غريبٌ أن تتّجه روسيا البراغماتية الحديثة، فاقدة الهوية الشيوعية، إلى قطع صلتها مع ماضيها العسكري، بحجة أنه بات خارج الزمن الحاضر، من دون أن تبذل جهداً ضئيلاً للارتقاء به إلى مستوى الراهن. موسكو قد تتخلى عن سلاحها الأسطوري الكلاشنيكوف، وتتجه نحو سياسة استيراد الأسلحة الصغيرة من الخارج، وتحديداً فرنسا والولايات المتحدة. هذا ما أعلنه أخيراً وزير الدفاع الروسي أناتولي سيرديوكوف، قائلاً إن الأسلحة الروسية الصغيرة باتت قديمة، ويمكن روسيا شراء أسلحة مماثلة من الخارج. لم يكن وزير الدفاع الروسي واضحاً وجازماً في موقفه، بل بدا غامضاً، وقد استدعى إلى الأذهان منح الرئيس الروسي ديميتري مدفيديف مصمّم هذا السلاح ميخائيل كلاشنيكوف لقب بطل روسيا، نظراً إلى اكتساب الكلاشنيكوف شهرة عالمية واسعة.
كلام سيرديوكوف يشي بقطيعة مع الماضي، حيث كان لاستخدام هذا الرشاش خلفية إيديولوجية في عهد الاتحاد السوفياتي السابق، الذي أمدّ العديد من حركات التحرر الوطني والمقاومة الشعبية بهذا السلاح الخفيف، الصالح خصوصاً لحرب العصابات. فأصبح، تاريخياً، رمزاً لسلاح الثوار والمتمردين معاً، والمفضّل لديهم، بسبب سهولة استخدامه وفاعليته الكبيرة أثناء القتال، وقلة أعطابه.
صحيفة «برافدا» الروسية التابعة للسلطة كابرت أمام قرار طيّ صفحة هذه الأسطورة. وعمدت إلى استطلاع آراء عدد من المتخصصين لاستبيان حقيقة وضع هذا السلاح. هل بات الكلاشنيكوف حقاً خارج الزمن الاستعمالي؟
يقول مصمّم السلاح ديميتري كلاشنيكوف للصحيفة إن «الأجانب يعترفون بأن الأسلحة الروسية الصغيرة هي واحدة من الأفضل في العالم. أريد أن أرى بندقية أجنبية قادرة على منافسة تلك الروسية في جميع المواصفات، وخصوصاً تلك المتعلقة بالسلامة». لكنه يعود ويشكّك فيها متسائلاً «كيف يمكن جندياً، خلال العمليات القتالية، أن يشعر بالأمان إذا كان متوقعاً أن يتعطّل سلاحه فجأة»؟ ثم يوضح أن المشكلة في روسيا «تكمن في غياب العمال في مجال صناعة الأسلحة الصغيرة بسبب الرواتب المتدنية».
بدوره، يقول سيرغي غلاسكي، وهو أحد المشاركين في عمليات مكافحة الإرهاب في الشيشان، إن «هذه الأسلحة لن تصبح بالية أبداً. لم أسمع أي تعليقات سيّئة عن هذه البنادق من أي من الرفاق في بلدي».
ويضيف غلاسكي أن «إرهابيي القوقاز يستخدمون الكلاشنيكوف دائماً، علماً بأن الأموال التي تردهم تخوّلهم شراء السلاح الأميركي أو الفرنسي». ويوضح أن هذه الجماعات غالباً ما تستخدم شبكات الاتصال الأجنبية، لكنها تستخدم البنادق الروسية الصنع دائماً». ويتساءل «ما الذي جعل وزير الدفاع يعتقد أن هذا السلاح ليس جيداً؟ ثم إنه لم يطرح البديل. كيف له أن يحكم على إيجابيات هذا السلاح وسلبياته، علماً بأنه ليس رجلاً عسكرياً»؟ ويرى أن الأشخاص الذين لا يتمتعون بالخبرة الكافية في هذا المجال «من الأفضل ألّا يدلوا بآرائهم».
أما نائب مدير معهد التحليل السياسي والعسكري، ألكسندر خرامشيلخين، فيبدو أكثر منطقاً. ويوضح أن «ما قاله وزير الدفاع يحمل بعضاً من الحقيقة. لكن هذا لا يعني أنه يتعيّن علينا شراء الأسلحة من الخارج. ما يميّز الكلاشنيكوف أنه بندقية سهلة الاستعمال».
شهد عام 1947 أول تجربة لبندقة الكلاشنيكوف من قبل الجيش الروسي، وتحول إلى سلاح فردي رئيسي في الجيش عام 1955. وانسحب هذا الاستخدام على دول المعسكر الشرقي سابقاً، وبات يستخدم في أكثر من أربعين جيشاً حول العالم. وأخيراً كان الحديث في الأوساط العسكرية عن تحديث هذا السلاح. ثم يأتي كلام وزير الدفاع ليخلط الأوراق.
هل تنوي روسيا حقاً التخلّي عن إرثٍ تناقلته جيوش وحركات تحرر كثيرة؟ هل تبتلعها البراغماتية وترضخ لسوق السلاح المتداول اليوم؟ قد يكون سيرديوكوف قصد تدعيم قطاع السلاح الصغير. لكن التخلي عن أيّ أسطورة معترف بها عالمياً هو بداية لتراجع ثقافي وريادي، قبل أن يكون أيّ شيء آخر.