تقدّم باراك أوباما إلى المنصة في البيت الأبيض ليُعلن النبأ: «المهمة أُنجزت. قُتل أسامة بن لادن». رصاصة في الرأس أسقطت الزعيم الأسطوري لتنظيم «القاعدة» قبل رميه في البحر، لتُعلن إغلاق مرحلة وتدشين أخرى تتلاءم والتغيّرات الدولية الجارية في زمن إسقاط أنظمة الساحة الأفريقية والشرق أوسطية في الشارع، التي غيّرت المعادلات وأعادت خلط الأوراق. هو الوعد الذي قطعه أوباما قبل أن تطأ قدماه البيت الأبيض. أعلن أن بن لادن الهدف الأوّلي لإدارته، وتوعّد بإنجاز المهمة التي عجز سلفه عنها على مدى أعوام، حسب ما ادّعى في حينه. فعلها الرئيس الأسود. أراد أن يكون «البطل الأميركي» حامل الخير ومحب الشعوب. فالتوقيت الذي تقرّر فيه تصفية أسطورة بن لادن ليس بريئاً على الإطلاق. يأتي بعد أيام من إطلاق أوباما لحملته الانتخابية في موقع «فايسبوك»، والأمر أتى بعد يوم من إعلان تشكيلة الفريق الحربي الذي سيقود عملية الانسحاب من أفغانستان، وقبل عام و5 أشهر على موعد الانتخابات الرئاسية.

إنّه الإنجاز الذي أراد أن يضيفه إلى سيرته الذاتية التي سيقدّمها إلى الناخبين كي يدفعوا له في صناديق الاقتراع.
ما يزيد من إثارة الشبهات حول العملية في توقيتها ونوعيتها، هو أنّ رواية مقتل بن لادن ليست بالجديدة. هي حكاية تتكرّر منذ 1998، وفي كل مرّة تُنسج تفاصيل مقتله وتشييعه ودفنه، إلى أن بات الزعيم مجرّد صوت من دون صورة. تسجيل يخرج بصوت خافت ليُبارك أو يتوعّد. بات رمزاً وزعيماً روحياً أكثر منه قائداً ميدانياً، لا يحلُّ أو يربط في إصدار الأوامر المباشرة للخلايا الشابة المنتشرة في كل الأرجاء.

رواية العملية

بحسب أوباما، تقدّمت فرقة كوماندوس أميركية بالتعاون مع الاستخبارات الأميركية وبمواكبة طائرات مروحية، عند الساعة الواحدة والربع فجراً، نحو مدينة أبوتا آباد، حيث مقرّ العديد من القواعد العسكرية الباكستانية وأكاديمية الجيش.
الهدف في نهاية طريق ضيق وقذر. قصر مؤلف من 3 طبقات، يقع ضمن مجمع تقارب مساحته 3000 متر مربع. أكبر بثماني مرات من المنازل المجاورة، وتقدّر قيمته بمليون دولار. نوافذ قليلة، من دون هاتف أو إنترنت. يعيش فيه زعيم «القاعدة» وزوجته الصغرى وأحد أبنائه ومعاونيه. شنّت مروحية أميركية غارة على المجمع، ونفذ فريق صغير العملية. قاوم بن لادن الهجوم قبل أن يُقتل برصاصة وسط رأسه. قُتل في العملية التي استمرت 40 دقيقة 5 أشخاص أيضاً، 3 من رجال بن لادن وأحد أبنائه وامرأة استخدمها أحد المقاتلين درعاً بشرية، وأُصيبت امرأتان أخريان بجروح.
وخلال العملية تعرّضت مروحية لعطل ميكانيكي، فدمّرها الفريق وغادر على متن مروحية أخرى.
أما جثمان بن لادن، فأُخذت منه عينه لاختبار الحمض النووي، قبل أن يُرمى في البحر بعد الصلاة عليه وفق التقاليد الإسلامية. وقالت شبكة «سي بي أس» إن السعودية رفضت أن تتسلّمه، وإن التقاليد الإسلامية تنصّ على دفن الميت خلال 24 ساعة من وفاته، ما دفع القوات الأميركية إلى دفنه في البحر، أمس، «لأن آخر ما يريده الأميركيون مكان دفن يتحول إلى مزار للإرهابيين»، بحسب ما نقلت وسائل الإعلام الأميركية عن مسؤولين.
وفي نتيجة الحمض النووي، قال مسؤول كبير في الاستخبارات الأميركية إنها أثبتت تطابقاً بنسبة مئة في المئة تقريباً مع أقاربه، وإن امرأة يعتقد أنها زوجته تعرّفت إليه.
وأوردت وكالة أنباء «آري» الباكستانية، نقلاً عن مصادر أمنية باكستانية، أن 4 من أولاد بن لادن وزوجتين له اعتقلوا، إضافة إلى صديق مقرّب من زعيم «القاعدة» يدعى أكبر. واستنفرت القوات الأمنية في منطقة أبوتا آباد، فيما عُقد اجتماع رفيع المستوى في إسلام آباد برئاسة آصف زرداري وحضور كبار القادة المدنيين والعسكريين.
وقال مسؤولون إنهم علموا بأن «هدفاً مهماً جداً» كان يحظى بحماية داخل المجمع. وبدأوا خطة للوصول إليه. وترأس أوباما 5 اجتماعات أمنية قومية في البيت الأبيض منذ آذار من أجل وضع خطط للقضاء على الهدف. وجاء الأمر المباشر للعملية إلى القوات الخاصة والـ«سي آي إيه» خلال اجتماع صباحي يوم الجمعة الماضي.
وروى المسؤولون الأميركيون أن الـ«سي آي إيه» جمعت معلومات استخبارية عن الدائرة الداخلية المحيطة ببن لادن. كذلك قدّم الأشخاص الذين ألقي القبض عليهم بعد اعتداءات 11 أيلول معلومات عن أشخاص يعملون على تقديم دعم مباشر لبن لادن ومساعده أيمن الظواهري بعد هروبهما من أفغانستان، بحسب مسؤولين.
وأثار رسول واحد اهتمام الاستخبارات باستمرار. وقدّم المعتقلون اسمه الحركي، وقالوا إنه كان يحظى بحماية خالد الشيخ محمد، وإنه أحد «الرسل القلة الذين يثق بهم بن لادن». وأشاروا إلى أنه ربما يسكن مع زعيم القاعدة ويحميه.
وأوضح المسؤولون أنه قبل 4 سنوات تمكنوا من تحديد هوية هذا الرسول، وبعدها بعامين حُدّدت المناطق التي ينشط فيها مع أخيه في باكستان، ولكن لم تتمكن الاستخبارات الأميركية من اكتشاف مكان سكنهما بسبب حرصهما الشديد، ما أكد أن الأميركيين على الطريق الصحيح.
وفي آب 2010 عُثر على مكان إقامتهما، في مجمع في أبوت آباد، أُحيط بأسوار يصل ارتفاعها إلى ما بين 12 و18 قدماً وأسلاك شائكة وجدران داخلية، وبوابتين أمنيتين.
وتوصّل عملاء الاستخبارات إلى تحليل يفيد بأن المعسكر أنشئ بحسب الطلب لإخفاء شخص بالغ الأهمية. وقال المسؤولون «عرفنا أن أشخاصاً آخرين يعيشون في المجمع غير الأخوين وعائلتيهما، فعائلة ثالثة أقامت هناك، وعددها وقوامها يلائمان أفراد عائلة بن لادن الذي اعتقدنا أنهم يرافقونه».
وفيما لم ينع حتى ساعة متأخرة، أمس، تنظيم «القاعدة» زعيمه، توعّد أعضاء في منتديات جهادية بالانتقام، وقالوا إنهم يدعون الله ألا تكون أنباء موته صحيحة. ورأوا أن مقتله لن يوقف العمليات الجهادية. وقالت رسالة إن «أسامة بن لادن قد يكون قتل، ولكن رسالته للجهاد لن تموت أبداً، ووفاته ستكون نعمة خفية».
ومع ذلك، أكد أحد عناصر التنظيم في جزيرة العرب مقتل «الأب الروحي» للقاعدة. وقال من دون أن يذكر اسمه «لم نتأكد من إعلان (الرئيس الأميركي باراك) أوباما، فأجرينا اتصالات مع إخواننا في باكستان فأكدوا لنا مقتله».
وملاحقة بن لادن ومقتله ليسا نبأً جديداً، لكنه صار الآن حقيقياً أكثر مما مضى. حاولت القوات الأميركية القبض عليه في معركة تورا بورا أواخر عام 2001، قبل أن تُعيد الكرّة في منتصف آب 2007، حين قامت قوات مشتركة أميركية وأفغانية باجتياح كهوف تورا بورا. وبعد سقوط عشرات المقاتلين، لم يجدوا بن لادن ولا نائبه أيمن الظواهري. ومعظم التقارير كانت تتحدث عن وجوده في الجنات الآمنة داخل المناطق القبلية الباكستانية الأفغانية.
وعن مقتل بن لادن تضاربت الأنباء، ورفضت وكالة الاستخبارات الأميركية حسم الأمر. قيل إنه توفي إثر فشل كلوي في نيسان 2004. ونقلت صحف فرنسية عن الاستخبارات الفرنسية أن بن لادن مات في باكستان في آب 2006، إثر إصابته بحمى التيفوئيد التي شلّت مفاصله السفلى، وكانت الاستخبارات السعودية أول العالمين بهذا الأمر.
وتشير تقارير إلى أن بن لادن مريض منذ 1991، ويعاني من مشاكل تمنعه من النوم على نحو متواصل، ومن السكري وتضخّم في القلب وانخفاض مزمن في ضغط الدم. وفي 1998 أوردت «أن بي سي» أن بن لادن لديه أشهر قليلة ويموت.
لا بدّ من الإشارة إلى أن مقتل بن لادن لا يمكن أن يعدُّ إنجازاً لأوباما. فإدارة جورج بوش السابقة كان لديها من المعطيات ما يكفي لتعقّبه وقتله، ولكن وقت قتل الأسطورة لم يكن قد حان بعد على ما يبدو. في شهادة أمام الكونغرس في تموز 2007، يقول توم فينكار من مكتب مدير الاستخبارات الوطنية إنه يعتقد بأن إدارة جورج بوش تسمح لـ«القاعدة» بالتحرّك بحرية في باكستان، وهي اختارت ألا تعرقل جهودهم. وأضاف «نحن لا نفتقد القدرة، ولكن لا يمكننا التصرف من دون إذن الحكومة الباكستانية».
(الأخبار، أ ب، أ ف ب، رويترز، يو بي آي)