فور شيوع نبأ مقتل أسامة بن لادن، تبادر إلى الأذهان السؤال الآتي: هل باعته وكالة الاستخبارات الباكستانية «آي أس آي»؟ الوكالة التي امتهنت اللعب على الحبال على مرّ سنين مع الإدارة الأميركية، قادرة على تسليم بن لادن بقدر ما هي مستعدة لحمايته. وتصاعد التوتر في العلاقات الأميركية الباكستانية خلال الأشهر الماضية يفسح المجال لاحتمال تحرّك واشنطن من وراء ظهر إسلام آباد. لكن المكان الذي جرت فيه العملية في عقر دار الاستخبارات الباكستانية، يُثير الشبهات حول فرضية الوشاية ببن لادن.وبحسب الاتهامات الأميركية المتكرّرة للباكستانيين، يوفّر جيش إسلام آباد وجهاز استخباراتها الملاذات الآمنة لقادة تنظيمي «القاعدة» و«طالبان»، التي لا تشمل فقط المناطق القبلية الباكستانية، بل تمتد إلى الداخل لتصل إلى العاصمة، بحسب ما أوردت تقارير العام الماضي بأن «آي أس آي» تردّ على برنامج الاستخبارات الأميركية لمطاردة وقتل القادة الإرهابيين داخل المناطق القبلية بتهريبهم إلى الداخل.
والمكان الذي قيل إن بن لادن قُتل فيه، يؤكّد هذا الأمر؛ إذ وُجد زعيم «القاعدة» داخل قصر على بعد نحو ساعة من العاصمة وسط منطقة تقع فيها مراكز عسكرية واستخبارية باكستانية، قبالة أكاديمية عسكرية لا يتجاوز بعدها 700 متر.
تقول الرواية الأميركية إن واشنطن لم تبلّغ السلطات الباكستانية بالعملية. وقال مسؤول: «نحن لم نتبادل المعلومات عن مكانه (زعيم تنظيم القاعدة) مع أي من الدول، بما فيها باكستان، لأسباب عملانية». وأضاف: «منذ 11 من أيلول الولايات المتحدة كانت واضحة مع باكستان بأنها ستلاحق بن لادن أينما كان. وباكستان فهمت منذ وقت بعيد بأننا في حرب مع تنظيم «القاعدة»، والولايات المتحدة كان عليها واجب شرعي وأخلاقي بالتحرك بناءً على المعلومات التي بحوزتها».
أما الموقف الباكستاني من الاغتيال، فعبّرت عنه الخارجية بأنّه نكسة كبرى للمنظمات الإرهابية. موقف يُظهر أنّ واشنطن لم تكن لتتحرّك من دون موافقة الاستخبارات الباكستانية، ومن ورائها حكومة إسلام آباد؛ إذ لم تُثبت التجارب الباكستانية أن مؤسساتها اختلفت في ما بينها على إدارة أزمة ما، وإن وقع خصام، كان الجيش يتدخل ضدّ المؤسسة السياسية لحسم الأمر لمصلحته.
وفرضية تسليم رأس بن لادن ليست مستبعدة وفقاًً لتاريخ العلاقة المتشعبة والمعقدة بين وكالتي الاستخبارات الأميركية والباكستانية، التي عرفت تحالفاً وعداوة، وجمعتهما علاقة خصام ولقاء في الوقت نفسه؛ فكانتا تتحالفان على جبهة وتتعاركان في خندق في الوقت نفسه. أنشأتا معاً «المجاهدين»، وحشدتا من أجل الجهاد المقدس 40 ألف مقاتل من باكستان ونحو 60 ألف أجنبي لدحر السوفيات ما بين 1982 و1989. وعملت «آي أس آي» على حماية نظام «طالبان» في أفغانستان لمواجهة الهند بدعم الاستخبارات الأميركية وتمويلها.
واستمر الدعم بعد أحداث 11 أيلول، رغم التقارير التي تحدثت عن تورط الاستخبارات الباكستانية في الاعتداءات، والتي قالت إن ضباطاً في الجهاز كانوا على علم قبل عامين بوجود مخطط لتدمير برج مركز منظمة التجارة العالمية، فضلاً عن تحويلات مالية وحركة اتصالات هاتفية بين رئيس «آي أس آي» آنذاك الجنرال محمود أحمد وسعيد الشيخ ومحمد عطا.
وبعد التفجيرات وافقت باكستان على شنّ حرب على الإرهاب وتعهدت بملاحقة «القاعدة» وحلفائه. لكنها لم تلتزم. توالت التقارير عن دعم الملا عمر استخبارياً ومادياً من «آي أس آي»، وصدّ محاولات لتسليم شبكة التنظيم لأميركا. وعلاقة «آي أس آي» ليست مرتبطة بشخص بعينه، هي علاقات جهاز بكامله، معظم ضباطه مرتبطون بالتنظيمات المسلحة من «القاعدة» إلى «طالبان» وشبكة حقاني وجند الله.
علاقة أثارت على الدوام استياء الحليف الأميركي الذي زاد من ضغوطه لتحجيم دور الاستخبارات الباكستانية، فوافق الرئيس الباكستاني السابق برويز مشرف في 2003 على سحب عناصرها من المنطقة الحدودية، سامحاً لـ«سي آي إيه» والمارينز بالسيطرة على الشريط الحدودي من سوات إلى بالوشستان. لكن في 2008، عادت الوكالة لتُطالب بموطئ قدمها الذي خسرته.
كذلك اتُهمت الوكالة بدعم شبكة حقاني التي تنشط في تلك المنطقة. وما نُشر الأسبوع الماضي ضمن مسلسل «ويكيليكس» وتحقيقات غوانتنامو يؤكّد عدم الثقة الأميركية بالاستخبارات الباكستانية ووصفها بأنها إرهابية.
مع كل هذا الشكّ، ما الذي يدفع بواشنطن واستخباراتها إلى التعاون مع باكستان؟ يقول عميل «سي آي إيه»: «غلطتنا الكبرى هي السماح للاستخبارات الباكستانية بأن تكون عيوننا وآذاننا». من جهة يتهمونها بالغدر والخيانة، ومن جهة ثانية يتعاونون معها على تصفية القادة المسلّحين داخل المناطق القبلية. هي لعبة المصالح المشتركة المريبة التي تراوح بين القطع والوصل، وتجعل من كل الفرضيات واردة، بما فيها تسليم زعيم «القاعدة».
وتاريخ العلاقات بين «سي آي إيه» و «آي أس آي» و«القاعدة» يُظهر أن الاستخبارات الباكستانية كانت صلة الوصل بين العدوين، فتحالفت مع كليهما في الوقت نفسه. يرى بعض المراقبين أن علاقات الاستخبارات الأميركية بتنظيم «القاعدة» لم تنقطع، وأنها خلقت شبكة الإرهاب الدولي وموّلتها وتستمر برعايتها، وكما يعمل أي مجرم ذكي، تستخدم الرجل الوسيط، وهو في هذه الحالة «آي أس آي».
أخيراً، لا شك في أن مقتل بن لادن سيؤثر على التنظيمات المسلحة في الداخل الباكستاني والأفغاني، نظراً إلى رمزية المقتول. لكنّه تأثير يجري في ضوء سياسة الحرب الأميركية في المنطقة، وخطة بدء الانسحاب المزعوم بعد شهرين من الآن، والجهود الدولية التي أُطلقت قبل أكثر من عام لدمج «طالبان» في السلطة والمجتمع تمهيداً لخروج مشرّف للأطلسيين.
إضافة إلى ذلك، هذه التنظيمات أُنهكت بالفعل عبر برنامج «سي آي إيه» الناجح لتصفية قادتها على مرّ السنوات الماضية، الذي قتل من جرائه المئات، بينهم عشرات القادة من الصفين الأول والثاني، ومثّل نقطة خلاف أميركية باكستانية، رغم موافقة إسلام آباد عليه منذ زمن برويز مشرّف.