الوضع حرج جدّاً في ساحل العاج، بعدما انتقلت الأزمة إلى مستوى جديد، حيث بدأ أنصار الطرفين التراشق بالأسلحة الثقيلة في شوارع العاصمة أبيدجان، ما أدى إلى سقوط نحو 20 قتيلاً. منذ أسبوعين والموقف يسير من سيئ إلى أسوأ. ولم يقبل لوران غباغبو إعلان الأمم المتحدة اعترافها بانتصار خصمه الحسن
واتارا في الانتخابات الأخيرة. وكان أول رد فعل هو إعلان الجيش وقوات الشرطة الولاء للأول، ما فتح البلد على آفاق تجدّد الحرب الأهليّة والتقسيم.
مرة أخرى تعود الأزمة «العاجية» لتطل مُهدِّدة بإشعال حرب قد تمتدّ إقليمياً، كأن البلد لم يتغير منذ عشر سنوات، وقد ظل عملياً، مُقسَّماً إلى اثنين، بعد حرب طاحنة كادت تؤدي بالشماليين إلى الزحف على العاصمة، لولا تدخل القوات الفرنسية في سنة 2002، التي رسمت خطاً يُقسّم البلد إلى شطرين متناقضين: الشمال المسلم الفقير، والجنوب المسيحي الغنيّ. ورغم أن غباغبو نجح قبل سنوات في تحقيق شبه مصالحة، فإنها كانت تكتيكاً من التكتيكات التي يتقنها، بغرض استنزاف خصومه وأحياناً التخلص منهم، كما فعل مع القائد الشمالي، غيلوم سورو، الذي عيّنه رئيساً للوزراء ثم وزيراً، لكن لا شيء تغير، إذ كانت تكتيكات غباغبو تتلخص في تعزيز شعبيته، وكانت استطلاعات الرأي تكرّسه فائزاً أكبر في البلد، ساحقاً كل خصومه.
وإذا كانت عشر سنوات لم تستنزف الرجل، بل على العكس زادته رغبة في الحفاظ على السلطة بأي ثمن، فقد أصبح من الصعب أن يَقْبل الانسحاب من الواجهة، وخصوصاً أنه أصبح سجيناً لخياراته وشعاراته السياسية الشعبوية والخطيرة، حيث بات أنصاره يتحدثون في شبه هيستيريا عن العدو الخارجي المتربص بالبلد، ويرون في خصوم الرئيس عملاء للأجنبي، إن لم يكونوا أجانب وليسوا من ساحل العاج. وتجلّى ذلك في الانتخابات السابقة، حين رُفِض طلب ترشح الحسن واتارا على أساس أنه ليس «عاجيّاً» كاملاً، رغم أنه كان رئيساً لوزراء الرئيس الأسبق هوفيت بوانيي.
في المسرحية «العاجية» أدى غباغبو القسم الدستوري أمام أعضاء المجلس الدستوري، الذين أعلنوه رئيساً وسط تصفيقات من الحضور. لم يكن في القاعة كثير من الوفود الأجنبية، فقط سفراء روسيا وأنغولا ولبنان، لكنه كان مدعوماً من المقربين منه ومن ممثلي المجتمع المدني. وأعلن في حفلة التتويج «احترامه للدستور ودفاعه عنه، وحماية حقوق المواطنين وحرّياتهم، وتأدية مهمّاته للمصلحة العليا للأمة».
بعد أسبوعين من الأزمة ليس للمجتمع الدولي ما يفعله. الأمين العام للأمم المتحدة والولايات المتحدة وفرنسا والاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي أعلنوا اعترافهم بانتصار الحسن واتارا. أما الاتحاد الأفريقي فقد حاول أن يتوسط بين الطرفين، لكن مهمة ثابو مبيكي فشلت منذ بدايتها، وسط تصريحات غباغبو المعروف عنه استخدامه لخطاب شعبوي بشعارات الحفاظ على الاستقلال، وإنجاز «الاستقلال الثاني»، والدفاع عن السيادة.
يتعقّد الأمر إذ، من الجهة الأخرى، أدّى الحسن واتارا القَسَم الدستوري بصفته رئيساً لساحل العاج، وأعلن انضمام غيوم سورو إلى حكومته وعيّنه رئيساً للوزراء. وكان جواب غباغبو على هذا الاعتراف الدولي بانتصار غريمه، الذي وصفه بأنه «مُرشَّحُ الخارج»، إعلان رفضه التخلّي عن أي جزء من سيادة البلد: «سأواصل العمل مع كل دول العالم، لكني لن أتخلّى أبداً عن السيادة الوطنية». ولأن غباغبو لاعب سياسي ماهر، وقد أثبت ذلك باحتفاظه بالسلطة في هذا البلد خلال عشر سنوات، فهو يستطيع بسهولة العثور على حلفاء في الخارج، وخصوصاً في مجلس الأمن، حيث أفشل الروس، حسب دبلوماسيين في الأمم المتحدة، إعلاناً للمجلس يعترف بفوز الحسن واتارا.
ما هي مخاطر بقاء ساحل العاج برأسين، وهل بإمكان المجتمع الدولي أن يتدخّل؟
البلد، في واقع الأمر، ممزّق إلى نصفين، وهو ما نجحت القوات الفرنسية في رسمه أثناء الحرب السابقة، وهو ما يُرْضي كذلك قطاعات واسعة من الجنوبيين، الذين يغارون على مصادرهم الطبيعية وعلى الكاكاو، من ولاء الشماليين، المشكوك في وطنيتهم وفي «عاجيتهم»، والذين يُزْعَم أنهم ينحدرون من مالي وبوركينا فاسو وغيرهما من الدول المجاورة. وحتى إذا كان غباغبو يتشدّق بحرصه على وحدة البلد التي لا تتجزأ، فقد كان سعيداً، حين كان يتسلط على حكم الجنوب الذي ينعم بالرخاء، فيما كان الشمال يعيش على الكفاف.
الكثير من المراقبين يرون أن التقسيم واردٌ بقوة إذا فشلت الوساطات الحالية. إذ سينكفئ غباغبو إلى الجنوب الذي يدرّ ذهباً ويعجّ بالاستثمارات الأجنبية (الكثير منها من فرنسا)، ويترك الشمال لفوضاه وجوعه.
وكل ما تستطيع الوساطات أن تفعله هو تقاسم السلطة بين غباغبو والحسن واتارا على أن يكون الأول هو رأس الدولة (شرط أن يقبل واتارا، ولا يظن أحد أنه سيقبل). حتى التفكير في إعادة الانتخابات لن يكون في وارد غباغبو، الذي «فاز» بدعم من المجلس الدستوري الذي ألغى انتخابات 7 مناطق شمالية من مجموع 11 منطقة، والذي يعرف أن الحسن واتارا ضَمِنَ أصوات الشمال بالإضافة إلى أصوات أنصار المرشحين الآخرين، الذين يحقدون على غباغبو، في الجنوب.
وفي ما يخص التدخل الأجنبي، لن يكون أكثر من عقوبات اقتصادية، فلا فرنسا، المستعمر السابق، ولا دول أخرى تستطيع أن تفعل غير ذلك، وخصوصاً أن موجة من العداء لباريس تتزايد وتهدد الآلاف من الفرنسيين المنخرطين في اقتصاد البلد.
العالم ينتظر ما الذي يمكن أن يفعله الساحر الجنوب أفريقي ثابو مبيكي. لكن غباغبو (الذي لا يختلف عن قادة أفارقة عديدين)، لن يكون مستعدّاً لتقاسم «عسل السلطة» مع أحد.

اللبنانيون يلتزمون منازلهم... والمعارضة تتّهم أثرياءهم بدعم غباغبو

الجالية اللبنانية في أفريقيا مجدّداً في قلب حدث ساحل العاج. اشتباكات متفرّقة لا يزال اللبنانيون بعيدين عنها، وإن كانوا قد أُدخلوا في الصراع على السلطة من خلال مشاركة السفير في تنصيب لوران غباغبو ودعم بعض المتمولين له

جمانة فرحات
في وقت تتواصل فيه الأزمة في ساحل العاج بسبب رفض الرئيس المنتهية ولايته لوران غباغبو التسليم بهزيمته، ونقل السلطة إلى خصمه الحسن وتارا، يحاول اللبنانيون المقيمون في ساحل العاج تدبّر أمورهم بانتظار جلاء الأزمة.
وقد أوضح المدير العام للمغتربين في وزارة الخارجية اللبنانية، هيثم جمعة، أن أوضاع اللبنانيين، الذين تقدَّر أعدادهم بأكثر من 60 ألفاً، بخير، وأنه يجري التواصل بطريقة دائمة مع العديدين منهم للوقوف على أوضاعهم.
وأكد عدد من أبناء الجالية اللبنانية، الذين تواصلت معهم «الأخبار»، أنهم يلتزمون منازلهم حرصاً منهم على سلامتهم وأفراد عائلتهم، معربين عن أملهم في انتهاء الأزمة سريعاً.
وعلى الرغم من عودة الهدوء الجزئي إلى الشوارع أمس، أشار اللبنانيون إلى أنهم اضطروا مرةً جديدة إلى إقفال متاجرهم نتيجة المواجهات التي شهدتها البلاد أول من أمس، بعدما نزل أنصار وتارا إلى الشارع واصطدموا مع الشرطة الموالية لغباغبو، ما أدى إلى مقتل نحو 20 شخصاً على الأقل.
وتحدّث عدد من أفراد الجالية اللبنانية عن حوادث محدودة تعرّض لها اللبنانيون، إذ رأى علي كفال أنه «يجب وضعها في إطار فردي»، إلّا أنّ آخرين لاموا السفير اللبناني، علي عجمي، على مشاركته في حفل تنصيب غباغبو على عكس المقاطعة التي اعتمدها معظم سفراء الدول الأجنبية.
وفي وقت حاول فيه البعض تبرير خطوته، التي فُسّرت على أنها تأييد من اللبنانيين لغباغبو، أشار المدافعون عن عجمي إلى أنه ما كان ليتصرف على هذا النحو لو لم يتلقّ الأوامر من وزارة الخارجية اللبنانية بالمشاركة، فيما لمّح البعض إلى اعتبارت أمنية بما في ذلك قرب مقره من القصر الجمهوري.
وطرح اللبناني س. ز. علامات استفهام عن أسباب انحياز السفير إلى غباغبو، معرباً عن اعتقاده بأن عجمي تسرّع في خطوته التي من شأنها تعريض حياة اللبنانيين للخطر. وأوضح أنه في أعقاب مشاركة السفير اللبناني، عمد أنصار وتارا إلى رشق العديد من محالّ اللبنانيين بالحجارة، ما فاقم مخاوف أبناء الجالية اللبنانية.
وبعدما أشار إلى ترحيل العديد من أرباب الأسر لعائلاتهم إلى لبنان، أكد أن اللبنانيين من أصحاب المصالح في ساحل العاج ليس لديهم استعداد لترك البلاد، مشيراً إلى أن ساحل العاج تمثل بلدهم الثاني، ولا سيما أن العديدين منهم ولدوا في ساحل العاج. وأعرب عن أمله في أن تهدأ الأوضاع ويجري إيجاد حل للأزمة من دون إراقة للدماء، بعدما تحدث عن تضاؤل المعلومات المتوافرة، وخصوصاً بعد إقدام السلطات على منع الأخبار الصادرة من فرنسا وسيطرة أنصار غباغبو على الإذاعة والتلفزيون.
وفيما أكد أحد الذين تواصلت معهم «الأخبار» أن أوضاع اللبنانيّين جيدة بطريقة كبيرة وبأنهم لم يتعرّضوا لأيّ مشاكل، رأى أنه إذا طال أمد الأزمة، فإن مسؤولية حماية الرعايا الأجانب ستُلقى على عاتق دولهم، مؤكّداً، في الوقت نفسه، أن السفير اللبناني يعمل ما في وسعه لمساعدة اللبنانيين. وشدد على أنه في حال وجود عدد من اللبنانيين من الذين يتدخلون بطريقة «وسخة» في السياسة في ساحل العاج، فإن هؤلاء يتحملون المسؤولية الشخصية عن أفعالهم.
والسخط القائم على عدد من اللبنانيين، أكده أحد أبناء الجالية اللبنانية الموجود حالياً في ساحل العاج، موضحاً أن المعارضة الموالية لوتارا تستغل ارتباط عدد من التجار اللبنانيين بمصالح مع نظام غباغبو للتحريض على اللبنانيّين عموماً. وأشار إلى نشر مقالات في صحف المعارضة تتضمن أسماء عدد من اللبنانيّين الذين يمثّلون رافعة لحكم غباغبو.
والمقالات المذكورة أشارت إلى التاجر إبراهيم عز الدين، متهمةً إياه بإدارة مشاريع في ساحل العاج بدعم من رجال النظام وأفراد عائلة الرئيس، كما تحدثت المقالات عن تورط آخرين، بينهم عادل قبّاني وموسى رضا.
وكشف أحد اللبنانيين، الذي فضّل عدم الكشف عن اسمه، أن أحد أفراد الجالية تعرّض أول من أمس للضرب على أيدي أنصار وتارا بعدما فوجئ بهم يسيرون في تظاهرة أثناء عودته مع عائلته إلى منزله.
وفيما أشار إلى أن السفارة اللبنانية وزعت أرقام هواتف للاتصال بها، رأى أنها لا تملك الكثير لتقدّمه إليهم.
وناشد وزارة الخارجية اللبنانية مساعدة اللبنانيين غير المتموّلين على إجلاء عائلاتهم إلى لبنان لعدم قدرتهم على تحمل مصاريف السفر، وأكد أنهم لا يطلبون من الدولة اللبنانية التكفل بكامل مصاريف إرسال العائلات إلى لبنان أُسوةً بما أعلنته دول أخرى، مطالباً على الأقل باتخاذ قرار بخفض تذاكر الطيران، على اعتبار أن اللبنانيين الميسورين أقدموا على ترحيل عائلاتهم إلى لبنان مع اندلاع الأزمة.
واشتكى كذلك من الأوضاع الاقتصادية المتردية، متحدثاً عن انقطاع الغاز وارتفاع أسعار العديد من السلع الغذائية وهو ما لا طاقة لهم على تحمّله.
وأكد أنّ اللبنانيّين لا يزالون يلتزمون المنازل، ويعمد العديدون منهم إلى محاولة تأمين سفر أسرهم من خلال معارفهم.