لم ينتظر رئيس الحكومة التركي المنتهية ولايته، أحمد داوود أوغلو، انقضاء الأيام الـ 45 لانتهاء المهلة الدستورية لتشكيل الحكومة الجديدة (23 آب)، حتى أعلن أنه «لا إمكانية لتشكيل حكومة ائتلافية ضمن المشهد الحالي». تصريح داوود أوغلو الذي خلف أردوغان في رئاسة حزب «العدالة والتنمية»، جاء مطابقاً للتوقعات التي بدأت وسائل الإعلام ومراكز «الدراسات التركية» الحديث عنها مع إعلان نتائج الانتخابات.
فبالرغم من المشاورات «الاستعراضية» التي قام بها داوود أوغلو مع كلّ من زعيم حزب «الشعب الجمهوري»، كمال كليتشدار أوغلو، ورئيس حزب «الحركة القومية»، دولت بهشتلي، فإنها لم تخرج عن سياق «رفع العتب»، وفقاً لتأكيدات الزعيمين المعارضين.
ففيما أعلن كليتشدار أوغلو في ختام لقائه المطول مع داوود أوغلو أنه لم يتلقَّ «عرضاً حقيقياً» لتشكيل حكومة ائتلاف، في ظلّ رفض داوود أوغلو مناقشة فكرة ائتلاف بعيد الأمد، ما يعني نية إجراء انتخابات مبكرة، كشف بهشتلي عن الافتقاد للأرضية المشتركة مع «العدالة والتنمية» لتشكيل حكومة الائتلاف.
بالإضافة إلى الاختلاف الايديولوجي بين «العدالة والتنمية» اليميني الإسلامي، وبين «الشعب الجمهوري» اليساري العلماني، برزت عدة نقاط اختلاف بين الحزبين، بما يخص نظام التعليم وغيرها، يبقى عنصر الخلاف الأساسي بينهما الرئيس التركي أردوغان بذاته.
فقد أعلن «الشعب الجمهوري» مراراً وعلى لسان أكثر من متحدث رسمي، معارضته لسياسات أردوغان الخارجية، ولا سيما ما يخصّ الملف السوري، إضافةً إلى مطالبته الرئيس التركي بالعودة إلى الحدود الدستورية للرئاسة والكف عن التصرف كزعيم حزب وحاكم للبلاد.
كذلك، أعلن حزب «الحركة القومية» أربع نقاط كشرط أساسي للدخول في حكومة ائتلاف، تتلخص في التشبث بالمواد الأربع الأولى من الدستور (ضمنها نظام الحكم)، ووقف العمل بعملية السلام لحلّ القضية الكردية، إثارة قضايا الفساد التي طاولت قيادات في «العدالة والتنمية» (تم الكشف عنها بين 17-25 كانون الأول من عام 2013)، وعدم تخطي رئيس الجمهورية صلاحياته الدستورية.
هذه المطالبات تتعارض مع حلم أردوغان الذي أعلن في مناسبات عدة أنه يهدف إلى تحويل نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي، وهو ما سعى إليه خلال المئات من اللقاءات الجماهيرية التي نظمها في فترة الاستعداد للانتخابات البرلمانية الماضية، خلافاً للدستور. وبحجج افتتاح مشاريع وتفقد منشآت وما إلى ذلك، كان الرئيس يحاول إغراء الناخبين، بهدف حصول على أغلبية الثلثين في البرلمان ما يعبّد له الطريق لتعديل الدستور.
إلا أن نتائج انتخابات السابع من حزيران، جاءت مخيبة لآمال «السلطان» الذي اتخذ قراره منذ ذلك الحين، وفقاً لتأكيد عدد من الصحافيين الأتراك المعارضين، بإفشال حكومة الائتلاف وتصدير الأزمة السياسية للخارج عبر خوض حرب مع حزب «العمال الكردستاني» المحظور في تركيا.
ويقول رئيس تحرير صحيفة «جمهورييت»، جان دوندار، إن أردوغان، عبر إفشاله تشكيل حكومة الائتلاف، يطمح إلى خوض انتخابات مبكرة قد توفّر له نصاب الثلثين لتعديل الدستور أو على الأقل نسبة (50 + 1) لتشكيل حكومة بمفرده، عبر إقناع الناخب التركي باستحالة تحمّل الأحزاب الأخرى «المختلفة في ما بينها» مسؤولية البلاد السياسية وضمان مساندة «الرأسمالية التركية» بالمطلق نتيجة خوفها من تردي الأوضاع الاقتصادية مع فقدان الاستقرار السياسي.
أما بالنسبة إلى الحرب مع منظمة «بي كي كي» (حزب العمال الكردستاني) فيفسره مراقبون بأنها محاولة لاستمالة اليمين القومي المتطرف، بعدما خسر «العدالة والتنمية» معظم أصوات الأكراد لصالح حزب «الشعوب الديموقراطي» الموالي للأكراد، وهو الذي كسبها سابقاً بوعود عملية السلام التي أطلقها أردوغان مع بداية عام 2010.
حسابات لا تبدو دقيقة للرئيس التركي الذي اتهمه نواب في حزب «الشعب الجمهوري»، بتسيير رئيس الوزراء السابق بأوامره كالرجل الآلي.

أكد أردوغان مراراً في السنوات الماضية أن الانتخابات المبكرة خيانة للوطن

ويرى مدير مؤسسة «هاينريش بول» في اسطنبول، كريستيان باركل، أن نتيجة الانتخابات المقبلة لن تختلف عن نتيجة انتخابات حزيران الماضي بحيث «سيفوز حزب العدالة والتنمية مرة ثانية بغالبية كبيرة، لكنه لن يستطيع الحصول على الغالبية المطلقة». وسيحتل «الشعب الجمهوري» المرتبة الثانية، «الحركة القومية» المرتبة الثالثة، ويليه حزب «الشعوب الديموقراطي». في هذا الوقت، ذهبت شركة «جيزيجي» التركية للدراسات واستطلاعات الرأي أبعد من ذلك، حين أعلن صاحبها مراد جيرنجي، أن الانتخابات المبكرة «ستقلل من نسبة أصوات حزب العدالة والتنمية لتصبح أدنى من ٣٥٪».
وفي خضم هذه الفوضى السياسية والأمنية في البلاد بقي حزب «الشعوب الديموقراطي» الموالي للأكراد، يتلقى «صدمات» التصريحات الدبلوماسية الواحدة تلو الأخرى بين اتهامات أعضائه بدعم «الإرهاب» والمطالبات برفع الحصانة عن نوابه واعتقال موالين وأعضاء فاعلين له، كل هذا قوبل من قبل الرئيس المشترك للحزب، صلاح الدين ديميرتاش، بالتشديد على دعم أية حكومة «تحقق تطلعات الأتراك في السلام والديموقراطية والشفافية».
قد يخرج الرئيس التركي بالإعلان المرتقب عن تشكيل حكومة مؤقتة لحين تنظيم الانتخابات النيابية المبكرة خلال 90 يوماً. حكومة يكون التمثيل فيها حسب نسبة تمثيل كل حزب في البرلمان، ولا تدخل في تصويت لنيل الثقة حسب المادة 114 من دستور الانقلاب الذي ترفضه كل القوى السياسية في تركيا اليوم.
تجدر الإشارة إلى أن خيار الانتخابات المبكرة الذي يسعى إليه أردوغان اليوم، كان ذات يوم بمنزلة «خيانة للوطن» بالنسبة إليه. فمنذ عودته لمزاولة السياسة عام 2002، صرح أردوغان في ختام اجتماع المجلس الرئاسي لاتحاد الغرف الأوروبي في نيسان 2005 قائلاً: «أقولها بوضوح، الحديث الآن عن إجراء انتخابات مبكرة يُعتبر خيانة للوطن»، وأكد الفكرة نفسها أثناء افتتاحه أحد المصانع في آذار 2009، بالقول «إن الترويج لانتخابات مبكرة ليس في صالح هذه البلاد. وأقولها بصراحة سيكون ذلك خيانة لهذه الدولة».