مرونةٌ ما طبعت الموقف الروسي المتشدّد حيال سوريا. فكان لافتاً إعلان وزارة الخارجية الروسية، في بيان أول من أمس، قلقها إزاء «مقتل عدد من الأشخاص نتيجة اشتباكات بين القوات السورية والمعارضة في مدينة حماه»، داعية الأطراف إلى «الامتناع عن استخدام القوة والالتزام بالقانون». ولفتت إلى أنه «أمر غير مقبول ويجب وقفه». وأمس، أعلن مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة، فيتالي تشوركين، أن روسيا «ستؤيد ردّ فعل مجلس الأمن الدولي على أحداث سوريا يُفيد الشعب ولا يكرر سيناريو ليبيا»، مضيفاً «سنكون مرنين». مرونة لا تعني التسليم أو الاستسلام. قصّة المرونة هذه لا تعكس تغيّراً في الموقف الروسي حيال سوريا، بل هي تعبير عن «حرجٍ» ما أصاب موسكو نتيجة ما شهدته مدينة حماه يوم الأحد الماضي. وكتبت صحيفة «كوميرسانت» تحت عنوان «الدبابات لتهدئة المعارضة السورية»، أن «استخدام القوة ضد المعارضة على أوسع نطاق منذ بداية التحركات المناهضة للحكومة، ألغى عملياً المساعي التي بذلتها السلطة بهدف التوصل إلى تسوية سياسية في البلاد، وتحقيق التحولات الديموقراطية التي وعدت بها دمشق». ولفتت إلى أن التصرفات الصارمة من قبل السلطات السورية «تضع موسكو في موقف حرج، علماً بأنها حتى الآونة الأخيرة كانت تقف عائقاً في وجه مساعي شركائها الغربيين الداعين إلى اتخاذ قرار في مجلس الأمن الدولي».
صحيفة «فيدومستي» صنّفت الموقف الروسي هذا انطلاقاً من مصالحها، عدا عن كونها «مضطرة إلى أن تأخذ في الاعتبار الغموض الذي يكتنف جوانب الصراع الدائر في هذا البلد العربي». ويقول الخبير قسطنطين ماكيينكو إن «لروسيا مصالح كبيرة في سوريا، منها عقود بقيمة أربعة مليارات دولار تقريباً تشمل أسلحة ومعدات صناعية. لهذا، تسعى روسيا إلى الحيلولة دون فرض أي عقوبات على دمشق». ويلفت إلى أن العقوبات التي فرضت على إيران وليبيا «أدت إلى خسارة روسيا عقوداً تبلغ قيمتها عشرة مليارات دولار».
المصالح الاقتصادية والجيو ــــ استراتيجية، إضافة إلى مواجهة مزيد من التغلغل الغربي في المنطقة، جميعها عناصر تحدد الموقف الروسي حيال سوريا. وما الموقف الجديد إلّا حنكة دبلوماسية تفادياً للحرج، من دون أن يعني ذلك تراجعاً، وخصوصاً أن دعم روسيا لقوى الممانعة في المنطقة ليس توجّهاً إيديولوجياً بقدر ما هو «تكديس أوراق» للمواجهة حين يتطلّب الأمر.
صحيح أن روسيا عاجزة عن تثبيت قدم واضحة لها في أحداث المنطقة المضطربة، إلا أن السفير الأميركي السابق لدى الأمم المتحدة، جون بولتون، لا يبدو مطمئناً، محذراً من «تصاعد الدور الروسي في ليبيا نتيجة تراجع الأميركي». ويشرح في ورقة بحثية نشرها معهد «المشروع الأميركي» أن «الأمر المقلق والخطير يكمن في رؤية دول حلف شمالي الأطلسي تغازل موسكو وتطلب ودّها»، مضيفاً «انتصر الحلف على روسيا في الحرب الباردة وجعل النفوذ الروسي يتقلص إلى حدّ التضاؤل في أوروبا. نرى اليوم كيف أن أعضاء الحلف لا يكتفون بعناق روسيا فقط، بل إن إدارة الرئيس (باراك) أوباما تلجأ إلى الجهود الروسية في ليبيا».
ويرى أنصار نظرية الخوف من تعاظم الدور الروسي إقليمياً على حساب أخطاء إدارة أوباما في الشرق الأوسط، بحسب وكالة «ريا نوفوستي»، أن تراجع وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون عن تصريحاتها بشأن شرعية الرئيس السوري بشار الأسد، يهدف إلى «إبقاء الخطوط مفتوحة مع دمشق كي لا يضطر البيت الأبيض إلى اللجوء إلى الكرملين الذي يلتزم بموقف لا يعادي الأسد ولا يرغب في إطاحته، ويحضّ معارضيه على التفاهم مع النظام».
تكمن نقاط القوة لدى روسيا في جلوسها في الجهة المقابلة لموقع الولايات المتحدة، ما يتيح لها فرصة أكبر للمقايضة، كما هي الحال في ليبيا. أما في سوريا، فهي لن تسّلم واشنطن مفتاح مجلس الأمن، أقلّه في الوقت الراهن، ما لم ترسم المجريات على الأرض طريقها الخاص، وتجبر الجميع على سلوك موقف آخر.