يرى الباحث والمحلل الباكستاني أسكري ريزفي أن «الجيش الباكستاني منقسم إلى مجموعتين: الجنرالات الأصوليون وغيرهم. هذه القطيعة أسهم الرئيس السابق برويز مشرف في تغذيتها بسبب إدخال مسوح ليبرالية، مقبولة في الغرب، على الجيش». وفي موازاة ذلك ترعرعت العلاقة بين المؤسسة العسكرية الباكستانية وحركة طالبان وتنظيم القاعدة. وإذا لم يكن ثمة دليل على مساعدة الاستخبارات الباكستانية لحكومة طالبان والقاعدة بعد نهاية حكم طالبان في تشرين الثاني 2001، فإنه لا يمكن استبعاد إمكان أن أشخاصاً ينتمون إلى الجيش أو الاستخبارات الباكستانية عبّروا عن تعاطفهم مع «طالبان» أو مع «القاعدة» بصفة فردية. وعلى كل حال، فإن مشرف كان يعرف أنه سيكون من الصعوبة على بلاده أن تكافح ضد طالبان والقاعدة، لأن قسماً من جيشه ومن استخباراته «تأسلم» خلال حكم الرئيس الراحل ضياء الحق. الوضع معقّد في باكستان، ولكن الأمر لا يمنع من الاعتراف بأن مشرف قام بالشيء الكثير في مسار الإصلاحات داخل المؤسسة العسكرية. فقد تخلص من كثير من العناصر «غير المرغوب فيها»، وهي تفوق الثلثين من الجنرالات الذين كانوا يقتربون من سن التقاعد ومن مساعدي الرئيس الراحل ضياء الحق. لقد « جرى غسل الجيش، ولكن الأمر لم يغيّر شيئاً»، على حدّ تعبير الخبيرة الفرنسية بولين غارود، حيث حافظ هؤلاء العسكريون على علاقاتهم الوثيقة مع الأوساط الإسلامية، ورست المعادلة على أن مشرف اضطر إلى لعب لعبة مزدوجة: بصفة رسمية يحارب الإرهاب، وبصفة غير رسمية يصارع قسماً من جيشه يعارض سياساته الحليفة للأميركيين. أما الأميركيون فظلّوا ينظرون بعين الريبة إلى الاستخبارات الباكستانية، ويرون فيها حليفاً لطالبان. ويؤكد خبراء في الشأن الباكستاني أن قسماً كبيراً من العلاقات الوثيقة بين جزء من الاستخبارات الباكستانية والأوساط الإسلاموية لا يزال طيّ الكتمان، أو أن من الصعب معرفته، وقد يظهر بعد فترة طويلة. والدليل أنه بعد تفجير المسجد الأحمر سنة 2007، الذي كان غير بعيد عن مركز الاستخبارات الباكستانية، عُثر بين الأنقاض على مركز اتصال سرّّي، وكان السؤال المطروح هو كيف حدث أن قام الطلبة بنقل كل هذه الترسانة الضخمة تحت أعين الاستخبارات الباكستانية، لو أن هذه الأخيرة لم تكن متواطئة؟
لكن ما يخيف في الأمر هو أن طالبان، حتى وإن كانت صنيعة من صنائع الاستخبارات الباكستانية، فقد تبيّن خلال الأعوام الأخيرة أنها شبّت عن الطوق وخرجت من القمقم. والخوف كبير إلى درجة أن الأميركيين ظل يخيفهم الأمر، وهو ما دفع صحيفة «نيويورك تايمز» إلى أن تنشر تحقيقاً في كانون الأول سنة 2008، مفاده أن «الاستخبارات الباكستانية فقدت السيطرة على شبكات المجاهدين الباكستانيين الذين دعمتهم في سنوات الثمانينيات، وأنها تتلقى الآن نتائج هذه السياسة». ويرسم الخبراء الغربيون وضعاً مثيراً للقلق والضحك أحياناً. فباكستان، الدولة الإقليمية العظمى والنووية، تتخللها صراعات داخلية شديدة، وحتى بين ثنايا المؤسسة العسكرية نفسها. يقترب الأمر من الحرب الأهلية، وإلا فما معنى أن نقرأ أنه بعد تفجيرات 11 سبتمبر رفض العديد من الجنود الأوامر التي أعطيت لهم بمحاربة المتشددين وقرروا الانضمام إليهم؟ ثم يزداد الأمر قتامة وصعوبة على التصديق حين تنقل تأكيد أعضاء سابقين من وكالات الاستخبارات الأميركية والبوليس الفدرالي الأميركي أن مشرف والاستخبارات الباكستانية لم يتخلوا أبداً عمن يحمونهم، وهم ظلوا يؤدون دوراً مزودجاً. فالرئيس السابق تعاون مع الاستخبارات الأميركية من أجل مطاردة الأتباع الأجانب لتنظيم «القاعدة»، فيما وفّر الحماية لقيادة «طالبان» والمجموعات الانفصالية في كشمير.
ويفسر أحد أعضاء الاستخبارات الباكستانية الأمر بقوله: «إن مشرف يضع هؤلاء جانباً، وهم يمثّلون أماناً في اليوم الذي سيقرر فيه الأميركيون وحلف الأطلسي مغادرة المنطقة، حيث تكون باكستان في حاجة إليهم من جديد للضغط على الهند». ولكن القطيعة حدثت. والطلاق كان لا بد له من أن يحدث بين مشرف وهذه الجماعات. فحين اشتدت الضربات التي يقوم بها الجيش الباكستاني مدعوماً بغارات من وكالة الاستخبارات الأميركية بواسطة طائرات من دون طيار ضد «طالبان» باكستان في المناطق القبلية، بدأ هؤلاء يهاجمون الجيش الباكستاني وأعضاء الاستخبارات الباكستانية. وأول عملية انتحارية ضد هدف عسكري خارج المناطق القبلية حدثت في تشرين الأول 2006. وبعد سنة من ذلك شهدنا أول عملية استهدفت أفراداً في الاستخبارات الباكستانية: عمليتان انتحاريتان استهدفتا في غضون ثلاثة أشهر حافلات تنقل موظفي الوكالة، وسبّبتا مقتل 33 شخصاً في مجموع العمليتين، وبذلك انقلب السحر على الساحر، وقاد ذلك إلى المواجهة الشاملة التي شهدها وادي سوات في الصيف الماضي.
رغم حرب الصيف الماضي، بقيت المعادلة السابقة قائمة، ولكنها معرضة اليوم للاهتزاز بسبب اغتيال بن لادن، الذي تجمع أوساط باكستانية على أنه ما كان ليحصل من دون تعاون الأجهزة الباكستانية، الأمر الذي يفتح أبواب المواجهة من جديد.