نيويورك | عشرات الأميال تفصل القسم السفلي من أحياء «داون تاون» مانهاتان عن أحياء «فار روك أواي»، الواقعة في جنوب شرق نيويورك، امتداداً لمحافظة كوينز. المكانان تعرضا لاجتياح الإعصار قبل أسبوع بالضراوة نفسها. ساوت الطبيعة الفقراء بالأغنياء بالخشونة، ولم تبخل عليهم بالمياه المالحة والرمال، ولا بالتحطيم. خرجت الأحياء جميعها في المكانين مهشمة مدمرة، مع فرق أنّ مانهاتن لديها ناطحات سحاب منيعة، بينما «فار روك أوي» لديها مساكن شعبية هشة سرعان ما جرفتها السيول. لكن الإنسان لم يعامل المكانين بالمساواة نفسها، والأسباب كثيرة.
كانت أحياء مانهاتان الغنية تحت ضوء الإعلام المحلي والعالمي، رغم انقطاع التيار الكهربائي عن القسم الأهم منها طوال الفترة الماضية، وزارها كبار المسؤولين، بمن فيهم الرئيس باراك أوباما، الذي زار أيضاً ولاية نيوجرسي، حيث غرقت مدن بأكملها مثل أتلانتيك سيتي. خشيت الشرطة أن تفلت الأوضاع الأمنية في منطقة «وول ستريت»، حيث المصارف الكبرى وناطحات السحاب، ولا سيما أن الفقراء والثائرين دعوا على مدى أكثر من عام إلى احتلال «وول ستريت»، فحشدت السلطات أعداداً كبيرة من رجال الأمن في المكان، ودفعت بكل وسائل الإنقاذ اللازمة لإصلاح شبكات الكهرباء والهاتف والإنترنت، فضلاً عن تفريغ الأنفاق من ملايين الأطنان من مياه البحر. وكان لافتاً وجود تلك الأعداد الكبيرة من رجال الأمن في كل زاوية وعلى امتداد أميال من شوارع الحي المالي وتفرعاته.
صحيح أن الكهرباء بقيت مقطوعة عن معظم تلك الأحياء، بسبب فداحة الأضرار التي أصابت المحطات وما فيها من أجهزة وكابلات لا تتعايش والرطوبة. لكن الأمن بقي منضبطاً ليل نهار. السكان لم يضطروا إلى الرحيل عن مساكنهم الباردة. والمحالّ بقيت مقفلة طوال الفترة الماضية بحماية أمنية مشددة. أما «وول ستريت»، فعادت وفتحت أبوابها بعد يومين فقط من الإقفال، وسلِمت البورصة من الغرق.
زُوّدت المنطقة بمضخات مياه عملاقة، معظمها استُخدم للمرّة الأولى في سحب المياه وتنظيف المكان، كانت تعمل ليلاً ونهاراً. الجرافات عملت بسرعة وفتحت الطرقات. واستأنفت حافلات الركاب نشاطها مجاناً، ناقلة الموظفين إلى أعمالهم بدءاً من يوم الخميس. ونُظفت الموانئ بسرعة، واستؤنفت رحلات العبّارات الضخمة بين مانهاتان وستاتان أيلاند بعد أربعة أيام من الإعصار. وعادت بعض القطارات للعمل بنحو محدود على بعض الخطوط، وتوسع نشاطها يوم السبت. وما إن جاءت نهاية الأسبوع، حتى كان النفق الذي يربط مدينة مانهاتان بمدينة بروكلين يستأنف نشاطه. المهمة كانت ضخمة، بل هائلة. والولايات المتحدة التي صنعت أكبر المعدات في التاريخ، لديها فائض هائل من هذه المعدات القادرة على معالجة المشاكل أفضل من أي دولة أخرى في العالم؛ فالإمكانات الصناعية الأميركية التي شقت قناة بنما وحفرت أباراً نفطية على عمق آلاف الأمتار تحت قعر البحار، وأرسلت مركبات فضائية إلى المريخ، قادرة على حل مشاكلها بسرعة لا تضاهيها فيها أي دولة أخرى على هذا الكوكب.
لكن هذا يحصل فقط متى أُتيحت المخصصات، وتوافرت العزيمة، وحسُنت النيات. وجميعها كانت متوافرة لمانهاتان، جوهرة المدن الأميركية، الإوزة التي تبيض ذهباً. فيها تُصرف تريليونات الدولارات يومياً، وتُحدَّد أسعار كل الأشياء صعوداً أو نزولاً. بل هنا تتقرّر مصائر شعوب بكاملها. تزدهر إذا ضخت «وول ستريت» فيها الاستثمارات، أو تفلس إن أبعدتها عنها. نيويورك هي التي تفرض الرقابة على كل مصارف العالم، وتعاقب من يخالف مشيئتها بالتفليس والتجويع. هي بمثابة وزارة دفاع ثانية أشدّ فتكاً من البنتاغون. ومع ضعف القوة العسكرية الأميركية، مُنحت دوراً أكبر في الحروب الحصارية، التي تفرضها الولايات المتحدة على الدول «المارقة»، فكيف لا تكون معاملتها خاصة؟
في المقابل، فإن لـ«فار روك أواي» أو الصخرة البعيدة النائية، كما تفهم بالإنكليزية، وضعاً مغايراً. اسمها يشبه الأسماء التي كان يطلقها الهنود الحمر على مناطقهم. والحقيقة أن اسم مانهاتان هو من مخلفات الهنود الحمر، ولم يغير فيه الأوروبيون شيئاً. وتسمية «فار روك أواي» تفسر أيضاً بلغة قديمة أنّها منطقة الرمل. إنها عبارة عن شريط من «البلاجات» يقع إلى الجنوب الشرقي من مطار جون كندي في محافظة كوينز ومتصلة في محافظة ناساو. الوصول إليها يمرّ عبر بحيرات وجسور معلقة، وهناك خط قطار رئيسي «أ» يمرّ فوق الجسر. الإعصار اجتاح الأحياء، ودمر الجسر وأغرق الأهالي الذين يُعدّون في غالبيتهم الساحقة من الفقراء الزنوج واليهود، مع تفاوت كبير في درجة الفقر بين الاثنين. مجموع سكانها يصل إلى نحو 120 ألف نسمة، وعددهم يزيد صيفاً.
تلك المنطقة تشتهر بأنها من أكثر أحياء مدينة نيويورك الكبرى حرماناً وإهمالاً. الفقر فيها يتجاوز كل أحياء بروكلين وبرونكس وهارلم. كذلك يتجاوز فيه أيضاً معدل الجريمة كل الأحياء. يمكن القول إن المرور فيها في أوقات الازدهار الاقتصادي نهاراً خطِر. وهناك محال تجارية قليلة فيها، لكن أصحابها يراعون خصوصية المكان، فإما يرضون البلطجية أو يشاركونهم لكي يبقوا في المكان.
غالبية السكان هم من الضعفاء، الذين يعيشون على الإعانات الاجتماعية. معظمهم لم يتمكن من مغادرة المكان قبل الإعصار لضيق الحال، رغم أن المنطقة كانت الأكثر تهديداً بالاجتياح المائي والدمار. وقد نالت قسطاً وافراً من الدمار، إلى جانب منطقة «لونغ بيتش» الغنية، التي تبعد عنها بضعة كيلومترات للجهة الشرقية.
الإعصار دمّر الجسر الوحيد الذي يوصلها بالمدن الأخرى القريبة، والذي يمتد محاذياً مطار جون كندي إليها فوق بحيرة. وإعادة بناء الجسر تحتاج في الحد الأدنى إلى شهر، إذا وُضعت أفضل الإمكانات في يد المتعهدين.
لكن السكان الذين يعيشون ظروفاً قاسية بعد فقدان أكثر من مئة منزل حرقاً، وآلاف المنازل غرقاً، وجدوا أنفسهم من المنسيين في سلم الأولويات. كان الإعلام يغطي حرائقهم من الجوّ بطائرات المروحية.
بعد الإعصار هبطت درجة الحرارة كثيراً مقتربة من الصفر. تأخر وصول المساعدات بسبب صعوبة التنقل بالطرق البعيدة الملتوية الوعرة. ووجد السكان الأبرياء أنفسهم بين فكين لا يرحمان. الطبيعة التي عصرتهم وقست عليهم إلى أقصى حد ممكن، ورجال العصابات الذين وجدوا في غياب رجال الأمن فرصة، لكي يروّعوا الجميع وينهبوا ويبطشوا كيفما شاؤوا.
اختفى رجال الأمن من المكان، ربما لأنّ الكثير منهم في مانهاتان قرب المصارف. والقلّة القليلة لا تقدر على مواجهة أشقياء أمضوا عمرهم في السجون أكثر مما أمضوه خارجها. إزاء هذه الظاهرة تسلّح بعض الأهالي بما أمكن. من البنادق إلى مضارب كرة البيسبول وحتى الآلات الحادة. بعضهم، ممن شارك في الحروب الخارجية، وظّف خبراته في تلك الأحياء، صانعاً شراكاً للمهاجمين. وآخرون استخدموا أقواس الرماية والنبال للدفاع عن أنفسهم من أشقياء مدربين.
وقبل أن يحل الظلام، يسمع الأهالي، الذين يتصلون بالإذاعات، أصوات الرصاص، ويقبع من بقي لديه مسكن في ركن يرتعش بانتظار مصيره. لا أحد يتوقع أن يهبط المظليون لإنقاذهم. قالت إحدى السيدات إنها تنام على سرير سدّت به باب شقتها كي لا يقتحم الشقة أشخاص يأتون بلباس رسمي «يدقون الأبواب عند منتصف الليل» سائلين عن حالها.
آخرون حملوا ما وجدوا في مطابخهم من سكاكين وسواطير وأدوات حادة. الفوضى لم تعمّ بعد، لكن الجميع قلق من حدوث ذلك. عندها، لا أحد يدري إلى أي مدى يمكن أن تتسع. الظروف التي ولدها الإعصار قاسية للغاية ولا تختلف في جزيرة «ستاتان آيلاند» عنها في «فار روك أواي». بعد أربعة أيام من انقطاع التيار الكهربائي والبنزين والإمدادات الغذاية والغاز، وبعد دمار شامل ضرب المنطقة، بدأت مساعدات قليلة تصل إلى المنطقة المنكوبة «فار روك أواي». مساعدات على شكل مياه معبأة وعلب بيتزا وبعض المواد الغذائية الأخرى كالحليب المعلب. لكنها بقيت ضئيلة. أما التعزيزات الأمنية، فلم تصل في الوقت المناسب لإنقاذ الحوانيت القليلة من النهب والتخريب. حتى مطاعم «مكدونالد» لم تسلم من العصابات. النهب لم يستثن أحداً.
ليس في هذه المنطقة أي أحزاب منظمة، لكي توجه السخط نحو تحركات مطلبية. والثقافة السائدة تقوم على أنه مثلما أن الثراء يمكن الاستئثار به فردياً من دون حساب، فإن الحلول لا تكون جماعية، بل فردية ومؤقتة بطرق إجرامية.



ستاتان آيلاند

وجدت «الأخبار» في جولة إلى جزيرة «ستاتان آيلاند» يوم السبت الماضي، أن الأهالي لم ينتظروا مساعدة هيئة الإغاثة الاتحادية لهم، بل بدأوا ينظفون المكان بأنفسهم، وقد بدا الفقر الشديد عليهم. بعضهم كان يفتش في حاويات الزبالة على ما يمكن أن يستفيد منه في منزله بعدما دمرته العواصف.
عمدة نيويورك، مايكل بلومبرغ، بدوره، زار «فار روك أواي» الفقيرة، وحاول أن يلتقط صور تذكارية وهو يحضن فتاة سمراء جميلة. صورة قد تنفع حزبه في الأسبوع الانتخابي. هناك وجهت إليه بعض السيدات الشتائم وقلن له: «لم نرَ أي مساعدة على مدى أربعة أيام. إننا من المنسيين في هذه المدينة». آخرون سألوه: «أين الحماية؟ إننا مهددون وفي خطر شديد». خرج بلومبرغ من المكان بغير الوجه الذي دخل فيه. وشعر عندها بأن البلاد بعد «ساندي» لم تعد كما قبله.