تعرّف العالم إلى أسامة بن لادن قائداً ومؤسساً للتنظيم الذي قسّم التاريخ المعاصر إلى مرحلتين: ما قبل 11 أيلول/ سبتمبر وما بعده. حفلت حياته بالمحطات «الجهادية» التي مثّلت مكان تجاذب لدى الرأي العام العالمي، وحوّلته إلى هدف رئيسي للولايات المتحدة، حيث عمل الرؤساء المتعاقبون على إدراجه ضمن أجنداتهم السياسية، وخاضوا معاركهم الانتخابية متسلحين به وبمسألة محاربته أو اعتقاله أو قتله. كثيرة هي المعلومات عن سيرته «الجهادية» وفكره ومعتقداته، لكن أريد لتلك المتعلقة بحياته الخاصة أن تظل بعيدة عن التداول، لكنها عادت لتطرح نفسها بعد إعلان مقتله منذ يومين في عملية لفرقة كوماندوس أميركية، ولا سيما أن من بين الضحايا امرأة استخدمها أحد المقاتلين درعاً بشرية، من المحتمل أن تكون إحدى زوجاته.
لا تنفصل الطريقة التي اختار أسامة بن لادن اعتمادها في حياته عن الحياة التي عاشها في كنف والديه. والدته السوريّة عالية الغانم هي الزوجة الرابعة لوالده محمد بن لادن رجل الأعمال السعودي، وكان جميع الأقرباء والمعارف ينادونها بالـ«الجارية»، فيما كانت الزوجات الأخريات من عائلات مرموقة أكثر في المجتمع السعودي. حين بلغ أسامة سنته الرابعة، طلّق محمد زوجته ليعود ويزوّجها لمحمد العطاس، أحد المديرين في شركة المقاولات التي يملكها. لم يتعرّف إلى والده جيداً لأنه مات في حادث تحطم طائرة وهو لم يبلغ الثالثة عشرة بعد، فعشق أمه إلى حدّ جعله يدنو من قدميها ويقبلهما، كما قال أحد المقرّبين منه لستيف كول كاتب كتاب The Bin Ladens: An Arabian Family in the Amercian Century. ويروي الكتاب كيف أن بذور التديّن لطالما كانت ظاهرةً في تصرفاته، كذلك كان شاباً خجولاً جداً لعائلة ثرية، درس في أهم المدارس وتلقّى علومه على أيدي أمهر الأساتذة الأوروبيين، لكنه لم يكمل طريقه نحو الشهادة الجامعية، بل انتقل إلى العمل مع العائلة وتزوّج باكراً وهو في الـ17 من عمره.

الابن في عيون أمه

لم يتطرّق الكثيرون إلى علاقته بأمه التي مثّلت نقطة الضعف الأبرز له، حتى إنه كان دائم التواصل معها هاتفيّاً حتى ما بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، إلى أن أدرك أن خطّها الهاتفي كان مراقباً. نقطة الضعف هذه حاولت الحكومة السعودية استغلالها، حين استخدمت الأم لإقناع ابنها بالعدول عن خطه الفكري وكفاحه. زارته في السودان وفي أفغانستان، مرة نيابة عن السعودية والمرة الأخرى لحضور حفل زفاف أحد أحفادها.
وطوال هذه الفترة ظلت الأم صامتة، إلى أن قررت الكلام في أعقاب الحادي عشر من أيلول، حين حاورها رئيس تحرير صحيفة «المدينة» السعودية، خالد الباطرفي، لمصلحة صحيفة «ميل أون صاندي البريطانية». تحدثت عن همومها ومخاوفها من المستقبل الذي ينتظر ابنها أسامة. ورغم معارضة الأم لآراء ابنها، أكدت أنه يظل ابنها ولن تتخلى يوماً عنه، وقالت في المقابلة إنها «تصلّي من أجل سلامته وهدايته إلى الطريق المستقيم».
ووصفت الأم الحالة التي أصابت العائلة والسمعة التي جلبها أسامة لها قائلة «تخيّل عائلة تجلس أمام غرفة العناية المركزة وتنتظر أخباراً عن ابن عزيز عليها يرقد في حالة حرجة فيها. الأطباء داخلون وخارجون منها يحكون لها أخباراً سيّئة، غير مشجعة ومشوّشة. الحياة معلقة والعالم يدور في هذه الغرفة. ليس لديك أمل كبير، ولكنك لا تستطيع أن تفقد الإيمان».
وعن طفولة أسامة، تتذكر الأم قائلة «كان أسامة ولداً جميلاً ومطيعاً، وكان يساعدني دائماً. وحاولت أن أغرس فيه حب الله والخوف منه، والاحترام والحب لعائلته وجيرانه وأساتذته. ولم أكن بحاجة إلى كل هذا، لأنه كان دائماً طيباً ويحترم كل الأشخاص الذين حوله. وكان يلعب مع أطفال الجيران في الملعب أحياناً، فيما كان نشيطاً في المدرسة في مجال الرياضة ويحلّ مشاكل زملائه التلاميذ».
وتابعت «كان يعتقد أن الشباب المسلمين كانوا مشغولين كثيراً باللهو واللعب أكثر من اشتغالهم بنشر الإسلام وإعادة أمجاده. وكان يدعو إلى وحدة المسلمين لكي يكون بمقدورهم تحرير فلسطين. وكان دائماً ملتزماً بالإسلام، طوال حياته، ولكن باعتدال شديد. فقد كان يهوى لعب كرة القدم وركوب الخيل، ويمارس حياته الاجتماعية، ولم يكن مدعاة للقلق في شبابه. ولكن الكابوس بدأ حينما سافر وانضم إلى الجهاد الأفغاني».
وترى الأم أن ابنها أسامة وصل إلى هذه الدرجة «نتيجة لغضبه ولإحباطه وعدم قدرته على تحقيق أهدافه العالية: تحرير فلسطين وكشمير والشيشان وجنوب الفيليبين الإسلامي، وتوحيد المسلمين، وجعل الأمة الإسلامية مجيدة كما كانت من قبل في عهد النبي والخلفاء الراشدين. ولكن عالية الغانم لا تستبعد أثر أيام الجهاد القاسية وشبابه، فقد كان مجاهداً وملاحقاً طوال العشرين عاماً الماضية. فالجنود يتغيّرون حينما يذهبون إلى المعارك ويواجهون الموت والدمار. ويعيشون هذا الوضع منذ مدة طويلة».
وعن كرهه للغرب تقول الأم إن «هذه الكراهية جاءت من شعوره أن الغرب دعم أعداء الإسلام والأمة الإسلامية في فلسطين والشيشان وكشمير وفي البوسنة والعراق. ولأن العالم الإسلامي استعمره الغرب لقرون طويلة، فقد شعر أسامة أن هذا الغرب تقدم، بعدما تخلّف وضعف المسلمون اليوم. وفي الفترة الاخيرة بدأ يشعر بأن الأميركيين يحاولون السيطرة على المسلمين والدول العربية من خلال التأثير السياسي والاقتصادي والوجود العسكري، كما في الخليج والصومال».

«العجلات» والزوجات

تزوّج أسامة باكراً، حين كان في السابعة عشرة من عمره. زواجه الأول كان من قريبته السورية نجوى، أم عبد الله، وهي في الـ14 من عمرها، وأنجب منها معظم أولاده، بينهم عمر في أوائل ثمانينيات القرن الماضي. وفي عام 1982 تزوّج أم حمزة، المنحدرة من أصول هاشميّة وحاملة شهادة الدكتوراه في علم نفس الأطفال، وقد أنجبت له طفلاً وحيداً وعادت لتتابع عملها كأستاذة في جامعة الملك عبد العزيز في جدّة. المرأة كانت محترمة عند شريحة واسعة من «المجاهدين»، وعدّها كثر «أمّاً ثانية»، بحسب ما ورد في كتاب ناصر البحري، حارس بن لادن سابقاً، In The Shadow of Bin Laden. أما أم خالد، الزوجة الثالثة ابنة المدينة المنوّرة، فتحمل أيضاً شهادة دكتوراه في قواعد اللغة العربية، لكنها لم تستثمر تعليمها إلا في تربية أولادها الأربعة. احتلت أم علي التي ترعرت في مكة المرتبة الرابعة بين الزوجات، إلا أنها الوحيدة التي طلّقت من زعيم تنظيم «القاعدة» بعدما منحته ثلاثة أولاد، وأقسم بعد ذلك ألا يقدم على هذه الخطوة إلا إذا طلبت إحدى زوجاته ذلك بنفسها. في ربيع عام 2000 أتى بن لادن بأمل السعدة، ابنة الـ17 عاماً، من اليمن إلى قندهار، وتزوّجها. لكن الخطوة لاقت انتقادات كبيرة من زوجاته وأولاده سعد ومحمد وعثمان بسبب صغر سن العروس، ما دفعهم إلى مقاطعة حفل الزفاف، فيما برّر الأب الأمر، معتبراً أنه تعرّض لخديعة، إذ أبلغه أهلها أنها تبلغ من العمر 25 عاماً. وعلى خلفية ذلك تركت الزوجة الأولى لبن لادن قندهار عائدة إلى سوريا «متعبة من حياتها كزوجة زعيم إرهابي».
إلى جانب التحصيل العلمي العالي، تشترك زوجات بن لادن في اكتسابهن خبرة عالية في الاعتماد على النفس والاستقلالية، واللافت في الأمر أن اثنتين منهن تعملان خارج المنزل على الأقل.
إقدام أسامة بن لادن على الزواج مرات متعددة نبع من اقتناعه بضرورة تطبيق مبدأ «تعدد الزوجات» الذي يبيحه الإسلام. وقد بدأت هذه الفكرة تروق كل من بن لادن وصديق طفولته جمال خليفة منذ انتسبا إلى الجامعة، وكانا يشرحان رغبتهما هذه، ويؤكدان أنهما يريدان إثبات الطريقة الصحيحة والحضارية للجمع بين الزوجات وفقاً للشريعة والأصول، في وقت لم تعد فيه مثل هذه الخطوة محبّذة في السعودية. وفي كتابه The Looming Tower ينقل لورانس نايت عن بن لادن توصيفه للأمر قائلاً: «الزواج بامرأة واحدة عادي للغاية ويشبه السّير على الأقدام، أما الزواج باثنتين كما ركوب دراجة هوائية... سريع لكن غير مستقر، أما الزواج بثلاثة فكركوب دراجة هوائية بثلاث عجلات... مستقر ولكن بطيء، أما الزواج بأربعة فمثالي».


العلاقة مع الأولاد

في حديث إلى محطة CNN الأميركية، تطرق عمر أسامة بن لادن إلى موافقة والده على مطالبته بالابتعاد عن العائلة بهدف اختبار الحياة على حقيقتها، بعيداً عن الـ«الجهاد» والتدريبات العسكرية، إذا كان «يعبّر عن رغبته الحقيقية»، ويستدرك عمر قائلاً: «للأسف لم يظهر والدي هذا الاتزان تجاه العالم». رغبته في الابتعاد جاءت على خلفية انزعاجه وشقيقه من الحياة «شبه القاحلة» التي عاشاها، وتحديداً خلال وجود والدهما في السودان، وترسّخت عندما رفض المشاركة في عملية انتحارية. حينها قال له «مكانتك في قلبي كمكانة أي شاب أو فتاة في هذا البلد».
مع ذلك يؤكد الشاب أن بن لادن ذو طموح جامح، ويسعى دائماً إلى الأفضل، لكنه لم يستطع تخصيص وقت كاف لأسرته، وخصوصاً بعد تفرّغه للتنظيم، على الرغم من أنه قديماً كان يلعب مع أولاده باستمرار ويصحبهم إلى الشاطئ وإلى المزرعة للاهتمام بالجمال والأحصنة. وفي الوقت نفسه كان يصرّ على ضرورة أن يكمل كل أولاده، الذين تتضارب أعدادهم وتتراوح بين 12 و24، تعليمهم، وحرص على أن يتابعوا دروسهم في المنزل ليتمكن شخصياً من الإشراف على الموضوع.