لم تكن الانتخابات التشريعية التركية، التي راقبها العالم بأسره أول من أمس، الأهم في تاريخ تركيا الحديثة فحسب، بل كانت الأكثر تشويقاً أيضاً. وجاءت نتائجها مفاجئة لتعكس أهمية الاستحقاق نظراً إلى الآمال الكبيرة التي كانت مبنية عليها، وخصوصاً من قبل حزب «العدالة والتنمية» ورئيسه رجب طيب أردوغان. فالأخير صوّر الاستحقاق قبل حصوله بأنه سيكون بوابة الولوج إلى «تركيا الجديدة» من نواحي الإعداد لدستور جديد يغير وجه تركيا على الصعيدين الداخلي والخارجي باتجاه دولة أكثر ديموقراطية ومدنية خالية من أزمات عضوية كالمسألة الكردية، اقتصادها يليق بطموحات ساستها، وذات وزن إقليمي على الأقل، لا يضاهيه ملالي إيران ولا صهيونيّو إسرائيل، ولا طبعاً مشايخ الخليج العربي.
وترجمت تركيا، في انتخاباتها التي لم يعكّرها حادث أمني كبير واحد، تطورها الكبير الذي ترجم أولاً بخروج نتائج تصويت نحو 44 مليون ناخب، في غضون نحو ساعتين، من دون تسجيل أخطاء أو تزوير كبير حتى الآن. من هنا يبدأ التطوّر. خرجت النتائج إلى العلن لتقول لأردوغان ولحزبه إنهما نجحا في الامتحان وبتفوّق غير مسبوق، فزادت الأصوات التي قالت نعم للوائح «العدالة والتنمية» 5 ملايين عن استحقاق 2007، ليصبح نصف الشعب بالتمام والكمال مؤيداً للحزب الحاكم. لكن النجاح الشعبي لحزب أردوغان شيء، وترجمة هذا التفوُّق في عدد النواب الفائزين شيء آخر تماماً. هكذا، زادت شعبية الحزب وانخفض عدد نوابه. هذا هو ثمن القانون النسبي. ثمن باهظ لا شكّ، بما أنّ الحكومة الحزبية الثالثة التي سيؤلفها أردوغان قريباً، ستكون عاجزة عن طرح دستورها الجديد على التصويت في البرلمان، لأنّ عدد نواب الحزب الحاكم متخلّف بـ 42 نائباً عن عتبة الثلثَين الضرورية لإقرار دستور جديد أو تعديل دستوري، حتى إن هذه الحكومة لن تتمكن من طرح مشروع دستورها الجديد على استفتاء شعبي لحاجة هذا الطرح إلى 330 نائباً مؤيداً على الأقل.
هنا ستكون رحلة البحث عن تأليف تحالفات مع الكتل البرلمانية المعارضة الثلاث (الشعب الجمهوري 135 نائباً والحركة القومية 53 نائباً والسلام والديموقراطية الكردي 36 نائباً) عملية أكثر من شاقة يُخشى أن يضطر الحزب الحاكم إلى أن يفرِّغ فيها مشروع دستوره الجديد من محتواه إذا اضطرّ الى الموافقة على شروط المعارضة.
أما لماذا انخفض عدد نواب «العدالة والتنمية»؟ فبات الجواب سهلاً. لأنّ تركيا دولة عصرية في بعض الجوانب، وبالتالي تعيد سلطاتها النظر بعدد سكان المحافظات لتعديل عدد النواب الذين يمثلون سكان كل من المحافظات الـ 81 نسبةً مع عدد سكانها، لأنه يحق للناخب التصويت في مكان إقامته وليس بالضرورة في مكان ولادته، بما أن 70 في المئة من الأتراك لا يعيشون في مسقط رأسهم. وبسبب الهجرة الدائمة من الشرق (الفقير نسبياً) إلى الغرب (الثري نسبياً)، انخفضت حصة نواب المحافظات الشرقية الأناضولية (الخزان البشري للعدالة والتنمية) التي خطف معظمها الحزب الحاكم. وفي المحافظات الكبيرة، رغم أن حزب أردوغان قوي جداً فيها، إلا أن طبيعة القانون النسبي تقوم على توزيع المقاعد الكثيرة على جميع الأحزاب تقريباً، لأن المدن الكبيرة هذه هي «تركية شاملة» يعيش فيها أتراك من كل المشارب والانتماءات والقوميات والمذاهب... على سبيل المثال، كانت إسطنبول وأنقرة بمثابة «تركيا مصغرة» حقيقية بحسب نتيجة الانتخابات، إذ حصد «العدالة والتنمية» في العاصمة 8 نواب في مقابل 6 للشعب الجمهوري واثنين للقوميين المتطرفين، بينما حصد نصف مقاعد إسطنبول التي توزعت بقية مقاعدها الـ 85 على الأحزاب الثلاثة المعارضة (بينها 3 لحزب الأكراد).
هكذا، بدت خريطة توزيع الأحزاب الفائزة على المحافظات التركية صفراء على نحو ساحق، وهو اللون الذي يشير الى حزب أردوغان، باستثناء سلسلة ساحلية حمراء (الشعب الجمهوري) في غرب البلاد، وأخرى بنيّة اللون (السلام والديموقراطية الكردي) في جنوب وجنوب شرق البلاد ذات الغالبية الكردية، وهو ما تُرجم بالأرقام بما أنّ الحزب الحاكم نال 5 ملايين صوت إضافي، أي أكثر بـ 3 في المئة من المرة الماضية.
يمكن القول إن القانون النسبي كان عادلاً وغير عادل في الوقت نفسه بالنسبة إلى «العدالة والتنمية». فهو عادل من ناحية أن هذ الحزب نال 50 في المئة، أي نصف أصوات المقترعين مع 326 نائباً، أي أكثر من نصف أعضاء البرلمان (النصف يساوي 275)، لكنه غير عادل بالنسبة إليه بما أنّه حقق في هذه الدورة ارتفاعاً في الشعبية من دون ارتفاع عدد نوابه، لا بل إنه خسر 15 نائباً كان يمثّلونه أيضاً في الدورة السابقة.
وقد تُرجم الانقسام السياسي الحاد في البلاد على نحو جليّ جداً، إذ لم يفز أي مستقل، بما أن النواب الأكراد المستقلين الـ 36 الذين فازوا هم مستقلون بالاسم فقط لأنهم مرشحو حزب «السلام والديموقراطية» الكردي فعلياً وعملياً، وهو دليل على أنّ الانتماء الحزبي يبقى أساس العمل السياسي في تركيا، وهي إشارة صحّية في معايير جميع الديموقراطيات الغربية.
سيبقى تاريخ 12 حزيران 2011 تاريخاً مهماً في التجارب الانتخابية الديموقراطية العالمية، لا لأنّ نسبة المشاركة وصلت إلى 87.3 في المئة في انتخابات يوم الأحد فحسب، بل لأنه، من المرات النادرة، حقّق الحزب الفائز بثلاث دورات متتالية، أرقاماً تصاعدية، لأن «العدالة والتنمية» فاز في المرة الأولى بنحو 34 في المئة من الأصوات عام 2002، وبنحو 47 في المئة في 2007، وبما يناهز الـ 50 في المئة في 2011.



مقبرة الأحزاب «الصغيرة»

شهدت انتخابات يوم الأحد الماضي في تركيا مجزرة سياسية حقيقية بحق الأحزاب الصغيرة التي بلغ عددها 12 من أصل 15 حزباً شاركت رسمياً في الاستحقاق، بما أنّ حزباً كبيراً آخر دخل المعركة بمرشحين مستقلين وفاز 36 منهم، وهو «السلام والديموقراطية» الكردي. و«المجزرة» الانتخابية تظهر جلية من خلال قراءة النسب المئوية التي نالتها هذه الأحزاب الصغيرة والتي لن تتمثل بأي نائب طبعاً لأن أياً منها لم يجتز عتبة العشرة في المئة: حزب «السعادة» (وهو الحزب الأخير لرمز الإسلام التركي نجم الدين أربكان) 1.25 في المئة. حزب «صوت الشعب» (وهو منشقّ عن «السعادة»): 0.76. حزب «الاتحاد العظيم» 0.74 في المئة. «الحزب الديموقراطي» (أحد أعرق الأحزاب الذي أسسه وقاده عدنان مندريس وسليمان ديميريل): 0.65 في المئة. حزب «الحقوق والعدالة» 0.28 في المئة. حزب «اليسار الديموقراطي» (الذي كان من أقوى الأحزاب التركية قبل عقد من الزمن فقط): 0.25 في المئة. حزب «الطريق القويم» (الذي كان من أقوى الأحزاب أيضاً وهو حزب تانسو تشيلر) 0.15 في المئة. الحزب الشيوعي التركي (أقدم أحزاب تركيا) 0.14 في المئة. حزب «الأمة» 0.14 في المئة. حزب الأمة المحافظ 0.09 في المئة. حزب العمال (هو حزب يساري فاز رئيسه كمستقل وسيكون عضواً في كتلة الحزب الكردي «السلام والديموقراطية») 0.07 في المئة. الحزب الليبرالي الديموقراطي 0.04 في المئة.



«دكتوراه» كرديّة في علوم الانتخابات



أقلّ ما يمكن قوله بحق حزب الأكراد «السلام والديموقراطية»، هو أنه قدّم درساً احترافياً في طريقة خوض الانتخابات، إذ إنّ الحزب رشّح بصفة مستقلة 37 مرشحاً، منعت المحكمة قبل نحو أسبوع أحدهم من مواصلة ترشيحه لأسباب قضائية تتعلق بعلاقاته بحزب العمال الكردستاني «الإرهابي»، فبقي له 36 مرشّحاً فازوا جميعهم، وهو ما يعني أنّ الحزب المذكور فاز بمعركته بنسبة 100 في المئة. وأظهرت القيادة الكردية حنكة سياسية كبيرة، فلم ترشح إلا حيث كانت متأكدة من فوزها، وأدركت حجمها جيداً، وحجم خصومها أيضاً، وخصوصاً وزن حزب العدالة والتنمية الذي كان يتمثل بـ 75 نائباً كردياً في البرلمان المنتهية ولايته. من هنا، فاز «السلام والديموقراطية» بـ 25 نائباً في المناطق ذات الغالبية الكردية، وترك المنافسة على بقية المقاعد للأحزاب الأخرى، ليحلّ الحزب الحاكم ثانياً بعده. ومن خلف «السلام والديموقراطية»، كان سلوك «العمال الكردستاني» سياسياً بامتياز، إذ، للمرة الأولى ربما منذ زمن طويل، لم ينفّذ أي عملية عسكرية واحدة حتى في يوم الانتخابات لعدم الإفساح بالمجال أمام أي مسعى لتوقيف الانتخابات بما أنه كان مدركاً لا شكّ أن الأمور تجري لمصلحته، أو لمصلحة حليفه السياسي.
وبالأرقام، ظهر أنّ حزب «العدالة والتنمية» كان الفائز الأول في 66 محافظة تركية من أصل 81، في مقابل تصدُّر حزب «الشعب الجمهوري» في 7 محافظات، وحزب السلام والديموقراطية الكردي أول في 7 محافظات أيضاً، بينما لم يستطع الحزب اليميني المتطرف «الحركة القومية» أن يكون أول إلا في محافظة وحيدة هي إغدير، التي لا يمثلها سوى نائبين. وبين المحافظات السبع التي تصدّرها «الشعب الجمهوري»، واحدة فقط أناضولية هي تونجلي التي تضمّ أكبر كتلة علوية ناخبة في البلاد، مع تثبيت أوضاعه في محافظاته الذهبية في غرب تركيا. وظلت أزمير معقلاً للجمهوريين مع 43 في المئة في مقابل 37 في المئة من الأصوات لـ«العدالة والتنمية»، وبذلك تقاسما 6 نواب عنها لكل منهما، ونائب واحد للحركة القومية، وهي نتيجة أكثر من ممتازة للحزب الحاكم الذي خلخل حصن الجمهوريين.
ومن مجموع المحافظات الغربية الست التي حل فيها «الشعب الجمهوري» أول، تمكّن «العدالة والتنمية» من حصد 13 نائباً، هذا عدا عن المحافظات الغربية الأخرى التي حل فيها حزب أردوغان أول، من بينها إسطنبول وبورصة وشاناكالي وباليكشير وكوشلي وغيرها. بذلك، لم يعد جائزاً القول إنّ حزب أردوغان ضعيف في غرب البلاد، أو في شرقها أو شمالها أو وسطها أو في منطقة البحر الأسود التي كان فوزه فيها ساحقاً.