لم يأت مقتل زعيم تنظيم «القاعدة»، أسامة بن لادن، ليكون مفترق طرق أمام الجيل الجديد من التنظيم؛ فهذا الجيل قد وضع أمام خيارات إضافية منذ انطلاق الثورات العربية، ذات الطابع السلمي بغالبيتها. منذ عام 2001، ومع الغزو الأميركي لأفغانستان، اتخذ تنظيم «القاعدة» قراره الشهير بالتحول إلى العمل السري، وإلغاء البنية النظامية التي كان يملكها، والحفاظ على الهيئات الرئيسية مع تحويلها إلى العمل تحت الأرض. وبدلاً من المناطق المغلقة لمصلحة التنظيم في أفغانستان، امتنع هذه المرة أسامة بن لادن والرجل الثاني في تنظيمه الدكتور أيمن الظواهري عن البحث عن موطئ قدم لهما، وتركا الأرض ليختفيا، واختفى معهما التنظيم الذي كان إلى مرحلة قريبة، قبل الغزو الأميركي، يمثّل دولة داخل الدولة، وامتنعا عن تكرار تجربة ما بعد السودان، حين تخليا عن موقعيهما هناك للتوجه إلى أرض جديدة وإطلاق أعمالهما منها.

تنظيمان لـ«القاعدة»

وفي ظل الحرب الشاملة التي خاضتها الولايات المتحدة مع التنظيم، واستهدافها لقائده، وهو المطلب الأول الذي رفعته الولايات المتحدة بعد عمليات 11 أيلول في وجه حركة «طالبان»، لم يكن أمام قيادة التنظيم سوى التحول إلى العمل السري.
وبمطلق الأحوال، للتنظيم باع طويل في العمل تحت الأرض، وفي إنشاء الخلايا السرية، وهو جوهر عمله الجهادي خلال الأعوام الممتدة من تاريخ تأسيسه في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، إلى اللحظة الحالية. كذلك أخذت العمليات الأمنية الخارجية مساحة رئيسية من أطر التنظيم.
مع الغزو الأميركي لأفغانستان، كانت مرحلة كاملة قد انطوت، وذهب معها جزء من الجيل الذي واكبها، ونشأ جيل آخر ما لبث أن انتهى هو الآخر إلى القتال في العراق ابتداءً من عام 2003.
هذه الأجيال كانت تكتسب في البداية خبراتها من التدريب المباشر، ثم مع تطور الصراع واشتداد الملاحقات الأميركية والغربية للتنظيم، اتجه التدريب نحو شبكة الإنترنت والمواقع الجهادية، فأصبح بإمكان أي شاب أن يحصل على التدريب التقني والنقاش السياسي والتأهيل والتوجيه الديني عبر الشبكة العنكبوتية. لا بل أُنشئت أكاديميات للتدريب الإعلامي ولتأهيل الأنصار للعمل الدعائي الافتراضي.
أدى اجتياح العراق إلى تفعيل عمليات تفكيك الجسم التنظيمي وتسريعها وتحسين الأداء القتالي، فأصبح التنظيم عبارة عن تنظيمين كبيرين، الأصغر بينهما هو التنظيم المركزي الذي يتزعمه الشيخ أسامة، ويحتل الموقع الثاني فيه الدكتور أيمن الظواهري، ويضم مجلس الشورى والفتوى الشرعية، والأقسام التنفيذية. والتنظيم الآخر الأضخم هو عبارة عن الفكرة التي تنتشر بين الشبان، وتتكون منها في كل منطقة أو دولة أو مدينة خلية واحدة، تعمل باستقلالية نسبية، وتنفذ أعمالها من دون أن تكون مضطرة إلى انتظار أوامر من قيادتها العليا المتمثلة بالتنظيم الدولي.
التنظيم العنقودي الحامل للخلايا، وهو الاكبر، يضم في كل خلية منه اختصاصيين في الأمن، التزوير، الدعاية والإعلام والعلوم الدينية. وبحسب آخر الأشكال المرصودة في هذه التركيبات الجهادية، نفذ الكثير منها عمليات ورفض التنظيم الأم تبنيها، بينما تبنى أخرى تتوافق مع برنامج عمله.

جاذبية قاتلة

وعلى الرغم من الحصار القاسي الذي تعرض له التنظيم ومواصلة عمليات تجفيف أمواله، ورصد التحويلات المالية، وإنشاء الصحوات لضرب ثقل مركزي للتنظيم في العراق، حيث استقطب قتال الاحتلال الأميركي آلاف المقاتلين الشبان، وعلى الرغم من رصد شبكة الإنترنت واعتقال العشرات من المستخدمين، واصطياد القادة الوسطيين والمحليين في التنظيم، بقيت جاذبية التنظيم مسيطرة على قطاعات لا بأس بها من الشباب المؤمن.
تتلخص جاذبية التنظيم في كونه الخيار الوحيد (في حينه) للتغيير في المنطقة، ولرفع ظلم طال أمده، وللتخلص من الاحتلال الغربي والقواعد الغربية في المنطقة، ولتغيير سلطات حاكمة تأبد وجودها، وفتح الشبان المجاهدون عيونهم على هذه الدنيا ووجدوها قائمة بأشخاصها وعائلاتها والمستفيدين منها، وفي معالجة أزمات مذهبية لا تزال تشتد سعاراً في المنطقة. إضف إلى قضايا يردّها تنظيم «القاعدة» إلى الاحتلال الغربي لدار الإسلام كالفقر والتخلف الاقتصادي والتقني.
ستيف هوفمان، المحاضر في جامعة هارفرد الذي يقدم استشاراته لجهاز الـ«سي آي إيه»، يعرّف شبان تنظيم «القاعدة» (عام 2007) بقوله إنهم «يفكرون بعقلية القرن السابع الميلادي، ويحترفون تقنيات العصر»، إلا أن هذه النظرة شديدة التغريب لشبان يعيشون قضاياهم المعاصرة من دون أن يجدوا حلولاً لها إلا عند السلف الصالح، فيتجهوا إلى تغيير الواقع الحالي بأدوات مستمدة من تاريخ سحيق يرونه الأرقى.

ثورات وبدائل

لم تخفت حماسة الشبان من جيل ما بعد الصحوات والعراق، فهؤلاء لا يزالون يتوافدون بالعشرات على المواقع والمنتديات التابعة لتنظيم «القاعدة» أو القريبة منه. هو الذي تحوّل من تنظيم مركزي إلى فكرة حالمة موجودة في نفوس الشبان والخلايا الجهادية في كل أرجاء العالم الإسلامي. كذلك، لا يزال هؤلاء الشبان يمثّلون الخلايا في كل أرجاء العالم. وكلما قُبض على خلية، تنشأ أخرى، وإن كانت الفاعلية تتضاءل مع الوقت، وخصوصاً منذ ما بعد عام 2008، وكانت آخر العمليات الكبرى في شرم الشيخ، والقتال التراجعي في العراق.
لكن ثمة ما استجد ودخل على الصورة بقوة: الثورات العربية والحراك الشعبي، ودور الإخوان المسلمين في هذا الحراك، وهو ما سيزيح صورة تنظيم «القاعدة» وينقل العديد من الشبان من اتجاه إلى آخر، وسيحتل الصراع (الفكري) بين الاتجاهين مساحة زمنية، قبل أن يقبل القاعديون أن حركة الشارع العربي حققت عدداً من مطالبهم الرئيسية من دون دماء، وأن التغيير الجذري والحكم بما أنزل الله قد يكون شعاراً يرفعه الإخوان المسلمون أيضاً ويعملون على تحقيقه في العالم العربي.
لكن هذا سيستغرق بعض الوقت، أما في الزمن الراهن، وبعد صدور تعقيب رسمي من تنظيم «القاعدة»، فما ستكون عليه الصورة هو أولاً تنشيط الخلايا لنفسها تلقائياً، بغض النظر عن استعدادات التنظيم الأم، وستعمد الخلايا إلى تنفيذ أعمال تراها تخدم توجه الانتقام لمقتل الشيخ أسامة بن لادن والإهانة التي ألحقت بموته عبر إلقائه في البحر. كذلك إن تنفيذ الأعمال لدى هذه الخلايا الشابة لن يكون بتنسيق مسبق مع القيادة الجديدة، التي ستنتخب للتنظيم بعد مصرع بن لادن.