دخلت مساعي حلّ الأزمة بين تركيا وإسرائيل في ساعاتها وأيامها الأكثر حسماً، حيث البازار السياسي وصل إلى ذروته، على اثر عودة المشكلة بين الدولتين إلى إطارها السياسي وبعدما ظلت منذ جريمة «أسطول الحرية» في أيار 2010، أزمة مبدئية كادت تتحول إلى «مسألة شرف» وانتقام. فُتح البازار بما أن المواعيد والاستحقاقات باتت على الأبواب:أولاً، رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان يعلن نيته زيارة قطاع غزة من معبر رفح المصري البري في غضون أيام للاجتماع بقادة حركة «حماس»، الذين زاروا تركيا في حزيران الماضي. ثانياً، سترفع لجنة الأمم المتحدة لتقصّي الحقائق بشأن جريمة أسطول الحرية، تقريرها لبان كي مون في 27 تموز الجاري لينشره في 1 آب المقبل لتوزيع مسؤوليات الجريمة. هو التقرير نفسه الذي ضغطت واشنطن لتأجيل إعلانه الشهر الماضي، بما أنّ نسخته النهائية لم تنل الرضى التركي في حينها، إذ وصفت حصار غزة بأنه شرعي. ثالثاً، أُسكت صقر اليمين الإسرائيلي، وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان، المعارض لأي تنازل، أكان على شكل اعتذار أم تعويض، وسرّبت وسائل الإعلام العبرية أنّ إسرائيل تدرس تقديم «اعتذار حذر» لتركيا وتقديم تعويضات لذوي الشهداء. رابعاً، واشنطن بعثت برسائل عديدة تحمل كمّاً من الاغراءات التي قد تُهبِط على رؤوس الأتراك المنّ والسلوى السياسيَّين، في مقابل طيّ صفحة «مافي مرمرة» والقبول بتسوية ما. والعرض الأميركي، بحسب ما سرّب الاعلام عنه، سخي بالفعل، لكونه يتضمّن نقل ملف التسوية الفلسطينية ـــــ الإسرائيلية من مصر إلى تركيا، حتى جرى الحديث عن احتمال رعاية أميركية لتنظيم محادثات سلام فلسطينية ـــــ إسرائيلية في تركيا لتكون بمثابة «مسار إسطنبول» الذي قد يحمل أهمية ما كان يحمله «مسار أوسلو»، بما أنّ كل ذلك قد يحصل قبل استحقاق أيلول الذي تلعب فيه تركيا دور زعيمة معسكر الاعتراف بفلسطين في الجمعية العام للأمم المتحدة. خامساً، إعلان تل أبيب أن «لا أحد غير تركيا يمكنه إعادة (الجندي الأسير في غزة) جلعاد شاليط».
أمام هذه الصورة المعقّدة، ظهرت تحليلات عديدة في الاعلام التركي، رأت أن إعلان أردوغان نيته زيارة القطاع، هو ورقة تهديد وتحدٍّ لتل أبيب أكثر مما هو إشارة مغازلة للدولة العبرية. تهديد بمعنى أنّ أردوغان سيزور غزة خلال شهر رمضان الذي يبدأ مطلع آب المقبل، فقط إذا رفضت حكومة بنيامين نتنياهو تقديم اعتذار وتعويض في 27 تموز، لمحو آثار دماء الشهداء الأتراك التسعة التي سالت في المياه الاقليمية ذات فجر من مطلع حزيران 2010. معلومة عنونت بها صحيفة «حرييت» التركية صفحتها الأولى، أمس، على قاعدة أنه إذا اعتذرت إسرائيل، فسيعلن أردوغان تأجيل زيارته غزة التي لا ينوي الوصول إليها من معبر بيت حانون الإسرائيلي، بل من معبر رفح في مصر التي يبدأ زيارتها اليوم. وبحسب التفاصيل، فإنّ أردوغان ينوي اتخاذ خطوات تصعيدية ضد دولة الاحتلال إذا لم تعتذر، سيفتتحها بزيارة غزة «ليكسر الحصار بنفسه»، وتمهيداً لتصعيد مستقبلي أكثر حدّة. أما إذا وصل الاعتذار والتعويض إلى أنقرة قبل حلول شهر رمضان، فسيعلن ببساطة تأجيل زيارة القطاع المحاصَر والمجمع الاستشفائي الكبير الذي تبنيه تركيا هناك على مساحة 34 ألف متر مربع ليتسع لـ150 سريراً.
ويكفي الاطّلاع على الغضب الذي أثاره إعلان أردوغان رغبته في زيارة غزة في الصحف العبرية، لكي تكتسب المعلومة التي نشرتها «حرييت» بعض الصدقية، وخصوصاً أنّ الاستفزاز التركي «الناعم» متواصل، لكون مؤتمر سفراء فلسطين، بحضور رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، سينعقد في إسطنبول اليوم، تحت شعار: تنسيق الجهود بقيادة تركية لخوض معركة تصويت الجمعية العامة على قرار الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
هكذا، يعود قطاع غزة ليكون العنوان الذي سيحسم وجهة العلاقات التركية ـــــ الإسرائيلية ما بين المصالحة أو تعميق هوّة الطلاق. فإذا وصل أردوغان إلى غزة من معبر رفح المصري، فلن يسجّل زيارة أرفع مسؤول أجنبي لغزة منذ 2007 فحسب، بل أيضاً كسراً للبروتوكول الذي لطالما ثبّت قاعدة أن يزور المسؤولون الأتراك قطاع غزة من خلال معبر بيت حانون حصراً، وليس من البحر أو من معبر رفح المصري.
لكن في جميع الأحوال، شتّان ما بين تلويح أردوغان بزيارة غزة اليوم، وبين ما نقل عنه إثر جريمة أسطول الحرية العام الماضي عن أنه يفكر بالتوجه إلى القطاع على رأس أسطول تابع للقوات البحرية التركية!