إيران تسعى جدّياً إلى امتلاك سلاح نووي. لا شيء جديداً في ذلك، إذ إن إسرائيل والولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الاوروبي ودول الخليج العربي لم يفوتوا فرصة إلا وكرروا تلك المقولة خلال السنوات العشر الاخيرة. فلماذا كان لتقرير «الوكالة الدولية للطاقة الذرية» الذي نشر الاسبوع الماضي وقع مدوّ على الساحة الدولية؟ ولماذا عاد الحديث عن هجوم عسكري محتمل وضرورة شنّ «حرب وقائية» على إيران ليتصدر التصريحات السياسية والمقالات الصحافية؟

ففيما لم يعلن التقرير صراحة امتلاك إيران سلاحاً نووياً، واكتفى بالاشارة الى أنها تتجه في أبحاثها الى ذلك، سارعت إسرائيل الى التلويح بضربة عسكرية مباشرة، وقرع المحافظون الاميركيون طبول الحرب وباتت عبارة «كل الخيارات ممكنة» شعاراً يهدّد به البريطانيون ويسمع صداه في الخليج العربي. وفي الاعلام، كما في التقرير الذرّي، لا إجابات بل الكثير الكثير من الاسئلة: الايرانيون لا يمتلكون سلاحاً نووياً بعد، لكن متى سيتمكنون من ذلك، غداً أو بعد سنوات؟ كيف يمكن المجتمع الدولي منعهم، هل من خلال عقوبات اقتصادية قاسية جداً تشلّ قدرات النظام؟ ام بحرب عسكرية شاملة؟ كيف سيتعامل باراك أوباما مع الأمر؟ هل يخذل شعاراته «المسالمة» التي رفعها منذ تسلمه الحكم ويقبل بحرب مكلفة اخرى ستقضي على شعبيته داخلياً؟ أم تجرّه إسرائيل الى مساندتها اذا ما قررت الهجوم أحادياً على إيران؟ لكن هل إسرائيل مستعدة فعلاً لتنفيذ هجوم مماثل أم أنها تلوّح بذلك فقط لتزيد الضغط على المجتمع الدولي وتدفعه لاتخاذ موقف حاد من النظام الذي يهدد استقرارها؟ ماذا عن تداعيات ضرب إيران على أسعار النفط العالمية؟
الاعلام الأميركي والبريطاني والفرنسي بمعظمه لم يطرح أسئلة حول توقيت نشر التقرير او مدى صوابيته، رغم الاعتراف بالغموض الذي يطغى على مضمونه واستنتاجاته. المحللون قفزوا الى ما بعد التسليم بنتائج التقرير وطرحوا سيناريوهات، أفضلها «يبشّر» بعقوبات مميتة على النظام الايراني.
«الوقت يدهمنا لوقف برنامج إيران النووي»، عنونت صحيفة «واشنطن بوست» افتتاحيتها أول من أمس، دافعة بطريقة غير مباشرة الى خيار الهجوم العسكري. الصحيفة وضعت إدارة أوباما أمام خيارين: إما عدم استخدام القوة العسكرية واللجوء الى فرض عقوبات اقتصادية قاسية على إيران، بالتالي جرّ الرئيس والبلاد الى تحمّل ارتفاع أسعار النفظ وخنق الاقتصاد الاميركي أكثر، أو السماح لإيران بالاستمرار في برنامجها «وذلك ستكون كلفته أكبر».
افتتاحية «نيويورك تايمز» دافعت، بدورها، عن صدقية التقرير مشيرة الى «دقة مصادره». لكن الصحيفة عرضت الخيارات الأميركية كما هي: «لسنا واثقين من أن مجموعة من العقوبات الجديدة والمتنوعة ستردع إيران عن المضي بطموحاتها النووية، لكننا واثقون من أن أي حرب عليها ستكون كارثية. كما أن ضربة عسكرية على المنشآت الايرانية لن توقف البرنامج بل ستؤخره فقط، وستدفع الايرانيين إلى الالتفاف حول حكومتهم اللاشرعية كما ستؤدي الى ردود فعل دولية عنيفة ضد إسرائيل وضد الولايات المتحدة».

التقرير مموّه

وحول التقرير ينقل موقع معهد «بروكينغز» عن مارك هيبس من «مجلس العلاقات الخارجية» أنه «يشير بكل وضوح الى أن إيران تعمل، بحثاً وتطويراً، على امتلاك سلاح نووي بطريقة نظامية ودقيقة». هيبس يشير الى الصفحة ٥ من الملحق المرفق بالتقرير، والتي تبيّن كيف يتقاطع البرنامج النووي السلمي الايراني مع العسكري. وهذا «ما يبرّر» حسب هيبس، شعور إسرائيل بأنها مهددة. لكن الباحث يقول أيضاً إن التقرير يظهر كيف أن إيران أوقفت بعض أهمّ نشاطاتها في العمل على امتلاك السلاح النووي خلال عام ٢٠٠٣ أو ٢٠٠٤ خشية كشفها بعد الغزو الاميركي للعراق. هيبس يمضي مدافعاً عن «الوكالة الدولية» وتقريرها بالقول إنه بعد فعلة جورج والكر بوش باتت سمعة الوكالة على المحك، لذا فهي باتت تعمل بدقة أكبر كي لا تقع تقاريرها تحت تأثير الدول الكبرى وخاصة الولايات المتحدة. لكن «ماذا يقول التقرير عملياً؟» يجيب هيبس أنه «يعطي أجزاء معلومات تشير الى أن إيران كانت تستعدّ لكيفية تنظيم إجراء اختبار سلاح نووي». لكن التقرير، يردف هيبس، لم يذهب بعيداً بالقول لإيران: «ها قد كشفناكِ وكشفنا كل خطتك الزمنية لإجراء اختبار نووي».
لكن جوليان بورغرز، في «ذي غارديان» البريطانية، يرى أن مضمون التقرير هو مموّه لدرجة أن معناه قد يختلف بين قارئ وآخر. فالتقرير يؤكد من جهة وجود برنامج نووي عسكري إيراني، وهو لا يحسم ما اذا توقف العمل عليه في عام ٢٠٠٣ أو لا. كما أن المراقبين الدوليين لا يبدون واثقين من التوصل الى أي استنتاج حول الفترة الاخيرة رغم كشف التقرير نفسه عن برامج كومبيوتر وتقنيات اخرى استخدمت أخيراً لتطوير النووي العسكري. بورغرز يخلص الى أن الأكيد الوحيد هو أن «ليس هناك سباق إيراني لامتلاك القنبلة الذرية بل هو مجرد مشي على رؤوس الاصابع أو السير على مهل تجاهه».
أما الجديد المهم في التقرير، فهو، بنظر تييري كوفيل من «معهد العلاقات الدولية والاستراتيجة»، تصعيد لهجة الوكالة الدولية تجاه إيران وتغيير طريقة تعاملها مع الملف الايراني، «وهو أمر لاحظناه بعد مغادرة الرئيس السابق محمد البرادعي ومجيء يوكيا أمانو الذي يعتمد بوضوح سياسة موالية للغرب».

أوباما والانتخابات والصين

لكن ماذا عن الحراك السياسي بعد إخراج الخطة النووية الايرانية الى العلن وتوثيقها أممياً؟ «نحن امام لعبة متعددة المستويات»، تقول سوزان مالوني من معهد «بروكينغز»، كما نقلت عنها صحيفة «لو موند». مالوني تشرح أن «الاسرائيليين يضغطون حالياً على الاميركيين والصينيين لفرض مزيد من العقوبات الاقتصادية على إيران يغية تفادي هجوم عسكري إسرائيلي أحادي».
والسؤال يبقى هل ستتنبّه الصين الى أن إسرائيل والولايات المتحدة «تبلفانها» وتصرّ على رفض معاقبة إيران؟ أم توافق على مواجهة الايرانيين وقطع علاقاتها التجارية والاستثمارية معهم؟ وبأي ثمن؟ مالوني تشير الى أن فرض العقوبات لن يكون سهلاً على أوباما أيضاً، إذ إن الأمر سيزيد من حدّة الازمة الاقتصادية الاميركية في خضم حملته الانتخابية كما سيخرّب علاقاته مع روسيا.
ورغم اعتراف مالوني بأن ما نشهده حالياً هو «مستوى غير مسبوق من التوتر في العلاقات مع إيران» الا أنها تستبعد احتمال اللجوء الى خيار المواجهة العسكرية معها. «إذ ليس من مصلحة إسرائيل أن تدخل في حرب مباشرة مع إيران وبالتالي مع «حزب الله» و«حماس» في ظل علاقات مستجدة غير سوية مع كل من تركيا ومصر». مالوني تستنتج أنه «فقط عندما يتحول تهديد إيران لإسرائيل واقعاً ملموساً ستبارك الولايات المتحدة الهجوم الاسرائيلي من دون أن تشارك مباشرة فيه».
من جهته، ينتقد سيمون تيسدال في «ذي غارديان» دعوة الجمهوريين والمحافظين الاميركيين الى حرب على إيران لأن ذلك يعني تصعيد الحرب النووية، انتقام عسكري من إسرائيل، عداء للولايات المتحدة في البلدان المجاورة لإيران، أزمة حادّة في سوق النفط العالمية... «وهذا لا يبدو جيداً بالنسبة إلى رئيس مرشح لولاية ثانية»، يستنتج تيسدال. فيما يناقضه جيفري غولدبرغ، على موقع «بلومبرغ»، الذي يدعو الى تدخل عسكري في إيران، ويقول إن «أوباما لا يريد أن يتذكّره التاريخ على أنه الرئيس الذي فشل في حماية وجود إسرائيل»!




«لعبة بوكر إسرائيلية»

«إمسكوني وإلا أرتكبت الأسوأ» هكذا تلخص مراسلة صحيفة «ليبيراسيون» الفرنسية في القدس المحتلة الرسالة الاسرائيلية للقوى الدولية العظمى. دلفين ماتيوسان تذكر بأن إسرائيل طالما لوّحت بضربة استباقية على إيران إذا لم تنفع العقوبات الدولية بردعها عن تطوير برنامج نووي عسكري. ورئيس الوزراء الاسرائيلي طالما وصف النووي الايراني بـ«التهديد الوجودي». لكن هل التلويح الاسرائيلي الاخير بشن هجوم على إيران أمر وارد رغم انقسام الآراء الداخلية حوله أم هو مجرد وسيلة لزيادة الضغط الدولي على إيران وإضعافها؟
وفي حال اختيار اسرائيل الهجوم العسكري، يشرح المقال، مدى صعوبة تدمير الاهداف النووية الايرانية لأنها قد تكون مخبّأة جيداً أو مدفونة تحت الارض، ما سيستدعي طلعات جوية إسرائيلية كثيفة، وبالتالي الحاجة الى مساندة أميركية كبيرة أقلّه لوجستياً. فهل ستشارك الولايات المتحدة في ذلك؟ كيف؟ وهل أوباما مستعد لمخاطرة بهذا الحجم؟