خرج الدخان الأبيض من قاعات الاجتماعات العسكرية في أنقرة، أمس، مثلما اشتهته سفن حكام حزب «العدالة والتنمية» تقريباً، فمُلئت الشواغر التي خلّفتها استقالات الجنرالات الأربعة الأرفع رتبة يوم الجمعة الماضي، ولم يضطر رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان إلى اللجوء إلى تمديد مهلة التعيينات والترقيات ستة أشهر، فعيّن كافة الجنرالات المطلوب تعيينهم، على رأسهم نجدت أوزل في رئاسة الأركان. وبعد أربعة أيام من اجتماعات «المجلس العسكري الأعلى»، التي صُبغَت في دورتها الحالية بالأزمة الحادة التي فجّرها قادة الحرس القديم المستقيلين من قيادة الجيش، والتي استغلها أردوغان ورفاقه لمصلحتهم، أُوجد حلّ مؤقت لمشكلة ترقية الضباط المعتقلين بتهمة التخطيط للانقلاب على الحكومة، فلم تجرِ ترقية أي من الجنرالات الـ 14 هؤلاء (من أصل 41 جنرالاً وأدميرالاً معتقلين للتهم نفسها)، رغم أن شروط ترقيتهم كانت متوافرة من حيث المدة الزمنية التي قضوها، والتي بموجبها يفرض القانون ترقيتهم. ووفق العرف السائد في نظام الترقيات، فإنّ الضابط الذي لا تجري ترقيته رغم استحقاقه ذلك بموجب المدة الزمنية التي قضاها في السلك العسكري، يتقدم بطلب التقاعد تلقائيّاً كإشارة إلى تفضيله الانسحاب من الخدمة العسكرية على أن يتحمل «العقاب» المتمثل بعدم ترقيته. لكن هذه المرة، أُوجد مخرج «وسطي» تجسّد في تمديد احتفاظ الضباط الـ 14 الموقوفين المستحقين للترقية، عاماً جديداً في رتبهم، من دون ترقيتهم ولا إحالتهم على التقاعد. وبذلك، يكون أردوغان والرئيس عبد الله غول قد مررا أزمة الجيش من دون استقالات جديدة، تضاف إلى تقاعد رئيس الأركان عشق كوشانر، وقادة الجيوش البرية والبحرية والجوية. وفي الوقت نفسه، يرجَّح أن يجري إبطال مفاعيل هذا الإجراء في الدورة المقبلة من اجتماعات المجلس العسكري الأعلى في العام المقبل، بما أنّه يتوقع أن يكون قد دخل في حينها حيّز التنفيذ مشروع تحديث الجيش، الذي يشمل تغييراً لقواعد وقوانين الترقيات العسكرية لإحلال معيار الكفاءة والنجاحات، بدل المدة الزمنية في الخدمة كشرط لترقية الضباط. من هنا، يُتوقَّع أن لا يتكرر سيناريو أزمة الترقية في 2012 على قاعدة أن هؤلاء الضباط الـ 14، حتى وإن جرت تبرئتهم جميعهم من التهم الموجهة إليهم، سيكون مبرَّراً عدم ترقيتهم بحجّة أنّ رصيدهم المهني فقير. وبعد توقيع أردوغان قرارات المجلس العسكري، أعلن الرئيس غول الترقيات التي لم تحمل مفاجأة كبيرة، وخصوصاً في ما يتعلق بالرتب الأساسية، فجاء تثبيت نجدت أوزل في رئاسة الأركان لأربع سنوات، كما عُيِّن الجنرال حائري كيرفيك أوغلو قائداً للقوات البرية (المنصب الثاني من حيث الأهمية في الجيش)، وأمين مراد بيلغل على رأس القوات البحرية، ومحمد ارتن للقوات الجوية. أما الجنرال بكير كايلونسو، فبات قائداً للشرطة. وتوقفت الصحف التركية عند تعيين أصلان غونر، الذي كان يشغل منصب نائب رئيس الأركان، في مركز قائد الأكاديمية الحربية، وهو الذي اشتهر برفضه مصافحة السيدة الأولى خير النساء غول في أحد الاحتفالات الرسمية لأنها محجبة. ومن التعيينات التي حُسبَت لـ «الحرس القديم»، تسمية الجنرال نصرت تاشديلر، الذي صدرت بحقه يوم الخميس الماضي مذكرة توقيف بتهمة التحريض على الحكومة، على رأس «وحدة العقيدة والتثقيف».
في المحصلة، يمكن اعتبار أنّ التعيينات جاءت تعبيراً عن انتصار السلطة السياسية في معركتها الأشرس مع المؤسسة العسكرية، وإن كان مستحيلاً على أردوغان وزملائه التخلص نهائياً من جنرالات الحرس القديم الذين لا يزالون يمثّلون غالبية داخل المجلس العسكري الأعلى، لكن المرجَّح أنّ العلاقة بين القيادتين السياسية والعسكرية ستكون أسهل مما كانت عليه في العقود الماضية، وأن ترقيات العام المقبل ستمر من دون معارك أو أزمات كبرى، وخصوصاً إن دخل قبلها مشروع تحديث الجيش حيّز التنفيذ.