يخوض الحزب الشيوعي التركي انتخابات يوم غد بصفته أحد الأحزاب الشرعية الـ15 التي تقدمت بمرشحين، وكله أمل بتحسين النتيجة التي حققها في انتخابات 2007 حين لم يحصد سوى... نصف في المئة من الأصوات، أي نحو 80 ألفاً و100 صوت. نعم، حزب ناظم حكمت، الذي ظلّ لعقود أقوى الأحزاب التركية شعبياً وتنظيمياً، وهو عميد الأحزاب التركية بما أنه تأسس عام 1920، واستهدفته جميع الانقلابات العسكرية التي ضربت البلاد منذ 1960، يجاهد لنيل نصف مليون صوت في هذه الدورة التي ينتظر أن يصوت فيها أكثر من 80 في المئة من الناخبين البالغ عددهم 50,189,930 ناخباً. إذاً، شعار الحزب في هذه الانتخابات هو «مطلوب 500 ألف لا يسجدون للنظام القديم»، ليصوّتوا لمرشحيه الـ550 (من بينهم 220 امرأة). ورغم أنّ هدف الحزب كبير جداً (500 ألف صوات)، فإنه لن يتمكّن طبعاً من اجتياز عتبة العشرة في المئة، وبالتالي لن يدخل البرلمان بأي حال من الأحوال.ويعاني الحزب إهمالاً كبيراً على صعيد التغطية الانتخابية في وسائل الاعلام المقسمة بين امبراطورية دوغان العلمانية المعارضة، وصحف الاسلاميين والموالين للحكومة. لكن، بما أنه يدخل الانتخابات حزباً شرعياً، فإنه تمتّع بحق الاستفادة من الظهور على شاشة التلفزيون الحكومي TRT، يوم الأحد الماضي، ليختار شاباً متحدثاً باسمه يبلغ 19 عاماً لفت أنظار الأتراك كافة بانتقاده الشرس والذكي لنظام التعليم في تركيا. والحزب المذكور تعرّض للحظر باكراً أيام مصطفى كمال (أتاتورك) الذي كان يرى فيه «أكبر خطر يتهدد تركيا وتجب محاربته بأي طريقة وبكل زمان». كذلك فإنّ عدداً كبيراً من زعمائه تعرضوا للتصفيات الجسدية، أبرزهم مصطفى صبحي الذي يعتقد الشيوعيون أن مصطفى كمال شخصياً أمر بقتله، ومن السجن والتعذيب تحت إشراف عصابات «إرغينيكون» ومباركة حلف شمالي الأطلسي والادارات الأميركية في زمن الحرب الباردة، بما أنّ تركيا كانت إحدى الدول التي إن سقطت بيد الشيوعيين، فإن الحرب الباردة كلها كانت ستحسم ربما لصالح المعسكر الاشتراكي. لكن الحزب استمر وقاوم حتى وصلت به الأمور إلى الكارثة مع انقلاب عام 1980. ومنذ ذلك التاريخ، اشتدّ الصراع الداخلي الحادّ في الحزب ليصبح أكبر من حجم صراعه للوصول إلى السلطة، حتى وصل الأمر بجزء من القيادة إلى تغيير اسم الحزب الذي بات «الحزب الشيوعي التركي» منذ 2001 (بعدما كان حزب القوة الاشتراكية)، فما كان من القيادة القديمة، التي يتألف أعضاؤها إما من مساجين سابقين أو منفيين خارج البلاد، وفي مقدمتهم الأمين العام للحزب، نابي يازجي، إلى الانشقاق، ورأت أنّ الحزب الجديد بات «كمالياً أكثر من الكماليين، وقومياً أكثر من القوميين»، وهو رأي رون مارغولياس، الناشط الشيوعي التركي، الذي يقود أحد التنظيمات الشيوعية خارج إطار الحزب الشيوعي التركي، وهو «حركة العمّال الثوريين الاشتراكيين»، في حديث مع «الأخبار». أما ردّ التهمة بالنسبة إلى القيادة الجديدة للحزب، فهو أنّ القيادة السابقة باتت تعتنق الليبرالية. اليوم، يخوض الحزب الانتخابات ببرنامج انتخابي طموح، علماً أن نظامه الداخلي لا يزال يتحدث عن هدف تحقيق الثورة الاشتراكية في تركيا بقيادة الطبقة العاملة. ويرى الحزب في مشروعه الانتخابي، أنّ المواطنين الأتراك مصنفون بحسب دينهم وقوميتهم، وهو ما يجب أن يتغير. غير أنّ المعارضين الشيوعيين، يتقدمهم الأمين العام السابق للحزب، إلكنور بيرول، يرون أنّ الحزب «لا يقيم وزناً لأهمية الهويات القومية المختلفة، وهو بذلك يقترب ايديولوجياً من الفكر الكمالي». ويقول أستاذ علم الاجتماع في جامعة إسطنبول أيهان أكتار، لـ«الأخبار»، إنّ الحزب الشيوعي التركي يواجه المشاكل نفسها التي تعانيها كل التنظيمات اليسارية الاشتراكية بسبب أزمة الفكر الماركسي، مشيراً إلى أن الحزب الشيوعي التركي يعرف مشاكل إضافية لأنّه «غير قادر على بلورة الأدوات الفكرية لفهم مرحلة ما بعد الحرب الباردة ومسألة هويات الشعوب وقومياتها». فعلى سبيل المثال، يرى أكتار أنّ أبرز مثال عن هذه الأزمة هو أن الحزب المذكور «ينظر إلى قضية العضوية التركية في الاتحاد الأوروبي على أنها استسلام للامبريالية»، على قاعدة أن «السلطة في الجمهورية يجب أن تبقى محصورة بالطبقة العاملة» على حد البرنامج الانتخابي للحزب. من هنا، يرى الحزب أن الانجازات الديموقراطية التي حصلت بفضل ترشيح تركيا للاتحاد الأوروبي «ليست إلا تجميلاً لبشاعة النظام الرأسمالي». والحزب الشيوعي معارِض شرس لحكم حزب «العدالة والتنمية»، وهو خاض تظاهرات وأطلق مواقف عديدة ضد مشاركة رجب طيب أردوغان في مؤتمر دافوس «الامبريالي» عندما قاطع أردوغان الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز بقوة على خلفية عدوان «الرصاص المصهور». ويشرح المانيفستو الانتخابي لـ«الشيوعي التركي» الأزمة في العلاقات التركية ـــــ الإسرائيلية بواقع ان الادارة الأميركية تستعمل أردوغان لمواجهة إسرائيل، بما أن واشنطن عاجزة عن خوض خلاف مباشر مع تل أبيب. كذلك الحال بالنسبة إلى فهم الحزب للقضية الكردية التي تُربَط عنده بالامبريالية على قاعدة أن الحزب الشيوعي «لا ينفي وجود قومية كردية لكنه يرى أن هذه القومية باتت أداة بيد الامبريالية العالمية». وفي السياق، يقول الحزب إنه يحترم كل الأديان، مع تشديده على أنّه يسعى إلى تحقيق العدالة في «هذه الحياة»، ويرفض تأجيل تحقيقها إلى «الحياة الأخرى». وهنا، يستنكر عدد كبير من الشيوعيين الأتراك، أبرزهم رون مارغولياس، كيف أنّ الحزب الشيوعي التركي يرفض مشاركة المحجبات في تظاهراته مثلاً.


الدماء منذ التأسيس

تاريخ الحزب الشيوعي التركي مليء بالدماء، منذ أوائل أيام التأسيس حتى قبل سنوات من اليوم. بدأت القصة في كانون الثاني 1921، بعد أشهر من تأسيس مصطفى صبحي الحزب من الاتحاد السوفياتي، فعاد و14 من المؤسسين إلى البلاد حيث قُتلوا في مدينة ترازبون بأمر من مصطفى كمال بحسب اعتقاد جزء كبير من الشيوعيين. وكانت حال شيوعيي تركيا شبيهة بشيوعيي الدول العربية؛ فلم تؤثر حملات التنكيل بحق شيوعيي تركيا على العلاقات الحارة بين الاتحاد السوفياتي وجمهورية أتاتورك الوليدة حديثاً، تماماً مثلما لم تعكر جرائم بعض الأنظمة العربية بحق شيوعييها، تحالفها مع موسكو. ومنذ عشرينيات القرن الماضي، عرفت تركيا عدداً كبيراً جداً من الأحزاب والتنظيمات الشيوعية التركية، السرية والعلنية منها، السلمية والمسلحة، وصل عددها إلى العشرات اليوم، بين ماوية وماركسية ولينينية وتروتسكية... وهناك عدد من التنظيمات السرية التي لا تزال تعتمد حتى اليوم أسلوب الكفاح المسلح، كالحزب الشيوعي الماوي، هذا من دون التحدث عن الأحزاب والتنظيمات الشيوعية واليسارية المتطرف الكردية التي تنضوي تحت لواء الحركة القومية الكردية أم لا. وبين الحين والآخر، تنفذ مجموعات من الشيوعيين المتطرفين، أبرزهم «القيادة الثورية»، عمليات عسكرية يذهب ضحيتها قتلى وجرحى.