لم يعد ثمة لبسٌ في تموضع رئيس الوزراء حيدر العبادي. استماتة الولايات المتحدة في انتزاع ولايته الثانية تكشف الدور الحيوي الذي بات يلعبه الرجل بالنسبة إلى واشنطن، والذي لم تكن آخر تجلياته منحها الموافقة على إعادة نشر قواتها في الصحراء الغربية. إذا ما نجحت الضغوط الأميركية في انتزاع موافقة الأكراد على التجديد للعبادي، فسيكون المشهد منفتحاً على قرارات إضافية تستهدف «الحشد» وإيران. لكنّ دون ذلك ممانعةً من قبل خصوم الولايات المتحدة، الذين لا يبدو أنهم سيتساهلون في المعركة الدائرة اليوم.تخوض الولايات المتحدة معركة «الكتلة الأكبر» في مجلس النواب العراقي بأسنانها وأظافرها. حالة «توازن النفوذ» التي سادت خلال السنوات الماضية، وبلغت ذروتها عقب إطاحة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي وتصعيد حيدر العبادي بدلاً منه، لم تعد كافية من وجهة نظر الإدارة الأميركية الحالية. المطلوب راهناً، بالنسبة إليها، منع تسلّم مَن تعتبرهم حلفاء إيران الموثوقين، خصوصاً مُمثِّلي «الحشد الشعبي»، زمام السلطة بأيّ شكل من الأشكال، لما سيكون لذلك من انعكاسات على المستوى الاستراتيجي.
هذه الغاية التي بدأت واشنطن الإعداد لها منذ ما قبل اكتمال تحرير المناطق العراقية من تنظيم «داعش»، وجدت إدارة دونالد ترامب في النتائج التي أفرزتها انتخابات أيار/ مايو فرصة مناسبة لإطلاق قطار تنفيذها. تَصدُّر «التيار الصدري» المُوصَّف أميركياً «مُتمرِّداً» على إيران نتائج تلك الانتخابات، وتحقيق رئيس الوزراء الحالي نتائج طيّبة فيها، أوحيا للولايات المتحدة بأنها باتت تملك الأدوات اللازمة لإقصاء «الحشد» (الذي احتلّ المركز الثاني في الانتخابات) وحلفائه، بعدما فشلت خطط إضعافه وحَلِّه.
كان العمل ابتداءً على استطلاع موقف «التيار الصدري»، ومدى استعداده للتعاون مع واشنطن في حال وصول مُمثِّل عنه إلى رئاسة الحكومة. تكثّفت في سبيل ذلك الاتصالات بين الولايات المتحدة و«الصدريين»، من دون أن تفلح في تبديد الغموض الذي لا يزال يطبع به الأميركيون تموضع مقتدى الصدر، أو في بناء نوع من الثقة كافٍ للمضيّ في خيار دعم رجل الدين الشاب. من هنا، وجدت الولايات المتحدة أن الخيار الأنسب والأسلم هو العودة إلى تزكية العبادي، لا سيما أن الأخير نجح في تقديم «أوراق اعتماد» مُغرية للأميركيين. وما ساعد واشنطن في مهمتها هذه، أيضاً، فشل مراهنة الصدر على أن يكون هو نفسه عرّاب التحالفات البرلمانية، وتالياً رئاسة الحكومة، واضطراره إلى التراجع عن شرط انسحاب العبادي من «حزب الدعوة» مقابل القبول به لولاية ثانية، لِمَا وجده من ثقل أميركي كبير خلف الرجل، بإمكانه ترجيح كفّة «نواة الكتلة الأكبر» التي أُعلنت من فندق بابل (تقول مصادر «التيار الصدري» إن الأخير يهرب من المالكي الذي يعني بالنسبة إليه «حرب الإلغاء»، إلى العبادي الذي يُمثّل أميركياً «خيار الاحتواء»). هكذا أضحى الصدر وتحالفه الانتخابي (سائرون) مطيّة لإيصال العبادي إلى رئاسة الوزراء مُجدداً، رغم أن الفائز الثالث في الانتخابات لم يَعُد يمتلك عملياً السيطرة على تحالفه (النصر) الذي تعرّض لانشقاقات موجعة.
شكّلت ولاية العبادي الأولى مخاضاً صعباً بالنسبة إلى خصوم واشنطن


هذا الدفع الحثيث نحو «الولاية الثانية»، والذي تستخدم واشنطن في سبيله كلّ ما تملكه من أسلحة ترغيب وترهيب، يكشف عن موقع متقدم بات يحتلّه العبادي في منظومة عمل المشروع الأميركي في بلاد الرافدين. وهو ما بدأ يتجلّى واضحاً في الخطوات الأخيرة التي أقدم عليها رئيس حكومة تصريف الأعمال، والتصريحات الصادرة عنه مع احتدام السباق على رئاسة الوزراء. لم يعد العبادي على «الأعراف» أو في المنطقة الوسطى كما أظهرته الأعوام الفائتة، بل أضحى منخرطاً في ديناميات العمل الأميركي بشكل مباشر. في ما مضى، كان عضو «حزب الدعوة» يتخذ مما سمّاها «استراتيجية التوازن في العلاقات» غطاءً لممالأة الأميركيين. لكنه، في الوقت نفسه، كان يحرص على عدم استفزاز خصوم الولايات المتحدة، سعياً منه إلى الحفاظ على «أواصر طيبة» مع طهران. ومع ذلك، شكّلت سنوات ولايته الأربع مخاضاً صعباً بالنسبة إلى أولئك الخصوم، من آليات الحرب على «داعش» التي كان يُراعى العنصر الأميركي في كل صغيرة وكبيرة منها، حدّ منع «الحشد» من الاشتراك في بعض المعارك، مروراً بما تسمّيه قيادة «الحشد» «هضماً للحقوق» تعرّضت له هذه المؤسسة، وليس انتهاءً بالمماطلة في تنفيذ وعد إخراج القوات الأميركية من العراق.
كل تلك المعطيات جعلت العبادي مفقود الحظوة لدى منافسيه (هادي العامري ونوري المالكي)، فضلاً عن عدم التحمّس له عند من أضحوا حلفاءه (والذي لم يكن ليتبدّل لولا التدخل الأميركي)، وما بات أشبه بـ«حقد» كردي متراكم عليه وعلى سياساته. عند ذلك التقاطع، وجدت إيران الفرصة سانحة لإقفال صفحة رجل «مُتعب ومتردّد»، أصبح التمسك الأميركي به مثار علامات استفهام وشبهات. سرعان ما بلغت رئيس الوزراء الرسالة، ليقرّر أن الحرب الاستباقية هي أفضل وسائل الدفاع، ويبادر إلى تنفيذ انقلاب تدريجي على «الجارة» وحلفائها. بدأ الأمر بالتصريحات «المفاجئة» التي أطلقها على خلفية تجدّد العقوبات الأميركية ضد إيران، والتي أعلن فيها التزام العراق بتنفيذها، لتكرّ عقب إعلانه هذا سبحة الخطوات التي أراد من خلالها المجاهرة بتموضع جديد.
أصدر العبادي، الخميس الماضي، قراراً بإقالة رئيس «هيئة الحشد الشعبي» فالح الفياض، في ما بدا رسالة إلى «الحشد» نفسه ومُمثِّليه السياسيين وداعميه الإقليميين. وقبيل ساعات من إعلانه ما سُمّي «الكتلة الأكثر عدداً» مع «الصدريين»، أطلق تصريحات جديدة عالية النبرة بشأن إيران، ظهر فيها كأنه يرفض الاعتراف بفضل لطهران في تحرير بلاد الرافدين من «داعش»، ويكرّر عزمه الالتزام بالعقوبات الأميركية. ويوم أمس، بلغ الانقلاب ذروته بتنصيب العبادي نفسه رئيساً لـ«هيئة الحشد الشعبي» خلفاً للفياض، في خطوة «استفزازية» و«خشنة» (لم تسبقها أي مقدمات كإصدار بيان رسمي) استهدف من ورائها تطمين الأميركيين إلى أنه مستعد للذهاب إلى أبعد الحدود في ترويض «الحشد»، ومنع تحوّله إلى بؤرة معادية لواشنطن، ومن ثمّ منع أي تأثير لخصوم الولايات المتحدة في القرار الأمني العراقي. حالياً، يعيش الرجل ساعات عصيبة على أمل أن ينجح الأميركيون في انتزاع موافقة الأكراد على الانضمام إلى «تحالف الإصلاح والبناء» (العبادي ـــ الصدر)، ومن ثم منحه فرصة الولاية الثانية. لكن ما يجدر بالعبادي التنبّه إليه هو أن المعركة الدائرة اليوم هي من نوع «كسر العظم»، وبالتالي فإن التراجع فيها ـــ بالنسبة إلى خصومه ـــ قد يعني بشكل أو بآخر انفتاح باب الاستسلام.