى منصب نائب رئيس الوزراء. وعلى خلفية تزايد الانتقادات لتظاهر الصدريين ضد حكومة هم جزء منها، اضطر الصدر إلى التخلّي عن حصته تلك. عقب الانتخابات الأخيرة، لم يطرح التيار مرشحين من داخله، بل قدم شخصيات مستقلة غير مرتبطة به ظاهراً، لكن الحديث عن صفقات واتفاقات من تحت الطاولة خرج إلى العلن لاحقاً، ليُنقل عن عادل عبد المهدي قوله إن «التيار الصدري» كان أكثر الضاغطين لنيل أكبر حصة من الكعكة.
هو نهج واحد يسير عليه الصدر إذاً. يشارك في الحكومة، ثم يخرج منها. ينال حصّته من «الكعكة» ثم يبرّئ نفسه أمام شارعه، محرّضاً الأخير على خصومه السياسيين. لكن في ظلّ ما أفرزه ذلك النهج من طبقية داخل «التيار»، وثراء فاحش لدى بعض قياداته، تسري مخاوف من انكشاف وضعه، الذي يحاول الصدر مداراته وإصلاحه بما تيسّر.


صلاة الجمعة: مصنع «الصدريين» وساحة مواجهة «الحوزة»
وفق محمد محمد صادق الصدر، والد مقتدى، ليست صلاة الجمعة فريضة دينية ــــ عبادية، إذ تحمل أبعاداً سياسية ــــ اجتماعية في أغلب الأحيان. استطاع الصدر الأب أن يستثمر هذه الفريضة بشكل إيجابي. من خلالها، انفتح على المجتمع، وصار على تماس مباشر معه. أُقيمت الصلاة أواخر تسعينيات القرن الماضي في محافظات الوسط والجنوب وفي العاصمة بغداد، ثم في النجف، وتحديداً في مسجد الكوفة، بإمامة الصدر نفسه.
يقول «الصدريون» إنه «من هناك فقط، عرف الشباب الشيعي الملتف حول مرجعية الصدر معنى أن يكون المرجع ناطقاً، وأن يكون له دورٌ في الحياة الاجتماعية والسياسية، وأن لا يقتصر دوره على الدرس والاستخارة وصلاة الجماعة وقبض الحقوق». كانت الجمعة بداية لتأسيس وعي مختلف لدى الجمهور «الصدري»، فقد دفعته إلى النقاش والسؤال عن دور رجل الدين في المجتمع، وعن الاستعمار وأهدافه، وعن السلطة والحريّات، وعن الطائفية وجذورها، وغيرها من الأمور .
لم تلقَ الجمعة ترحيباً من السلطتين السياسية والدينية. رفضت الأولى أي تجمعات مماثلة، أما الثانية فلم تكن مع «الأصوات الجديدة المختلفة». نجح الصدر في تحييد السلطة السياسية، فيما أطلق حملة ضد مناوئيه من السلطة الدينية، فانتقد رجال الدين المتخلّفين عن حضور الجمعة، والذين وصفوها بـ«الفتنة»، قائلاً إن «الفتنة هم صانعوها بعدم حضورهم»، مقسّماً «الحوزة» إلى ناطقة وصامتة: «الصامتون صمتوا حفاظاً على حياتهم، ففرّطوا بالحقوق والواجبات الشرعية؛ فواجبات العالِم قول الحق ونفع الناس». لم يقتصر منبره على مخاطبة رجال الدين الشيعة، بل خاطب السنّة أيضاً، إذ شدّد على نبذ الطائفية، ودعا أتباعه إلى الصلاة في مساجدهم، مؤكداً أن «تفرّق المسلمين لا يخدم سوى الاستعمار»، الذي وصفه بـ«الثالوث المشؤوم»، أي أميركا وبريطانيا وإسرائيل. إذاً، كانت الجمعة، وفق الصدر، مواجهة أيديولوجية مع جهات ثلاث: النظام، والاستعمار، والكهنوتية والرهبنة. وجد «الصدريون» فيها ترياقاً كانوا بحاجة إليه، أما الآخرون فوجدوها «سُماً» و«فتنةً» أصابت المذهب الشيعي!
خلال عامين فقط (1997 ـــــــ 1999)، بنى الصدر قاعدته الشعبية. اتسعت رقعة الجمعات، وكثرت أعداد المصلّين. بدأ النظام بالتضييق عليها، معتقلاً بعض أئمتها. استنكر الصدر ذلك، معتبراً هذه الممارسات «اعتقالاً له». لم يلقَ الصدر من النظام وأجهزته آذاناً صاغية. كرّرها، وزاد من حدّتها. كان ملتفاً بكفنه، منتظراً الرصاصة، فأتته سريعاً! انتفض أتباعه في بغداد ومحافظات الجنوب، لكن النظام قمعهم. قتل «الصدريون» بعض رجالات النظام، غير أن خسائرهم كانت أكبر. أعتُقِل كثيرون، وأعدِم كثيرون أيضاً، وهاجر آخرون إلى سوريا وإيران. كانوا معارضين مختلفين. يعتزون بعراقيتهم، ويرفضون الارتباط مع الأجهزة الاستخبارية. تحاملوا على «معارضة الخارج» وزعمائها الذين خذلوا مرجعهم، بعدما وصفوه بـ«مرجع السلطة». في الخارج، لم يكن لـ«الصدريين» أي دور كـ«عراقيي الخارج»، بل سيكون لهم دورٌ مع سقوط النظام واحتلال البلاد (نيسان/ أبريل 2003). سينبثق «تيار اللحظة الميدانية»، كما تنبّأ المفكّر حسن العلوي؛ سيُنفخ في الرماد.