كان زمن سباق التسلّح بين روسيا والولايات المتحدة أشبه بلعبة شطرنج لم تنته. ظلّ لاعبوها يتأرجحون داخل المربعات البيض والسود، حتى جاءت اللحظة الحاسمة: انهار الاتحاد السوفياتي وسيطرت الولايات المتحدة على العالم منفردة. حتى مجد بطل العالم الروسي في الشطرنج غاري كاسباروف غالب الكومبيوتر، لم يشفع له في هذا السقوط.
انهيارٌ تلته تداعيات كارثية وأعقبه قيام. طيف كاسباروف المنتصر دائماً لم يفارق روسيا ولو مجازياً. حتى بدت صورة المربعات البيض والسود كأنها تعود إلى الواجهة مجدداً. حقاً، نهضت روسيا ونضجت بعدما حولّها الانهيار إلى بذرة صغيرة. لم يعد يكفيها النضوج وحده. لا بد من البحث عن الكمال الذي يتحقق أحد أوجهه بالتطوير العسكري، أي اللحاق بالولايات المتحدة. ذلك أن موسكو تدرك بأن النفوذ العالمي لا يكتسب من الإرث وحده.
ووسط هذه الطموحات الروسية، تأتي اتفاقية «ستارت» بين واشنطن وموسكو، التي تعدّ محاولة أوليّة للوصول إلى عالم خال من السلاح النووي. تقابلها درع صاروخية تروّج لها الولايات المتحدة باعتبارها تمثّل حماية لأمنها وأمن أوروبا وروسيا من الدول المارقة، وتحديداً إيران وكوريا الشمالية.
لكن، يعتري روسيا شكٌّ إلى حدّ اليقين من أن هذا المشروع يستهدفها. لذلك، إضافة إلى الاستراتيجية العسكرية الروسية الجديدة التي تشمل السنوات العشر المقبلة، بدأت باستخدام لغة التهديد التي يخشاها الغرب.
لم يكن تهديد الرئيس الروسي ديمتري مدفيديف الدول الغربية، ببدء سباق جديد للتسلح إذا ما تعذر التوصل إلى اتفاق على إنشاء منظومة مشتركة مضادة للصواريخ مع حلف شمالي الأطلسي، إلا إيذاناً بالمرحلة الجديدة.
مدفيديف استخدم لغة التهديد، فيما بشر رئيس الوزراء فلاديمير بوتين بروسيا متطورة عسكرياً. وأعلن أنه «يجب إيلاء اهتمام خاص للقوات النووية الاستراتيجية وفقاً لخطة التسليح الحكومية بين عامي 2011 و2020»، مفنّداً أنه «قبل عام 2015، يجب أن ترتفع حصة الأنواع الحديثة للأسلحة إلى 30 في المئة، وقبل عام 2020 إلى 70 في المئة». ليس هذا فقط، بل تقضي خطة الحكومة «بضرورة تزويد القوات المسلحة بمنظومات حديثة للدفاع الجوي والاتصالات والتحكم والاستطلاع، وإطلاق صناعة مقاتلات من الجيل الخامس وغيرها من الطائرات المتطورة».
هذا المخطط دفع بالحكومة إلى تخصيص نحو 650 مليار دولار، منها أكثر من 150 ملياراً لإعادة تسليح الأسطول الحربي. وأيضاً، أعلن مصمم صواريخ «بولافا»، يوري سولومونوف، أنه «سيجري الانتهاء من تجهيز القوات المسلحة الروسية بمنظومات توبول ـــ أم الصاروخية عام 2012»، مشيراً إلى أن الجيش الروسي يمتلك نحو 50 قاعدة لإطلاق هذه الصواريخ.
وقال نائب قائد سلاح الجو الروسي إيغور سادوفييف إن حصة الأسلحة الذكية في سلاح الجو ستزداد بمقدار 18 مرة عام 2020. وسيتمّ شراء نحو 1500 طائرة ومروحية حربية حديثة.
هذه الأهداف تفتح صفحة جديدة في موقع روسيا الجيوبوليتيكي على الساحة الدولية، بعد لملمتها آثار انهيار الاتحاد السوفياتي، وتطرح أسئلة حول الواقع العسكري لروسيا، ودور الولايات المتحدة في استفزاز هذه المساعي، ربطاً بتاريخ حافل بين البلدين دفنه الواقع، ربما، ولم يدفنه التاريخ. وما يجعل البحث في هذا الأمر أكثر صعوبة هو موافقة الكونغرس الأميركي على اتفاقية «ستارت»، التي تلتها موافقة مبدئية لمجلس الدوما الروسي، رغم «الطعن» في جوهر الاتفاق.
فالولايات المتحدة لم تربط في مقدمة الاتفاقية بين معاهدة «ستارت» والدرع الصاروخية الأميركية، الأمر الذي يمثّل ضربة قاسية للمعاهدة. حتى إن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، قال إن «روسيا ليست موافقة إطلاقاً على تفسير مجلس الشيوخ الأميركي في تصديقه على المعاهدة».
ومع سريان «ستارت»، هل تكتفي واشنطن بالتفرج على تطوير السلاح الروسي؟ يشرح الخبير في الشؤون الروسية أديب السيد لـ«الأخبار» أنه لولا الإشارة إلى ربط مباشر بين المعاهدة والدرع لما وافقت روسيا على إبرام المعاهدة. إلا أنه يصف الاتفاقية في الوقت نفسه بأنها «تحوّل نوعي».
لكن، إذا كان نهج الدولتين للقرن الواحد والعشرين يرتكز على الوصول إلى عالم خالٍ من الأسلحة النووية، ما يسقط مفهوم سباق التسلح الذي كان قائماً خلال الحرب الباردة، وإذا كان السيد يرى أن هذه الاتفاقية هي الأكثر توازناً بين موسكو وواشنطن، فماذا عن قوة الأخيرة العسكرية؟ لا ينفي السيد التفوق الأميركي على صعيد الأسلحة التقليدية. ويقول إنها «أصبحت تمثّل قوة ضاربة لا تقل أهمية عن القدرة التدميرية للأسلحة النووية، بعكس روسيا التي تخلفت في هذا المجال». واقعٌ يشير إلى الإقبال على سباق تسلّح من نوع مختلف، تحتاج روسيا الى 10 سنوات على الأقل لملامسة تفوق الولايات المتحدة في هذا المجال.
وتبقى أيضاً خشية واشنطن من تطوير عسكري روسي يفضي إلى مزاحمتها في سوق السلاح، وخصوصاً بعدما أعلن المسؤول الروسي، الرفيع المستوى، سيرغي تشيميزوف، أن بلاده باتت أحد أكبر مصدري السلاح في العالم، وقد حققت مبيعات أسلحة قياسية بلغت قيمتها 8.5 مليارات دولار خلال العالم الماضي.
يضاف إلى ذلك الانطلاقة الروسية في مجال عقد الصفقات العسكرية مع عدد من دول أميركا اللاتينية وآسيا، كانت الهند آخرها، حيث وقّع البلدان عقداً لتطوير جيل خامس من الطائرات المقاتلة الأسرع من الصوت، التي لا يرصدها الرادار مثل الطائرة الأميركية المقاتلة «إف ــ 22 رابتور». كذلك اتفقا على توسيع قدرة محطة هندية للطاقة النووية بنتها روسيا في كودانكولام بجنوب البلاد.
الولايات المتحدة تخلّت عن المسّ السياسي والعسكري بنفوذ الاتحاد السوفياتي السابق. موسكو وافقت على مساعدة واشنطن في أفغانستان، وفرض عقوبات جديدة على إيران. أكثر من ذلك، يتناول المحللون السياسيون الروس انعطافة روسية نحو كوريا الجنوبية، لا تعني التخلي عن حليفين هما كوريا الشمالية والصين، بقدر ما هي حجز كرسي لها ضمن مجموعة الدول العاملة على حل النزاع الكوري.
قد يكون توصيف الواقع الحالي: استراتيجية عسكرية روسية مقابل استمرار في التحديث الأميركي، تتوسطهما معاهدة «ستارت»، هو سنّة الحياة، كما الزواج، علماً بأنه يبقى للعلاقة بين هاتين الدولتين وقع خاص، ما دام الإرث القطبي لا يزال موجوداً لدى روسيا، في الوقت الذي تمارسه واشنطن.
يحتاج المولود الجديد إلى ثلاثة أشهر حتى يصبح لديه بصمات، فيما قد تحتاج روسيا إلى نحو عشرين عاماً للّحاق بالبصمات الأميركية العسكرية، إذا لم تضع الأخيرة أكياس الرمل على طريق موسكو. إنها ليست بحرب باردة. هي بصمة حديثة للقرن الحادي والعشرين.


القوات الصاروخيّة الاستراتيجيّة

أعلن قائد القوات الصاروخية الاستراتيجية، سيرغي كاراكايف، خلال الاحتفال بالذكرى الـ 51 لتأسيسها، أن هذه القوات تمثّل رادعاً رئيسياً ما لم تستكمل عملية إصلاح الجيش والقوات الجوية والبحرية في روسيا. وأوضح أن روسيا، شأنها شأن الاتحاد السوفياتي في الماضي، تركز انطلاقاً من وضع البلاد الجيوسياسي على قواتها الاستراتيجية البرية، وهي القوات الصاروخية الاستراتيجية. وتؤدي هذه القوات دوراً رائداً بين الصنوف الاستراتيجية الثلاثة (القوات الصاروخية الاستراتيجية والغواصات النووية والقاذفات الاستراتيجية) لا بسبب نوعية صواريخها فحسب، بل بسبب عددها وقدرات الشحنات التي تحملها.
ولفت كاراكايف إلى أن روسيا يمكن أن تتعرض للعدوان إذا ما أضعفت قواتها الصاروخية الاستراتيجية بقدر ملموس. وأوضح أن الاحتفاظ بقدرة القوات الصاروخية الاستراتيجية الروسية حال دون حدوث توسع عسكري واسع النطاق باتجاه روسيا.
(روسيا اليوم)