ليس سرّاً أنّ الخيارات الكبرى في ما يتعلق بالسياسة الخارجية لأي دولة تقع في ذيل هموم الناخب، القلق أولاً على أولويات الاقتصاد وتحسين الأوضاع المعيشية والأمن والاستقرار. فَهِم حكّام «تركيا الجديدة» هذا القانون الذهبي وعملوا بموجبه في الدبلوماسية، ونجحوا حتى الآن، بما أنّ النتائج الاقتصادية لحكمهم سمحت لهم بالتغريد بعيداً عن مخاوف ناخبيهم ومواطنيهم. تُرجم فهم حزب «العدالة والتنمية» الحاكم لمحدودية أهمية السياسة الخارجية بالنسبة إلى مواطنيه في واقع أنه لم يخصص سوى 9 صفحات للشق المتعلق بهذه السياسة الخارجية من أصل 156 صفحة في المشروع الانتخابي للحزب، تحت شعار «تركيا مستعدة ـــــ الهدف 2023»، في إشارة إلى أن تاريخ ذكرى المئوية الأولى لتأسيس الجمهورية سيتزامن مع إنجاز كافة المشاريع العملاقة على جميع المستويات الاقتصادية والإنمائية والسياسية... والامبراطورية.
وينحصر همّ حزب رجب طيب أردوغان من انتخابات يوم الأحد المقبل، في ما يتصل بالسياسة الخارجية، في نيل تفويض شعبه لمواصلة سلوك الطريق الدبلوماسي المتَّبع منذ عام 2003. وعن هذا الموضوع، كان لافتاً ترشيح مهندس السياسة الخارجية التركية الحالية، أحمد داوود أوغلو، للانتخابات التشريعية عن محافظة قونيا، وهو الذي ظلّ الوزير الوحيد غير النائب في حكومة أردوغان منذ الأول من أيار 2009، تاريخ تسلّمه وزارة الخارجية خلفاً لعلي باباجان. وما ترشيح داوود أوغلو، غير المنتسب رسمياً إلى الحزب الحاكم، إلا علامة على نجاح الرجل في مجال عمله، ورغبة من أردوغان في الاستفادة من القدرات التفاوضية والتواصلية لداوود أوغلو في الشأن الداخلي الحسّاس.
وبما أن الفوز الانتخابي محسوم للحزب الحاكم في 12 حزيران، فإنّ ما هو شبه محسوم أيضاً أن تستمر الدبلوماسية التركية على الخطى نفسها التي سارت عليها منذ سنوات. وهنا، لا يهم كثيراً التمييز بين توقعات نيل «العدالة والتنمية» غالبية عادية في البرلمان (النصف زائداً واحداً)، أو غالبية الثلثين (367 مقعداً)، بما أنّ الحكومة المقبلة ستتألف من حزب واحد هو «العدالة والتنمية» للمرة الثالثة على التوالي، ولأنّه لا الدستور ولا القوانين التركية تعطي المعارضة حق نزع الثقة عن الحكومة على خلفية خياراتها السياسية الخارجية، إلا في المواضيع «الكبيرة» طبعاً، كقرار شنّ الحروب أو المشاركة فيها، أو في عنوان شديد الأهمية كالعضوية التركية في الاتحاد الأوروبي مثلاً أو تطبيع العلاقات مع أرمينيا...
من المحسوم ألا يتغيّر شيء في قضية «العودة التركية» إلى العالم العربي، بما أن هذه «العودة» لم تكن عرضية ولا تفصيلاً ولا نتيجة لتغيرات مرحلية، بل كانت أساساً نظرياً إيديولوجياً تحوّل إلى سلوك عملي. وهنا يتوقع أن تزداد «الهجومية» التركية في العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط عموماً، أكان في العراق بشقّيه العربي والكردي (حيث تركيا هي الشريك التجاري الأول للإقليم الشمالي) أم في العلاقة الملتبسة مع سوريا، إذ ستحدد التطورات المقبلة على الساحة السورية مصير العلاقات الثنائية المرتبكة، التي أثارت أقلاماً كثيرة ومواقف أكثر. لكن يبقى الأساس بالنسبة إلى حكام أنقرة هو تعزيز الصورة الإيجابية لتركيا في وجدان الشعوب العربية، ومحو الصورة العثمانية السوداء من عقولهم. وما سيتغيّر في السياسة الخارجية التركية إزاء العالم العربي لا يرتبط بالناخب التركي بقدر ارتباطه بالزمن العربي الجديد الذي نعيش أول فصوله. أما في ما يتصل بالعلاقات التركية ـــــ الإسرائيلية، فيرى عدد من الخبراء أنّ الأزمات الكثيرة على خطّ أنقرة ـــــ تل أبيب، ليست سوى نتيجة طبيعية للحرارة على خطّ العلاقة مع بلاد الشام والعرب عموماً، إذ إنّ العقل التركي الحاكم استوعب أنّ المصلحة التركية القومية العليا تفرض على أنقرة إبقاء العلاقات مع دولة الاحتلال، لكن في حدود وبلا حرارة كبيرة إلا في «المناسبات»، أي عندما يكون لاستضافة تركيا مؤتمراً لمحادثات سلام فلسطينية ـــــ إسرائيلية أو سورية ـــــ إسرائيلية مثلاً، أمر يأتي عليها بمنافع كبيرة. خلاصة بات في الإمكان الخروج بها بعدما أبطلت تركيا مفعول نظرية أنّ الزواج بإسرائيل لا بد منه بما أن الدولة العبرية هي المصدر الحصري للسلاح التركي. في المحصّلة، لا ينتظر أن يطرأ على العلاقات التركية ـــــ الإسرائيلية جديد دراماتيكي بعد انتخابات 12 حزيران إلا في حدود التطورات الإقليمية العامة، إلا إذا «أقدمت إسرائيل على حماقة جديدة لن تُحمَد عقباها»، على حدّ تعبير المسؤولين الأتراك، إذا ارتكبت السلطات العبرية جريمة جديدة بعد أيام بحق «أسطول الحرية ـــــ 2» المحسوب على تركيا، والذي سيبحر إلى شواطئ غزة قريباً.
تبقى أولوية التحالف مع الولايات المتحدة رغم الغرام التركي ـــــ الروسي المتبادل الذي يجعل من روسيا الشريك التجاري الأول لتركيا مع نحو 36 مليار دولار سنوياً. الحلف العام مع واشنطن يبقى عنواناً يتخطّى الانتخابات المقبلة وانتقال السلطة من حزب تركي إلى آخر، بما أنه مبدأ عام تندرج تحته جميع العناوين الأخرى التي تصبّ في خانة موقع تركيا ووزنها، إقليمياً ودولياً، أكان عند الحديث عن دور تركيا في حلف شمالي الأطلسي أم عن العضوية التركية المأمولة في الاتحاد الأوروبي. من هنا، يصعب توقُّع حصول تحوّل «إرادي» يقدم عليه الأتراك في هذه العلاقة، ما لم «يتجرّأ» الأميركيون على المسّ بـ«الشعور القومي التركي»، أي ما لم يتجرّأوا على الاعتراف بالإبادة الأرمنية في الكونغرس.
quote: «العودة» إلى العالم العربي ثابتة والبرودة مع إسرائيل مرشحة للاستمرار وأولوية التحالف مع واشنطن مقدسة
(غداً: الحزب الشيوعي التركي:
حكاية النصف في المئة)



وزارة جديدة للاتحاد الأوروبي

قد تكون الحملات والبرامج الانتخابية لاستحقاق 12 حزيران المقبل، الأقل اهتماماً بملف لطالما احتلّ صدارة الكلام في تركيا: العضوية في الاتحاد الأوروبي. مانيفستو «العدالة والتنمية» للانتخابات مرّ مرور الكرام على الموضوع، مكتفياً بالإشارة، على سبيل التذكير، إلى أن الانتساب إلى الاتحاد «لا يزال هدفاً تركياً استراتيجياً رئيسياً». موقف زُجَّ به لضرورات «مبدئية»، هدفها مجرد الردّ على من يقولون إنّ تركيا غيّرت وجهتها السياسية من الغرب إلى الشرق. واقتصار ذِكْر الاتحاد الأوروبي على هذا النحو الرمزي يعود إلى أسباب عديدة، أولاً لأنّ أردوغان وفريق عمله يدركون خير إدراك أنّ الناخب التركي لم يعد يثق بالأوروبيين نتيجة المماطلة والصدّ في المفاوضات التي انطلقت منذ 2005. ثانياً لأنّ أردوغان يعرف أيضاً أنّ كسب الودّ الأوروبي يحصل بالسياسة والاقتصاد والمصالح و«بالشراء والبيع»، لا بالوعود الانتخابية، وبالتالي من الأجدى التركيز على الشعارات الجذّابة في المانيفستو الانتخابي. كلام لا يعني أبداً أن أردوغان لا يعير ملف العضوية اهتماماً كبيراً، بدليل كشفه، قبل يومين، عن إعادة هيكلة الحكومة المقبلة، مع استحداث 6 وزارات جديدة وإلغاء أخرى. ومن بين الوزارات المستحدثة حقيبة الاتحاد الأوروبي، لتحلّ مكان مديرية شؤون الاتحاد الأوروبي التي كانت تابعة لرئاسة الوزراء مباشرة.

62% من الأتراك متماهون مع دبلوماسيّة بلادهم... بانتظار أرمينيا



62 في المئة من الأتراك واثقون بأنّ حزب رجب طيب أردوغان «سيفعل ما يجب فعله في السياسة الخارجية»، بحسب استطلاع للرأي نشرت نتائجه يوم الثلاثاء الماضي، وأجرته مؤسسة إحصاءات عالمية هي global attitudes project. النتيجة مطمئنة بلا شك بالنسبة إلى الحكومة وإلى حزبها ورئيسها، بما أنّها تكشف أنّ هناك فئة لا يُستهان بها من المعارضين، أي من خارج دائرة ناخبي ومناصري «العدالة والتنمية»، يؤيّدون سلوك الحكومة في السياسة الخارجية. أكثر من ذلك، فإنّ أردوغان نال صفة القائد الجدير بالثقة بالنسبة إلى المصريين والأردنيين واللبنانيين والفلسطينيين، بعكس الإسرائيليين والإسبان والألمان والفرنسيين. نتيجة تعكس التحوّل في السياسة الخارجية التركية، بغض النظر عن رغبة حكام أنقرة في الاعتراف بحصوله أو لا. وفي الاستطلاع نفسه، يظهر كم أنّ السياسة الخارجية التركية المتَّبعة في عهد «العدالة والتنمية» تتلاءم مع رغبات وتطلعات الشعب التركي، إذ رأى 17 في المئة من الأتراك المستطلعة آراؤهم أن على دولتهم إبقاء وجهتها الأوروبية، في مقابل 25 في المئة يصرون على التوجه نحو الشرق الأوسط خصوصاً، بينما 37 في المئة أجابوا بأنّ الاتحاد الأوروبي والشرق الأوسط يتساويان من حيث الأهمية بالنسبة إلى تركيا. ولو كان أردوغان وداوود أوغلو في العيّنة الإحصائية، لكانا على الأرجح قد أجابا مثلما ردّ الـ 37 في المئة من المستطلعة آراؤهم.
والرضى التركي الكبير إزاء السلوك الحكومي في السياسة الخارجية يُنتظَر أن يزداد في حال حصول «المعجزة»، أو المصالحة التركية ـــــ الأرمنية الحقيقية. مصالحة بدأت تباشيرها في العامين الماضيين في ما عُرف بـ «دبلوماسية كرة القدم»، حين تبادل الرئيسان عبد الله غول وسيرج سركيسيان الزيارات في أنقرة ويرفان، لتنتقل المفاوضات الجدية والسرية إلى مدينة زيوريخ السويسرية، ليصدر عنها في النهاية بروتوكول مفاجئ وسارّ في 2009 تضمّن خريطة طريق للسلام التركي ـــــ الأرمني لم يعش أكثر من أيام. فالعقدة المركزية بين الجارين تبقى إقليم ناغورنو كرباخ المحتل من الأرمن بحسب الروايتين الأذرية والتركية، وطالما لم تُحل أزمته، فلن يحل السلام والمصالحة بين الأتراك والأرمن، لكن أبعد من ناغورنو كرباخ، هناك مشكلتان تعيقان التوصل إلى سلام ناجز: رفض دياسبورا الأرمن محو ذكريات الدماء مع الأتراك، من جهة، ورفض شوفينيّو تركيا الاعتراف بأنّ أجدادهم وأجداد أجدادهم ارتكبوا إبادة بحق الأرمن في 1915، لا خوفاً من دفع التعويضات اللازمة، بل خشيةً على الشعور القومي التركي وأمجاد حراس الآستانة.