يرى وزير الخارجية الفرنسي الأسبق، هيرفي دوشاريت، أن العرب في أثناء إضاءة شعلة «الربيع العربي» لم ينتظروا الأوروبيين على قارعة الطريق، مشيراً إلى أن الخوف من وصول الإسلام الراديكالي إلى السلطة راكباً موجة الحركات الديموقراطية هو شعور مبالغ به في الغرب وفي أوروبا، مؤكداً في المقابل أن السير، حتى ولو كان على مراحل، باتجاه الديموقراطية يمر عبر احترام الأقليات الإسلامية والمسيحية، وهذا هو احد أعمدة الديموقراطية. ووصف الأوضاع في سوريا بأنها مؤلمة ومدانة عميقاً، معلناً عن خلافه مع وزير الخارجية الفرنسي ألان جوبيه حول الاعتراف بالدولة الفلسطينية. كذلك يتخوّف من المرحلة الجديدة حيث الغيوم تتلبد فوق سماء ليبيا.
نسأله عن الدروس المستفادة مما يجري في العالم العربي بعد انطلاق شرارة «الربيع العربي»، فيقول دوشاريت: «ثمة ثلاثة دروس.
أولاً، هناك زعزعة وخلخلة لكل المنطقة بنحو خاص وللعالم المتوسطي والعالم بأسره بنحو عام، وذلك بفعل عوامل عدة، منها: توق عميق لدى الشعوب لتقرير مصيرها بيدها، وهذا ما نسميه التطلع إلى الديموقراطية، والشعور بالظلم الفادح نتيجة الهوة العميقة بين أقلية صغيرة جداً تستفيد بإفراط من عائدات العولمة والنمو الكبير في البلدان الناشئة وبين السواد الأعظم من السكان الذي يعيش تحت خط الفقر، فضلاً عن الأموال الطائلة التي تذهب هدراً في فضائح الفساد والرشوة. وكل ذلك وسط عالم جديد من وسائل الإعلام والتواصل، الأمر الذي يُظهِّر كل هذه المسائل بشفافية وبنحو مباشر، حتى أصبحت الأشياء التي كانت مكتومة في السابق على مرأى ومسمع الجميع رغم وجود الرقابة».
ويرى دوشاريت أن «هذه المعطيات جميعها تخلق موازين قوى جديدة على خلفية شعور الشعوب بالنقمة والسخط، وأشدد على هاتين الكلمتين لدلالتهما الراهنة في الكثير من الحركات الاجتماعية التي نراها في عدد من البلدان. وإذا كانت الدول العربية قد شهدت تجليات منها، فلأنها ربما كانت دوافعها أقوى من غيرها نظراً للهوة السحيقة التي أشرت إليها قبل قليل. وهنا ألفت إلى ما تقوم به السلطات الصينية من تدابير وقائية لكبح جماح أي تحرك مماثل لديها للغايات نفسها. إنها ظاهرة ذات طابع دولي مع أنها ظهرت بحلة عربية خصوصية اليوم».
ويتابع «الخصوصية ظهرت في المنطقة في أعقاب نهاية عهد الاستعمار في منتصف الخمسينيات حيث مرحلة الجمود الكبير طاولت القومية العربية والأنظمة التي أقيمت آنذاك، وكلما تحجرت هذه الأنظمة فقدت شرعيتها الشعبية التي كانت تحظى بها في البداية. إن التناقض المتزايد على مر السنين بين الناس وهذه الأنظمة دفع هذه الأخيرة إلى اللجوء المتصاعد إلى وسائل القمع والاستبداد».
أما الدرس الثاني، بحسب دو شاريت، فهو «أن الأمور ليست سهلة المنال والتحقيق، ذلك أن التساؤلات القلقة حلت مكان مشاعر الحبور والحماسة التي بدت في الأيام الأولى. وبعد 9 اشهر تقريباً على ربيع الياسمين في تونس، على سبيل المثال، نرى أن الخروج من نظام متحجر وديكتاتوري إلى نظام جديد منفتح يحتضن الحوار والنقاش وبناء مؤسسات جديدة قائمة على الديموقراطية لن يحصل بين ليلة وضحاها. فالمطلوب وقت لإنضاج الأفكار والقرارات، وهذا ليس مدعاة للتشاؤم بالنسبة إلى الشعوب».
الدرس الثالث هو أنه «لا يمكن الآن الحكم على الأشياء، لأن الأمور بخواتيمها. فليست مستبعدة العودة إلى الوراء. إذ نرى أن القوى التي كانت تدير الأوضاع في هذا البلد أو ذاك قبل حدوث الربيع العربي تعمل جاهدة لإعادة التحكم بالأمور، والشاهد على ذلك ما يجري في مصر. أنا أتابع كل ذلك بكثير من الاهتمام والتفاؤل، أنا مقتنع بأن السير على هذه الطريق سيؤدي إلى أمور جديدة يتخللها إحباط وسقوط أوهام، وأبقى متفائلاً على العموم».
وحين نسأله عن مواقف أوروبا من هذا التحول التاريخي المسمى «الربيع العربي»، يقول وزير الخارجية الأسبق: «التاريخ لا يسير دائماً في خط مستقيم ومنتظم، بل وفق حركات متقطعة إذ ساد المشهد العربي جمود استمر لعقود، وفجأة تتحرك عجلة التاريخ.
نلاحظ أننا في مرحلة التحرك السريع. الأهم هو أن العالم العربي لم ينتظر على قارعة الطريق مجيء الأوروبيين. وكما تعرفون، الأوروبيون اختاروا دعم الأنظمة القائمة على أمل أن يساهم هذا الاستقرار السياسي في خدمة المصالح الأوروبية، وعليه انتفضت الشعوب تلقائياً، ولم يطلبوا شيئاً من الأوروبيين. وفي كل الأحوال، لم يتحرك هؤلاء بطريقة موحدة بل كانوا متفرقين من دون التأثير الفعلي على مسار الأحداث، فتأخروا في التقاط نبض التيار الشعبي في جنوب المتوسط.
والآن استقامت الأمور، وأنا مرتاح لأن فرنسا انتهجت، بدفع من رئيس الجمهورية نيكولا ساركوزي ووزير الخارجية ألان جوبيه، سياسة واضحة جداً يمكن اختصارها بدعم الحركات الشعبية».
وعن دور التيارات الإسلامية في التحولات الجارية، يقول دوشاريت: «خلال العهود العربية السابقة اعتقد الأوروبيون بأن الهدف الأساسي للاستقرار السياسي هو حماية أوروبا من صعود الإسلاموية وسيطرتها ضمن العالم العربي، ودرءاً لتداعياتها داخل أوروبا ذاتها. في الحقيقة، رأينا أن الحركات الشعبية التي تحدثنا عنها في العالم العربي لم تحمل معها بعداً دينياً بل اجتماعياً وسياسياً، إذ كانت المطالبة بالعدالة الاجتماعية وبالمزيد من الحريات هي الأبرز، مع العلم أن ما نشهده في تونس ومصر من بروز واضح لحركات الإسلام السياسي لها دلالاتها الكبرى. أعتقد أن ذلك يحدث الكثير من القلق في أوروبا، وإحساسي بأن هذا القلق ليس له أساس نظراً لوجود نقاش داخلي ضمن حركات الإسلام السياسي حول الدور الذي قد تلعبه كل واحدة منها في البلدان المعنية.
ونحن سنحصل على بداية أجوبة عن تساؤلاتنا بعد انتخاب المجلس التأسيسي في تونس وكذلك في مصر. وشعوري بأن الخوف من وصول الإسلام الراديكالي إلى السلطة راكباً موجة الحركات الديموقراطية، هو شعور مبالغ به في الغرب وفي أوروبا».
ولجسر الهوة المفترضة بين ضفتي المتوسط على خلفية المشاكل التي قد تطل برأسها بعد «الربيع العربي» و«شراكة دوفيل»، يقول دوشاريت: «في ضوء تجربتي في إطار مسيرة برشلونة الأورو ـــــ متوسطية، توصلت إلى اقتناع بأن لا تقدم جذرياً متوقعاً ما بقيت القضية الإسرائيلية ـ الفلسطينية تراوح مكانها. ومن الممكن الحفاظ على بعض المسائل الشكلية الظاهرية في الإطار الجديد، لكن لن يكون هناك تقدم فعلي بين ضفتي المتوسط.
وما قاله رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في البرلمان الأوروبي حول ضرورة أن لا يقف تأييد الأوروبيين «للربيع العربي» عند حدود الـ1967، يعكس الواقع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، ذلك أن إدامة هذا النزاع والاستمرار في احتلال الأراضي الفلسطينية من قبل إسرائيل، والسياسة الإسرائيلية المنهجية لطرد الفلسطينيين من القدس، هذا كله كارثي ليس بالنسبة للفلسطينيين والإسرائيليين وجيرانهم فحسب بل يتناقض كلياً مع كل ما يجري في العالم وفي المنطقة العربية. إنه نزاع من زمن ولى، والقيادات المسؤولة عن هذا الوضع مذنبة فعلاً».
وعما إذا كان يعتقد بأن الاعتراف بالدولة الفلسطينية قد يكون بمثابة «المخرج من فوق» من فرنسا والدول الأوروبية، يؤكد دوشاريت: «أنا أناضل في هذا الاتجاه، وهذه هي إحدى النقاط القليلة التي أختلف فيها مع صديقي وزير الخارجية الفرنسي ألان جوبيه. أعتقد بأنه نظراً للمأزق الحالي الذي تتحمل مسؤوليته السلطات الإسرائيلية، فالطريقة الوحيدة للتقدم تكمن في أن تتولى أوروبا اتخاذ مبادرة سياسية شجاعة تعترف بموجبها بواقع الدولة الفلسطينية، وهكذا يمكن من جهة إعادة الكرامة للشعب الفلسطيني، ومن جهة أخرى تغيير موازين القوى للسماح بإجراء مفاوضات حقيقية بين الإسرائيليين والفلسطينيين تحت إشراف الأسرة الدولية».
وعن رأيه بما يجري في سوريا، وهو المعروف بعلاقاته الوطيدة مع دمشق، يقول دوشاريت: «ما يجري هناك هو محزن للغاية بالنسبة إلى أصدقاء سوريا، وأنا واحد منهم، وهو وضع مدان عميقاً. ولا يمكن الاستمرار على هذا النحو، إذ يجب أن يكون العالم العربي في الصف الأمامي لإقناع السوريين بإيجاد التفاهمات الضرورية. وأدعو الدول العربية إلى أن تنخرط بعزم، وهي بدأت بذلك، لتسوية هذا الموضوع المؤلم جدا والذي يعد فضيحة».
وعن المخاوف التي عبر عنها بطريرك الموارنة بشارة الراعي في باريس قبل أسابيع، قال دوشاريت: «تقلق الأقليات وليس فقط المسيحية بل الإسلامية أيضاً من التغييرات الجارية على الأرض في كل المنطقة، لأنها كانت تظن بأن الأنظمة القائمة كانت تحميها، وهي تتخوف من أن تحصل التغييرات السياسية على حسابها. إن مسؤولية السلطات الجديدة بالتحديد هي طمأنة هذه الأقليات، إن السير، حتى ولو كان على مراحل، باتجاه الديموقراطية يمر عبر احترام الأقليات وهذا هو احد أعمدة الديموقراطية».
ويتابع «علينا أن ننظر إلى الحركات الشعبية في العالم العربي باهتمام وتعاطف وحرص على مساعدة الشعوب على إيجاد توازنها السياسي الجديد، وهذا ليس بالأمر السهل، رغم الحماسة التي أبديناها حين انطلقت الشعلة من تونس. أسمع تساؤلات عديدة وأرى إشارات قلق جمة هنا وهناك، واحتمال عودة الحرس القديم.
من جهتي، أدعو أوروبا إلى أن تكون معطاءة ومنفتحة وصارمة في مجال الأفكار لكي تكون شريكة بالفعل مع قيادات هذه الحركات الشعبية لبناء توازن جديد قد يكون صعب المنال لأنه يتطلب مساهمة الجميع».
وعن الموقف الأميركي حيال هذه التقلبات، يقول دوشاريت: «إن الأميركيين، وبخلاف ما أسمعه في أغلب الأحيان، لا يعدمون المهارة في هذه المرحلة، إذ كانوا رزينين، فبقوا في الصفوف الخلفية، لكنهم واصلوا مواكبتهم لما يجري، وهم يقومون بدورهم بطريقة مقبولة وإيجابية. إن تدخل الأميركيين والأوروبيين في ليبيا كان ناجحاً حتى الآن، ولن أخوض اليوم بموضوع حلف شمالي الأطلسي، مع ذلك إن الوضع في هذا البلد يدعو فعلاً إلى القلق، وسنرى إذا كانت ليبيا الجديدة ستتمكن من بلورة دستور جديد وبناء مؤسسات قادرة على بسط الاستقرار مستقبلاً.
هذه سوف تكون مهمة بالنسبة إلى التنمية الاقتصادية في ليبيا وللاستقرار السياسي في المنطقة، لأن ليبيا هي «حاجز» مهم جداً في وسط المتوسط وشمال القارة الأفريقية. ولهذا أنظر إلى كل ما يجري بتفهم للقرارات التي اتخذها الأوروبيون، وفي الوقت نفسه ثمة تلهف ونفاد صبر لكي يلتقي الليبيون معاً من جديد لحل مشاكلهم، فهناك تساؤلات عديدة عما سيحدث في المقبل من الأيام نظراً لشراسة المعارك ولفداحة الحرب الأهلية أكثر بكثير مما ظننا حتى الآن، إنني أتخوف من المرحلة الجديدة حيث الغيوم تتلبد فوق سماء ليبيا».



ارتبط اسم وزير الخارجية الفرنسي الأسبق، هيرفي دوشاريت، لدى اللبنانيين والسوريين والعرب بـ«تفاهم نيسان»، الذي أرسى معادلة جديدة في منتصف التسعينيات من القرن الماضي بين حزب الله وإسرائيل في جنوب لبنان كانت محطة أساسية على طريق تحرير القسم الأكبر من الأراضي اللبنانية المحتلة.