كانت الفقرة في متن خبر «نيويورك تايمز» الرئيسي في عدد أمس: «وكان الاسم المشفر لبن لادن: جيرانيمو. وشاهد الرئيس ومستشاروه، مدير وكالة الاستخبارات المركزية ليون بانيتا، عبر شاشة فيديو، من مقر الوكالة يسرد ما كان يحدث في تلك الباكستان البعيدة. وقال (بانيتا): لقد وصلوا إلى الهدف. مرت دقائق. ثم قال: نستطيع رؤية جيرانيمو. وبعد دقائق (قال): جيرانيمو إكيا. وهي عبارة تعني: العدو قتل في العملية. ساد صمت في غرفة العمليات. وأخيراً، تحدث الرئيس. قال: نلنا منه». كانت تلك وقائع قصة الكوماندوس الأميركي الذي نفذ عملية اغتيال بن لادن. لكن، جيرانيمو؟ للاسم وقع جيد في ذاكرتي، لكني لا أتذكر من هو. نوع من بطل تاريخي في فيلم ما؟ لجأت الى ويكيبيديا، وإذا بالاسم يخرج: «جيرانيمو: هو غوايا ليه، عبارة تعني بلغة الهنود الحمر «المتثائب». ولد في 16 حزيران 1829 ومات في 17 شباط 1909. كان قائداً بارزاً من السكان الأصليين لأميركا، من قبيلة شيراكاهوا، وهي من قبائل الأباتشي. حارب لفترة طويلة المستوطنين البيض من أصول أوروبية والجيش المكسيكي الذين كانوا يتوغلون للاستيلاء على أراضي القبائل الهندية». يتابع النص الشرح بعبارات تنضح بالإعجاب: «كان فذاً في حرب العصابات. كان استراتيجيّاً وتكتيكيّاً من نوع غير عادي، وخصوصاً لمعرفته الدقيقة بجغرافيا بلاده (طبيعي بما أنها بلاده)». ويشرح النص الفرنسي (سطران فقط بالعربية) أن هذا «الشامان»، أي معادل للحكيم والطبيب والمحارب في الوقت عينه، ولد في ما يسمى حالياً «نيو مكسيكو». وقبل وصول المستوطنين البيض، رأى «الرجل الأبيض» في الحلم يقتل زوجته وأولاده الثلاثة، وهذا ما حصل. أقسم على الانتقام. انضم جيرونيمو، الذي اكتسب لقبه من صيحات الجنود المستنجدين بالقديس جيروم حين كان يطاردهم، إلى مجلس الحرب «تشيريكاهواس أباتشي» في 1846. وبعد حياة حافلة بالنضال ضد المستوطنين البيض، أوصى بأن يدفن بالقرب من نهر جيلا. إلا أنه بعد موته عام 1909، وتحديداً في عام 1918، سرقت مجموعة سرية من جامعة ييل جمجمته وبعض عظامه من مقبرة معسكر فورت سيل، ووضعتها، حيث لا تزال موجودة اليوم، في مباني كلية في نيو هافن. أما الخبر الأهم، فهو أن أحد أعضاء هذه المجموعة لم يكن إلا بريسكوت بوش، جد الرئيس الأميركي السابق.
واو. كنت أريد التحدث عن نية قتل بن لادن، لا محاكمته كما حرص المسؤولون الأميركيون على التوضيح بعد «هفوة» أولى أوردتها «رويترز» عن أن النية كانت القتل لا القبض عليه. كنت أريد التحدث عن «شوبينغ» ديموقراطيات العالم الحر في سوبرماركت القيم، تختار أي قيمة وتطوعها وفق أغراضها. عن مشاعر الثأر والشماتة البدائية التي تذكر بعرف العشائر، حين تهز الدول التي تتباهى بمؤسساتها، بقانونها، وشرائعها. لكن جيرانيمو قلب كل الموازين. صحيح أن بن لادن كان رجلاً شديد العنف. صحيح أنه استخف بقتل أبرياء. لكن صحيح أيضاً أنه كان صنيعة الأميركيين. انقلب عليهم في ما بعد؟ رواية أخرى. لكنه أصبح، بمجرد استعدائه أميركا «ثائراً» من نوع خاص. بالنسبة إلى الكثيرين، إن بن لادن مواطن في دولة محتلة. نعم، السعودية محتلة. كما دول العالم العربي عبر تحالف غربي مع بعض السلالات المحلية. الشعوب العربية فهمت ذلك. الثورات العربية هي ضد الاحتلال الأميركي لإرادة العالم العربي. كان على أميركا أن تُلكم على وجهها. وبن لادن، فعلها. لذلك ربما سماه جورج بوش، لا أوباما، جيرانيمو.
لسنا هنا بصدد محاكمة بن لادن، بل أميركا. الوجه الذي أراده أوباما جامداً وهو يعلن النبأ الذي يصلح وحده للعبور به إلى فترة رئاسية ثانية، كان يخفي تحته انفعالاً عظيماً. عرف أوباما أنه يتكلم في تلك اللحظة مع الشارع. بكل شوارعيته. يدغدغ غرائز الانتقام والثأر. وجهه وهو يعلن النبأ، كان أشبه بمن يكتم صيحة حربية بدائية. كان جمود وجهه، لشدة ضبطه لا يوحي للمفارقة، إلا بعكسه. كان أشبه بهندي أحمر سلخ للتو فروة رأس غريمه، وها هو يعدو بها في السهول مطلقاً صيحة الانتصار. الوجه جامد. أما الصيحة التي لم يطلقها الرئيس الأميركي، فقد انطلقت في الشوارع أمام البيت الأبيض.
لكن، أهكذا تنتهي قصة جيرانيمو؟ يعرضه الرجال البيض، كرمز لانتصارهم على أصحاب الأرض الأصليين وتدجينهم وإبادتهم؟ تقول الموسوعة ذاتها الآتي: «في الذكرى المئوية لاختفائه عام 2009، أقام حفيد جيرونيمو دعوى على الحكومة الأميركية لجمع بقايا جده، وإعادة رفاته إلى مسقط رأسه في نيو مكسيكو». ربما ليست هذه إلا بداية. ربما لذلك دفن أسامة في البحر. ومع ذلك، إن جيرانيمو الحقيقي، العابر للقضايا المحقة، لا يموت.