من كان يتوقّع نهاية كهذه لمحمود أحمدي نجاد؟ ذاك الرئيس الذي جاء من جنس الناس بات مهدداً بالتهميش، وربما الانزواء في البيت إذا ظل يغطّي «تلك الفرقة المنحرفة والمندسّة والخطيرة»، في إشارة إلى المجموعة التي يقودها صهره، اسفنديار رحيم مشائي. جاء اليوم الذي يتّهم فيه نجاد، الذي يحاصَر في الوقت الراهن، بأنه «حصان طروادة»، يتحمّل مسؤولية «فتنة آتية يتوقع أن تكون أكبر من فتنة 2009».
مصادر عليمة في شؤون إيران وشجونها تقول إن «المنضوين في إطار معسكر الأصوليين، أو المحافظين إذا جاز التعبير، يرون أنهم أتوا بنجاد إلى سدة الرئاسة ليكافحوا به تيار الليبراليين أو النيولبراليين الذين تلطّوا بعنوان الإصلاحيين ولبسوا عباءة (الرئيس السابق محمد) خاتمي من أجل تحقيق نوعين من الأهداف، الأول داخلي محوره فصل الدين عن الدولة، والثاني خارجي يقوم على التصالح مع الولايات المتحدة والتحلّل من المسؤوليات تجاه حزب الله وحماس». وتوضح «أتي بنجاد لهذا الغرض هو الذي لم يكن يوماً من معسكر المحافظين. كان رجلاً مستقلّاً متديّناً متواضعاً من جنس الناس، قريباً من الحرس الثوري، بل تربى على أيديه. كان مطلوباً منه القيام بهذه المهمة وقد أدّاها على أكمل وجه، وخصوصاً في خلال ولايته الرئاسية الأولى وفي خلال الأزمة التي نشبت في نهايتها».
وتضيف المصادر نفسها أنه «في الولاية الثانية لنجاد، بدأ يظهر أن دائرته قد اخترقتها أطراف عديدة، في مقدمتهم الحجتيّون وأنصار القومية الإسلامية، وأوّلهم مشائي». وتوضح أن الحجتيّين، الذين يعتقدون بعدم جواز إقامة الدولة الدينية قبل ظهور الإمام المهدي، «فشلوا في تكوين تيار داخل دوائر نجاد يؤثر عليه. ليسوا موجودين بما هم رموز بل بطريقة التفكير، خلافاً لمشائي الذي دارت جميع المعارك في معسكر الأصوليين في خلال الدورة الثانية حول الموقف منه»، مشيرة إلى أن «نجاد يتمسك بمشائي الذي يزداد قوة يوماً بعد يوم وتكبر جماعته ويدفع نجاد أكثر فأكثر نحو القومية الإسلامية».
ولعل أولى القوى التي تحسست من مشائي ومشروعه، كانت الحوزة الدينية وكبار علماء قم. كذلك فعل المحافظون التقليديون، وفي مقدمتهم جمعية المؤتلفة الإسلامية التي تألّفت قبل نحو نصف قرن ونمت في البازار الذي يعدّ «قلعتها». هناك أيضاً معسكر الطبقة السياسية الأصولية المتحلقة حول المرشد علي خامنئي، مثل علي أكبر ولايتي وحداد عادل وقادة الحرس. كل هؤلاء رأوا أنّ النظرية التي يروّج لها مشائي «تخسّر النظام الإيراني في الداخل مشروعيته الدينية، كما تخسّر إيران في الخارج مشروعيتها الإسلامية». وأكثر ما يقلق هؤلاء، على ما تفيد مصادر وثيقة الاطلاع على ما يجري في كواليس طهران، أن «مشائي، الذي يمثل هذه المدرسة، يُعدّ العدة لخوض الانتخابات البرلمانية في أواخر شباط المقبل، ومن بعدها الانتخابات الرئاسية في 2013، حتى ولو كان بشخصية أخرى». الأهم من ذلك أن اقتناعاً تكوّن لدى تلك الدوائر البالغة التأثير في الحياة السياسية الإيرانية، بأن «ما يجري يتهدّد مشروع ولاية الفقيه مع الزمن وقد يهدد شخص خامنئي نفسه. بل وصل بهم الأمر للقول إن مشائي، وهذا التيار، قد زُرع في أروقة نجاد لتحقيق هذه الغاية، وإنه يلتقي بنحو أو بآخر مع مشروع الثورة الخضراء، ويستدلّون على ذلك بأن مشائي يستخدم كثيراً الخطاب السياسي السابق للإصلاحيين».
وقد يكون ممثل مؤسسة القيادة في صحيفة «كيهان»، حسين شريعتمداري، أبرز المتصدّين لهذا المشروع من خلال سلسلة مقالات كرسها للرد على مدرسة مشائي ومقولاته بقوة وعنف. هناك أيضاً عالم الدين المعروف منصور أرضي، الذي يمتلك شعبية ربما تضاهي شعبية نجاد نفسه، لما له من سمعة طيبة على أنه رجل تقي ورع لا يدخل ألاعيب السياسة وإن كان معروفاً أنه أحد صنّاع الرؤساء. فقد شنّ أرضي أخيراً هجوماً عنيفاً على مشائي، رأى في خلاله أنه يحمل صفة «اليهودية الملعونة» وأنه لا يمثّل خطراً على الرئيس فحسب بل على الثورة الإسلامية، ما دفع مكتب الرئاسة الذي يرأسه مشائي إلى تقديم شكوى بحقه. حتى داوود أحمدي نجاد، الذي كان حتى عامين مضيا مستشاراً لشقيقه الرئيس، ترك عمله في دوائر الرئاسة، موضحاً أن مشائي سيودي بأخيه نجاد إلى «التهلكة»، علماً بأن داوود كان من الحرس الثوري سابقاً وقاد الحملة الانتخابية لنجاد. ولم يخض داوود هذه التجربة وحده، بل شاركه فيها، بأوقات متفاوتة، العديد من مستشاري نجاد وأصدقائه ووزرائه الذين انفضّوا عنه للأسباب نفسها.
وكانت لجنة ثلاثية قد تألّفت أخيراً للتصدي لظاهرة مشائي، سمّيت «تكتل لجنة المحافظة على وحدة الأصوليين». وتضمّ هذه اللجنة زعيم مؤتلفة عسكر أولادي، والرئيس السابق للبرلمان حداد عادل الذي يمثل الجناح المعتدل عند الأصوليين، ومستشار خامنئي للشؤون الدولية علي أكبر ولايتي. وهي تعدّ لخوض المعركة البرلمانية والرئاسية لقطع الطريق أمام تيار مشائي. ولهذه الغاية، تعقد اجتماعات بين الحين والآخر مع نجاد «لتحذيره من المحيطين به وإقناعه وترشيده بألّا يذهب بعيداً فيخسر جمهوره وقائده»، على ما تفيد مصادر قريبة من أروقة صناعة القرار في إيران معنيّة بهذا الملفّ.
وتقول هذه المصادر إن نجاد «لشدة تأثير مشائي عليه، ومع اتساع دائرة المعارضين لهذا الأخير في الحوزة والجامعات والحسينيات والحرس والباسيج وغيرهم، أصبح حساساً من كل حركة داخل النظام والسلطة لفضح مشائي المتهم بأنه يروّج لمذهب يقول إن الإمام المهدي بات ظهوره قريباً جداً جداً وإن الثورات والاضطرابات التي تحصل في العالم العربي ما هي إلا من علامات هذا الظهور».
معارضو مشائي يحمّلونه مسؤولية أقراص مدمجة «سي دي» تنتشر كالنار في الهشيم في إيران، تتحدث عن قرب هذا الظهور وتدعو الناس إلى «الالتحاق بنا». أقراص يرونها «خطراً على فلسفة ولاية الفقيه والخطاب الديني العقلاني الذي يرفض الحديث عن موضوع بالغ التقديس والأهمية مثل الظهور، الذي لا يعلم أحد موعده، بهذه الطريقة. يقولون إن هذا الأمر من غير الجائز تناوله إلا من باب إشاعة العدل ومكافحة الظلم، وإنه حتى البعض ممن لديهم طرائق عرفانية ربما تجعلهم يلتقطون مؤشرات عن الظهور، لا يجوز لهم التكلم بهذا الموضوع كيفما كان وفي أي زمان ومكان».
وقد فاقمت الوضع مجموعة من التصرفات التي قام بها مشائي، مثل زيارته عمان ودعوة الملك الأردني عبد الله الثاني إلى زيارة طهران. دعوة قبلها هذا الأخير وكانت حصلت لولا الحملة المضادة الشرسة التي اندلعت في طهران ضدها. كذلك الأمر بالنسبة إلى محاولة مشائي ترؤس وفد إلى نيويورك للاحتفال هناك بعيد النوروز على الطريقة الإيرانية باسم يوم الأرض. زيارة كانت ستحصل بالتعاون مع المعارضة الإيرانية في الخارج لولا حملة شبيهة حالت دونها، على ما تفيد أحاديث الصالونات السياسية في طهران.
تصرفات كهذه ومعها التزايد المضطرد لأتباع المدرسة المشائية أطلقت حال الإنذار في عدد من الدوائر المعنية، وفي مقدمتها الدوائر الأمنية التي استنفرت أجهزتها لمعرفة حكاية الأقراص المدمجة السالفة الذكر وقصة الأموال التي تغدق على المساجد ورجال الدين من أجل إقناعهم بهذه المدرسة. لهذه الغاية، تفيد مصادر لصيقة بهذا الملف، بالقول «عقدت وزارة الأمن اجتماعاً قدّم في خلاله أحد مساعدي وزير الأمن حيدر مصلحي شرحاً عن هذا التيار وزعيمه وخطورتهما على كوادر الوزارة. وما إن انتهى الاجتماع حتى استدعى نجاد الوزير وأنّبه على الكلام الذي قيل داخل الاجتماع قبل أن يقيله من منصبه الوزاري ويعيّنه مستشاراً له للشؤون الأمنية».
وتضيف المصادر نفسها أنه «ما إن وصل خبر الإقالة إلى القائد (خامنئي) حتى سارع إلى بعث رسالتين إلى كل من نجاد ومصلحي. في رسالته للأول، طلب منه فيها وقف إجراء الإقالة تحت عنوان أن ليس من مصلحة نجاد ولا من مصلحة البلد إقالة هذا الرجل. أما في رسالته لمصلحي، فقد طلب منه فيها المضي قدماً في ممارسة مهماته وتفعيل الوزارة، مشدداً عليه بأن يقوم بواجباته في هذه الظروف الحساسة «من دون الالتفاف إلى أي أحد آخر».



خطأ الشاه


المتفائلون من المعنيّين بإيران يرون أن «نجاد لا يزال تحت السيطرة، الخوف مما سيأتي بعده». ويبرّرون له احتضانه لمشائي(الصورة) بأنّ «انشغاله اليومي يمنعه من تلمس خطورة مشائي الذي استطاع إقناعه بأنّه محبّ لكل الشعوب ولكل الناس ومؤمن بالمهدوية وحزين على الإنسانية المعذبة، وأنّه يحمل فكراً نيّراً ومعتقداً بعظمة إيران».
ويضيف هؤلاء أن «المدرسة المشائية لا يزال انتشارها محصوراً بالطبقة السياسية والفكرية، وبعض الإصلاحيين القدماء وجزء من جمهور نجاد مع بعض المنضمّين الجدد إلى مجموعة البازار إضافة إلى القوميين واللبراليين مع محاولة للتفاهم مع المعارضة غير المسلحة التي تريد العودة إلى البلد».
ويشير هؤلاء إلى أن مشائي يكرر خطأ الشاه نفسه. وكما قال شريعتمداري، الذي شبّه نجاد أخيراً بـ«حصان طروادة»، في إحدى مقالاته، إن «عظمة إيران آتية من الثورة الإسلامية لا من تاريخها الإمبراطوري الذي يحاول مشائي إحياءه. الشاه جرّب تلك المدرسة وذهب إلى مزبلة التاريخ، وها هو مشائي يعيد الكرّة».
ويضيفون «الخبر الجيّد أن الأصوليين متنبّهون، ومعهم الأجهزة الأمنية، ويُعدّون لمنع حصول أي اختراق أجنبي أو داخلي من خلال وجوه صديقة أو مشتبه فيها لدوائر النظام في الانتخابات البرلمانية والرئاسية».