«خطوة سيئة جداً ذات نتائج خطرة»، «خدمة كبيرة لكلّ المشككين»، «يوم أسود للأخلاق الطبية»، «عمل قذر ووقح». إنّها بعض ردات فعل العاملين في المجال الطبي، رداً على فضيحة استخدام وكالة الاستخبارات الأميركية برنامجاً وهمياً لتلقيح الأطفال في باكستان، للوصول إلى أسامة بن لادن وعائلته.إذ كشفت صحيفة «الغارديان» البريطانية منتصف الأسبوع الماضي عن إنشاء الـ «سي آي إيه» برنامجاً وهمياً للتلقيح ضد مرض التهاب الكبد، يديره طبيب باكستاني في مدينة أبوت آباد، أملاً في الوصول إلى أولاد بن لادن أو أحفاده، للتأكد من أنّه يقطن في المدينة. بدأ الأمر العام الماضي، فبعدما علمت الوكالة إثر تتبع احد رسل بن لادن أنّه قد يكون موجوداً في مجمع سكني في مدينة ابوت آباد الباكستانية، بحثت عن طريقة للتأكد من ذلك قبل اقتحام المكان. سرعان ما وضعت الخطة. فجرى التقرب من الطبيب الباكستاني، سخيل افريدي، وأُعطي الأموال اللازمة لبدء برنامج تلقيح ضد التهاب الكبد. الهدف كان الحصول على نماذج من الحمض النووي للأولاد داخل المجمع، ومقارنتها بالحمض النووي لشقيقة بن لادن، التي توفيت في بوسطن في 2010، للتأكد من أنّ زعيم القاعدة موجود في المجمع.
وصل افريدي، وهو مسؤول منطقة خيبر الطبي، إلى أبوت آباد في آذار الماضي، ونَشر بين الناس خبراً أنّه حصل على تمويل لإنشاء عيادة متنقلة لتلقيح الأطفال في منطقة نوا شير الفقيرة. حين عاد الطبيب في نيسان، عوض أن يعطي اللقاحات للأطفال أنفسهم (اللقاح لا ينفع الا اذا أُعطي ثلاث مرات متتالية) انتقلت العيادة الى منطقة مدينة بلال، حيث يوجد مجمع بن لادن. هناك استطاعت ممرضة تدعى مختار بيبي الدخول الى المجمع لتلقيح الأطفال فيه. ويقول بعض الذين رافقوا الطبيب في ذاك اليوم إنّه أعطى مختار حقيبة صغيرة وطلب منها حملها معها. ونقلت الغارديان أنّه ربما كان يوجد في الحقيبة جهاز إلكتروني للتنصت. بعد موت بن لادن، ليلة الأول من ايار الماضي، بدأت الاستخبارات الباكستانية التحقيق في الخرق الأميركي الكبير لسيادة اراضيها، وتوصلت إلى الطبيب افريدي. وهو رهن الاعتقال منذ اسابيع، ويبدو أنّه يتعاون مع سلطات بلاده. وحين نشرت «الغارديان» قصتها رفضت مصادر داخل الوكالة التعليق، لكن مسؤولاً في الإدارة الأميركية قال لصحيفة «واشنطن بوست» بعد ذلك بأيام، رافضاً الكشف عن اسمه، إنّه لا يجوز أن ينتقد الناس ما حصل، لأنّه استُخدمت لقاحات حقيقية، ولأنّه لو لم تقم الولايات المتحدة بذلك «لكان الناس انتقدوها لعدم استخدامها كل إبداعها للوصول الى الإرهابي الأول في العالم».
ورفض مسؤولون آخرون التعليق على فشل أو نجاح عملية جمع الحمض النووي من الأطفال، ويبدو أنّ واشنطن تسعى لدى الاستخبارات الباكستانية إلى الإفراج عن الطبيب، بما أنّه أدى خدمة لها، وكان الموضوع على جدول اعمال لقاء رئيس وكالة الاستخبارات الباكستانية احمد باشا ونظيره الأميركي مايكل موريل (مدير بالوكالة حالياً) الأسبوع الماضي.
لكن الموضوع لم ينته مع الكشف عن القصة، بل بدأ معها، وفق ما يؤكده اكثر من عامل في مجال الطب والعمل الإنساني حول العالم. فقصة كتلك قد تقوّض جهود المنظمات الطبية حول العالم، التي تحاول إقناع العديد من الناس بتلقيح أطفالهم ضد الأمراض التي تقضي عليهم بالملايين سنوياً، مثل البوليو والتهاب الكبد. ويعاني العاملون في تلك الحملات أصلاً قلة ثقة الناس بهم وخوفهم من «الأجنبي الذي يريد أن يقضي على أطفالنا عبر تلقيحهم بمرض يصيبهم بالعجز الجنسي»، كما تروي ناشطة عملت في أفريقيا لسنوات.
المنظمات الإنسانية الأميركية غاضبة جداً من حكومتها، فعملها في باكستان وأفغانستان تحديداً سيتراجع، وستضطر إلى العودة إلى طالبان للعمل مجدداً في هذين البلدين. ويذكر البعض منهم ما حصل في 2007، حين تعرض عمال الإغاثة للضرب، وتطلّب الأمر تدخل وجهاء طالبان في المناطق الريفية في افغانستان كي يقبل الناس تلقيح اولادهم. ورد ناشطون طبيون على تصريحات المسؤولين الأميركيين من أنّ الخدعة انطوت على استخدام لقاح حقيقي، بأنّه لا ينفع تلقيح الولد مرة واحدة، وخصوصاً في تلك المنطقة من العالم، ما يعني أنّ واشنطن ستسهم في موت العديد من الأطفال قبل وقتهم بسبب هذا الإهمال والخداع. كذلك انتقدت منظمة «أطباء بلا حدود» ما حصل، وعدّته «يسيء الى مهنة الطب».
وتتدهور العلاقات بين واشنطن واسلام آباد منذ مقتل بن لادن. فبعدما غضبت الأخيرة من انتهاك الأميركيين لسيادتها دون إخبارها بما ينوون فعله، طردت باكستان مدربين اميركيين لقواتها العسكرية. وردت واشنطن منذ عشرة ايام بإعلانها قطع 800 مليون دولار من المساعدات العسكرية لحليفتها في حربها على الإرهاب. وتبرر أميركا كل ذلك بأنّه رد على ما تفعله الاستخبارات الباكستانية. فهذه الأخيرة تصرف وقتها في بحث كيف استطاعت واشنطن التوصل الى بن لادن، عوض التحقيق في كيفية وصول بن لادن الى آبوت اباد وسكنه فيها لسنوات، في غفلة (أو بمعرفة ربما) من اسلام اباد وحكامها.