باريس | نجح الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في قطف رهان البدء بالحملة العسكرية على ليبيا، عشية فتح صناديق الاقتراع لآخر انتخابات محلية قبل الانتخابات الرئاسية. الهدف بان بوضوح مع الاستعدادات الإعلامية التي حرص عليها قصر الإليزيه وضبط إيقاع توقيتها ليتلاءم مع برنامج «نفخ شعبية الرئيس»، بدءاً من تنظيم «قمّة دعم الشعب الليبي»، التي دعت إليها باريس، وصولاً إلى توقيت إقلاع الطائرات لتباشر دخول السماء الليبية في لحظة دخول ساركوزي القاعة.
شملت الاستعدادات اختياراً منمّقاً للكلمات التي استعملها ساركوزي في خطابه. فقد ظهرت كلمة «عرب» ثماني مرات، في خطاب من ثمانية مقاطع، رغم أن الحضور العربي كان «متواضعاً»، حسب قول أحد أعضاء الوفد الألماني، واقتصر على خمس دول (الإمارات والعراق والأردن والمغرب وقطر، إضافة إلى الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى). ومن بين هذه الدول، وحدها قطر أعلنت «مشاركة عسكرية في الحملة»، من دون أي توضيح لما يمكن أن تقوم به.
ويقرّ المراقبون بأن التشديد على الحضور والمشاركة العربيين يهدف إلى إبعاد التهم التي يمكن أن توجه إلى الهجوم على ليبيا بأنه «حملة غربية على دولة عربية». رغم هذا، فإن غياب مصر لاحظه بقوة أكثر من مشارك، ولم يتردّد أحد الدبلوماسيين الأوروبيين في القول «إن غياب أكبر دولة عربية والجارة الأقرب لليبيا، إشارة إلى أننا نسير في طريق خطأ». ولعل هذا هو السبب الذي جعل الفرنسيين يشددون على رفض تسلّم الحلف الأطلسي زمام قيادة العمليات، «وخطف حظوة البدء بالقصف». إلا أن أكثر من خبير يقول إنه رغم أن الطلعات الأولى كانت للطائرات الحربية الفرنسية، «تخضع قيادة العمليات لأميركيين» عبر القيادة العامة للقوات الأميركية «أفريكا كوم» الموجودة في جنوب الصحراء الكبرى، وهي التي أعطت وحددت الأهداف التي طالتها صواريخ توماهوك وكروز الأميركية والبريطانية، والتي دمّرت دفاعات القذافي الجوية ومراكز الاتصالات ومراكز الرادارات، وجعلت القوات الجوية الليبية ودفاعاتها «عمياء» عمّا يحصل في الأجواء وفي البحر الأبيض المتوسط، ما يمكن أن يفتح الأجواء أمام الطائرات الفرنسية والنروجية والإسبانية والكندية والبلجيكية للانطلاق من القواعد الإيطالية لضرب أرتال الدبابات التي تحاصر المدن في الشرق.
هل تذهب الحملة أبعد من ذلك؟ مجرد طرح هذا السؤال، فور انفضاض عقد القمة، يكفي لإبراز الشروخ التي بدأت تظهر، لا بين من صوّت مع القرار ومن صوّت ضده فقط، بل أيضاً بين المشاركين في العمليات العسكرية. سفير بريطانيا في فرنسا، بيتر فيرتماغوت، ردّ على سؤال عن «إسقاط نظام القذافي» بقوله إن قرار مجلس الأمن لا ينص إلا على حماية الشعب الليبي. وأشار إلى «التباين بين موقف عدد من الدول، وخاصة إلى موقف ألمانيا الرافض للعمل العسكري»، وهو ما أكدته المستشارة الألمانيّة أنجيلا ميركل في حديثها مع الصحافيين.
أما في إيطاليا، التي تربطها علاقات وثيقة مع ليبيا، فإن معارضة الحملة العسكرية لم تأت من «صديق العقيد» سلفيو برلوسكوني، الذي حضر قمة باريس، بل من خصمه السياسي اليميني أمبرتو دي بوسي، زعيم رابطة الشمال، الذي أشار باستغراب إلى أن «اتفاقية دفاع تربط إيطاليا بليبيا». رغم هذا، فإن الطائرات المشاركة ستستعمل القواعد العسكرية في إيطاليا، وخصوصاً في جزيرة صقلية، للانطلاق نحو أهدافها، فيما أعلنت مالطا، العضو في الاتحاد الأوروبي، منع الطائرات البريطانية المشاركة من الانطلاق من قواعدها في الجزيرة الأقرب إلى الأراضي الليبية.
ومن الصف العربي المشارك في قمة باريس لم يصدر أي تعليق «يتجاوز العموميات»، كما قال مصدر مقرّب من الاجتماع المغلق، وهو ما يبرز تبايناً كان واضحاً في القرار الذي اتخذه مجلس الجامعة، عندما تحفّظت بعض الدول على الدعوة إلى فرض منطقة حظر طيران. وبات التباين أوضح عند بدء العمليات العسكرية. ونقل عن عمرو موسى قوله بـ«ضرورة تنفيذ القرار ١٩٧٣ بحذافيره»، وأن الجامعة العربية لا توافق البتة على «احتلال ليبيا». أما وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري، فشدد خلال القمة على أن «منطقة حظر الطيران لا تكفي لوقف قمع الثوار». وأشار إلى ما حصل في العراق بعد ١٩٩١ حيث لم يمنع إقرار منطقتي حظر طيران صدام من التنكيل بالمعارضة. إلا أن حديثه إلى الصحافيين جاء مخالفاً، إذ قال «إن حظر الطيران هو عمل وقائي لأهداف إنسانية، وإن العراق «يعارض أي احتلال أو تقسيم لليبيا».
وبدا أن فرنسا أرادت، والقوتان الأساسيتان المشاركتان معها في الحملة، رفع أو تخفيف هذه الهواجس، إذ حمل خطاب الرئيس ساركوزي تلويحاً بإمكان العودة إلى إطار الدبلوماسية، بعدما طمأن إلى أن هدف الحملة هو «التصدي لكل عدوان تقوم به طائرات العقيد القذافي ضد المدنيين»، وأنها «ستتدخل ضد الدبابات التي تهدّد المدنيين العزّل». وعاد وتوجّه إلى العقيد القذافي، تاركاً الباب مفتوحاً للتفاوض «ولتحاشي الأسوأ»، إلا أنه وضع شرط «الاستجابة فوراً، من دون أي تحفّظ أو تردّد، لمتطلّبات المجتمع الدولي». وأكد ساركوزي أن «باب الدبلوماسية سيفتح مجدداً عندما تتوقف الاعتداءات».
ويرى المراقبون أن هذه الحملة جاءت في وقت ملائم جداً لساركوزي، إذ إن شعبيته باتت في الحضيض، والانتقادات الموجهة إلى دبلوماسيّته غطّت صفحات الإعلام، وخصوصاً تجاهله لثورتي تونس ومصر. ساعده في ذلك «انقلاب الموقف الأميركي» الذي جاء نتيجة لـ«قراءة جديدة للواقع العربي المتدهور». وتشير مصادر إلى أنه وُضع في الأسابيع الماضية «ترتيب جديد لكيفية التعاطي لحفظ المصالح الأميركية في المنطقة»، وقد ظهر ذلك واضحاً في الضغط العاطفي الإعلامي والمباشر الذي مورس لإقرار الجامعة العربية طلب الحظر الجوي، ثم «تدخّل السعودية في البحرين مباشرة كأنه مرآة لتدخّل في ليبيا». يضاف إلى ذلك «القلق الغربي الكبير من الوضع في اليمن»، الذي يمكن أن يقود إلى «تدخّل غربي جديد» في المنطقة العربية. ويقول في هذا الصدد أحد الدبلوماسيين «لقد تجاوز أوباما عقدة عدم التدخّل، وبات كل شيء ممكناً» أمام ما يحصل في العالم العربي، وخصوصاً «عودة قيمة النفط بتراجع الثقة بالنووي».