الروس ليسوا راضين عن «الربيع العربي». مواقفهم السياسية المعلنة ضد عمليات حلف شمالي الأطلسي في ليبيا وضد إسقاط نظام بشار الأسد في سوريا واضحة وثابتة لغاية الآن. انزعاج مدوّ من رؤية «الأطلسي» يبسط سيطرته ويقوّي وجوده على أراض «حليفة» وفي منطقة استراتيجية كشمال أفريقيا، وسخط شديد على دول كبرى تشارك في لعبة جديدة في الشرق الأوسط من دون أن يُحجز لروسيا مقعد فيها. لكن ما يقوله المسؤولون الروس على المنابر الرسمية هو النسخة «اللطيفة» لما يقوله بعض الصحافيين في الإعلام الروسي.
من يتابع هؤلاء يُذهل بالنبرة العدائية والمقالات المحمومة ضد «الأطلسي» والدول التي تدعم عملياته. إعلام يقدّم نظرة مغايرة للأحداث عن تلك التي يكرّرها الإعلام الغربي السائد يومياً، ومقالات تتهم الحلف مباشرة بالقتل وجرائم حرب وخرق المعاهدات الدولية وشرعة حقوق الإنسان... حتى المصطلحات تختلف هنا: فـ«الإنجازات الدولية البطولية» في الإعلام الغربي هي «أعمال إرهابية» عند الروس، و«قوّات القذافي المرتزقة» هي «المقاومة الليبية»، و«نظام الأسد المتهاوي» هو «النظام الذي يبشر بإصلاحات جدّية»... المراقبون هنا لا يرون في أحداث ليبيا سوى «احتلال أطلسي لبلد غنيّ واستراتيجي»، والمحللون مقتنعون بأن بلادهم يجب أن تدعم نظام الأسد «وتبقى وفيّة لسوريا».
هنا لا تهليل لـ«تحرير طرابلس»، كما فعل الإعلام الأميركي والفرنسي والبريطاني، بل تغطية لـ«استيلاء قوات الأطلسي على العاصمة الليبية وضربها وقصف المنشآت الحيوية فيها وقطع الطاقة والمياه عن أهلها». وهنا لا تصفيق لـ«إنجازات الثوار في معارك سرت وبني وليد»، بل وصف لـ«مقاومة ليبية ألحقت العار بقوات الأطلسي»... هنا، باختصار، ما يجري في ليبيا اسمه «حرب استعمارية بشكلها المبتذل».
أما في ما يخصّ الأوضاع السورية، فالمعلّقون الروس يستشهدون بما يحدث في ليبيا للدعوة إلى «تجنّب تكرار سيناريو مماثل في سوريا»، مع التحذير من خطر «المتعطشين للتدخل العسكري من الفرنسيين والبريطانيين». لا صور تشهر «علامات النصر» من ليبيا ولا بثّ لأفلام سوريّة مصدرها «يوتيوب».
«الأمل» الروسي بنظام الأسد لا يزال قائماً، وذلك «بالتوصل إلى وضع إيجابي بعد حلّ المشاكل الأمنية»، لأن «الإصلاحات السياسية التي يقترحها الرئيس السوري تستحق الاهتمام بكل تأكيد»، كما جاء على لسان بعض المحللين.
الصحافيون الروس لم يكتفوا بسرد الأحداث كما يرونها، بل إن بعض الأصوات ارتفعت لتنتقد تغطية الإعلام الغربي والعربي لما يجري في ليبيا وسوريا: «بعض الأفلام التي بثّتها القنوات التلفزيونية من طرابلس لم تكن سوى مشاهد ولقطات مزوّرة جرى تصويرها وإخراجها في أجنحة ليبية في دولة قطر»، كما جاء في تحقيق لوكالة «إيتار تاس». ليزا كاربوفا في صحيفة «برافدا» سألت أيضاً: «لا أدري لماذا لم يقاطع المشاهدون الإعلام الغربي السائد بعد، فيفلس ويتوقف عن بثّ الأكاذيب والبروباغندا».
وتحت عنوان «الثوار أكثر ممارسة للتعذيب من القذافي»، نشرت صحيفة «ترود» في 14 أيلول الماضي تحقيقاً عن تقرير صادر عن منظمة العفو الدولية جاء فيه أن 50% من نزلاء السجون الليبية هم من السكان المسالمين والمهاجرين الذين كانوا من مؤيّدي معمر القذافي. وتنقل الصحيفة عن تقرير المنظمة أن الثوار يعذبون المعتقلين ليحصلوا على معلومات تتعلق بالقذافي وأفراد عائلته. وقد أرسلت المنظمة خبراءها إلى ليبيا وتوصلت إلى استنتاجات «مقلقة»، إذ تبيّن أن «أساليب الصراع السياسي التي يعتمدها المجلس الوطني الانتقالي الليبي لا تختلف بشيء عن تلك التي كان يمارسها القذافي». تيموتي بانكروفت ــــ هينشي في صحيفة «برافدا» يسأل لماذا لا يتحدّث الإعلام الغربي عن خرق حلف شمالي الأطلسي للقوانين الدولية ومعاهدة جنيف بقصفه المدنيين بالطائرات وتدمير المنشآت الحيوية واتخاذ موقف منحاز في صراع داخلي والتدخل في شؤون الدول وتسليح المتمردين؟
بعض الصحافيين الروس يذكّرون أيضاً بما يسمّونه «كذبة الغرب الغبيّة عن الديموقراطية»، ويقارنون أقوال نيكولا ساركوزي وديفيد كاميرون وباراك أوباما بما «ترتكبه قوات حلف شمالي الأطلسي من قتل وقصف البنى التحتية للمدن الليبية» و«الإعداد للاحتلال بأساليب المكر والخداع». وبعض المقالات لا تغفل أيضاً الإشارة إلى «مَن يعدّ العدة لضخّ النفط من ليبيا» و«نهب ثرواتها». «ماذا عن مقتل 63 ألف مدني ليبي لغاية الآن؟»، و«كيف تدعم الحكومة البريطانية مجموعة إسلامية ليبية تصنّفها إرهابية فتسلّحها؟»، «لماذا لا يتحدّث أحد عن المجموعات المسلّحة في صفوف المعارضة السورية؟ ومن يزوّدها بالسلاح؟»... أسئلة كثيرة توجّهها بعض الصحف الروسية يومياً إلى الحكومات الدولية والرأي العالم المحلي والدولي. واللافت إشارة البعض إلى مفهوم «فتنمة» الحرب الذي طبّقه الأميركيون في حرب فييتنام، «أي محاولة استبدال الجنود الأميركيين بجنود محليين»، «والنماذج الحالية تذكر «بفتنمة» الثورات المخملية»، يضيف بعض المحللين.
سياسياً، وفي الشأن السوري خصوصاً، يتفاخر بعض الصحافيين باستخدام عبارة «روسيا تغيظ فرنسا من موقفها من الأحداث في سوريا». صحيفة «موسكوفسكي كمسموليتس» تشير مثلاً إلى تخوّف كلّ من روسيا والصين من التدخل الغربي في سوريا، وخصوصاً بعدما شهدتا «كيف تحوّل قرار فرض الحظر الجوي في ليبيا إلى قصف عشوائي بمساهمة من فرنسا نفسها». أما صحيفة «روسيسكايا غازيتا» فتفرد مقابلة مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يكرر فيها أن «سوريا هي حجر الزاوية للبنية الشرق أوسطية التي يتوقف عليها الحفاظ على السلام والأمن في المنطقة»، ويلوم المعارضة السورية على «تجاهل دعوات الحوار وإهمال الخطوات الملموسة، وإن كانت متأخرة، التي اتخذها الأسد بغية تنفيذ الإصلاح».




«روسيا تشبه ليبيا»

جزء آخر من الصحافيين الروس يلومون الحكومة الروسية على مواقفها من الثورات، ويكرهون «الوجه الذي تلبسه» حكومة بلادهم حالياً، والذي يجعلها «تشبه الديكتاتوريين الذين تدافع عنهم». هؤلاء منزعجون من تغطية الإعلام الروسي للأحداث في مناطق الثورات. فبعض المراقبين والصحافيين بنظرهم يتخذون «مواقف شخصية» من النظامين الليبي والسوري فتفتقد تحليلاتهم الدقة والعمق والموضوعية. البعض الآخر يرصد أخطاء «من يدّعون أنهم محللون سياسيون»، خصوصاً بشأن «التخويف المستمر من الإسلاميين» وتكرار «نظرية المؤامرة من قبل الغرب». صحيفة «موسكو تايمز» تصوّر انقسام الروس حول معمر القذافي كالانقسام بين مؤيّدي جوزف ستالين ومعارضيه. والجدل العقيم بين من «يعبدونه» ويرون في عهده تحقيق الثورة الصناعية الروسية وإلغاء الأمية والإنجازات العلمية الكثيرة... ومن لا يرى في ستالين سوى «ديكتاتور قمعي»، فيذهبون إلى حدود نكران كل تلك الإنجازات والحقائق بشأن فترة حكمه.
بعض الصحافيين تخوّف أيضاً من دلالات مواقف روسيا الخارجية وانعكاسها على الداخل، خصوصاً في ما يتعلق بقضايا حقوق الإنسان والحريات في المجتمع الروسي.