هل تكون الأزمة الاقتصادية مدخلاً لتفتيت اسبانيا؟ هل تكون مركزية الدولة الاسبانية في مراحلها الاخيرة؟ اسئلة وضعت الحكومة الاسبانية نفسها أمام تحديات معالجتها مع ازياد قيمة الديون التي تغرق بها الاقاليم الـ17 المكونة للدولة، وعدم قدرتها على تقديم المساعدة لها.
الأزمة الاكثر الحاحاً التي تدهم الحكومة اليوم، تتمثل بالمسعى الجديد القديم للكاتالونيين في الاستقلال، مع ادراكها جيداً لمخاطر هذا الطرح، وخصوصاً أن الأزمة الاقتصادية ستكون مدخلاً أساسياً لبقية الاقاليم الانفصالية، كالباسك، لرفع الصوت للمطالبة بحقوقها أيضاً.
«لا شيء سيكون سهلاً، لكن كل شيء ممكن»، بهذا الايمان سيدخل رئيس وزراء اقليم كاتالونيا، ارثور ماس، مفاوضاته اليوم مع رئيس الوزراء الاسباني ماريانو راخوي للاتفاق على معاهدة جديدة للميزانية. مطالب ماس واضحة «اتفاقٌ اقتصادي جديد يضمن لنا حقوقنا وإلا فنحن ذاهبون نحو تحقيق استقلالنا عن اسبانيا».
يتكئ ماس في مطلبه على التظاهرة الاكبر في تاريخ إسبانيا، التي شهدتها برشلونة (عاصمة كاتالونيا) في 11 ايلول إحياء لليوم الوطني لكاتالونيا، تحت شعار «كاتالونيا الدولة القادمة في اوروبا». أكثر من 1.5 مليون كاتالوني تظاهروا رافعين شعارات «اسبانيا تغشنا، أخذوا منّا لغتنا والآن يريدون أن يأخذوا منّا كل شيء... يحيا استقلال كاتالونيا»، «نحن مختلفون عن اسبانيا، لأن لدينا ثقافة ولغة مختلفين، ونحن نحب كاتالونيا وحريتها». المتظاهرون اعلنوها صراحةً «نحن امة تامة ونقرر مصيرنا بأنفسنا... وداعاً اسبانيا واهلاً بكاتالونيا الدولة الجديدة في الاتحاد الاوروبي».
مطالب الكاتالونيين بالاستقلال ليست بالامر الطارئ، فلطالما وجد المؤيدون لهذا الخيار، لكنهم كانوا في معظم الأوقات أقلية في الإقليم. أما اليوم فإن الواقع تغيّر، فاستناداً إلى آخر تصويت أجراه المعهد الكاتالوني للاحصائيات (CEO) 51% من الكاتالونيين سيصوتون للاستقلال في استفتاء افتراضي هذه السنة، وهذا الرقم هو أعلى رقم وصل إليه. كما أن الجمعية الوطنية تتطلع لاجراء استفتاء عام حول استقلال كاتالونيا خلال عام 2014.

الأزمة الحالية

انطلقت الأزمة الحالية من أسباب اقتصادية مع رفض الحكومة الإسبانية لمطلب الحكومة الكاتالونية التوقيع على اتفاق مالي جديد ينص على خفض المساهمة الكاتالونية في إسبانيا إلى النصف. إذ إن مساهمة الاقليم المالية تعتبر الاهم في تأمين الاستثمارات والخدمات التي تنجز في باقي انحاء اسبانيا على حساب الكاتالونيين، وهو ما أقرته الحكومة الاسبانية، حيث قدرت قيمة المساهمة الكاتالونية بين 6.4% و8.7% من الناتج الكاتالوني المحلي السنوي (بين 13.1 و 17.8 مليار يورو)، بحسب الدراسات الرسمية لوزارة المالية الاسبانية في العام 2005.
كذلك تطالب حكومة ماس بحصول الإقليم على نسبة عالية من مواردها الخاصة، وانشاء صندوق خاص للضرائب في كاتالونيا على غرار اقليمي الباسك ونافارا، وهو ما يوافق عليه 80 % من الكاتالونيين، بحسب أحدث استطلاع للرأي. مطالب فرضتها الديون التي غرق فيها الإقليم، وأوصلته لأن يكون الإقليم الاكثر مديونية في اسبانيا. وبلغت ديون الإقليم 42 مليار يورو، أي ما يعادل21% من قيمة ناتجه المحلي الاجمالي، ما دفعه إلى طلب مساعدات في نهاية آب الماضي من الحكومة الاسبانية بقيمة خمسة مليارات يورو، على امل سداد قروضه.
وعلى الرغم من الدخل الصافي الذي تؤمنه كاتالونيا لإسبانيا، والذي يناهز 200 مليار يورو أي ما يعادل خمس اجمالي الناتج الداخلي السنوي، فإن الاقليم يمتلك اسوأ خدمات عامة مقارنة بالأقاليم المساهمة مالياً في الدولة.
تفاقم الازمة المالية فرض على الحكومة المحلية اتخاذ اجراءات قاسية، كالخفض في الميزانية العامة والتي أثرت على الخدمات العامة والبنية التحتية والتعليم وفرص العمل، حيث سجل في العام الماضي تسجيل اعلى نسبة بطالة في الاقليم وصلت إلى 800 الف عاطل من العمل.
اجراءات دفعت بالكاتالونيين للتعبير عن سخطهم من التعاطي غير العادل معهم، وخصوصاً ان عائدات الضرائب تذهب لمشاريع لا تأتي لهم بالفائدة الاقتصادية والاجتماعية، بل تذهب لاقاليم فقيرة مثل الاندلس. موقفٌ دفع رئيس الوزراء ارثور ماس للقول «بين كاتالونيا واسبانيا اعتقد أن ثمة شعوراً بالتعب والتعب متبادل»، مشيراً إلى أن «كاتالونيا قد تعبت من الدولة الاسبانية واعتقد أن اسبانيا قد تعبت من طريقة التعامل مع الامور في كاتالونيا لأن الشعور في اسبانيا هو أن كاتالونيا ما زالت تطلب وتشكو».

جذور تاريخيّة

كذلك يمكن ملاحظة ثلاثة أسباب رئيسية أخرى لعبت دوراً تاريخياً في تغذية الروح الانفصالية للكاتالونيين، وهي عدم احترام اللغة والثقافة الكاتالونية، عدم اقرار الحكومة الاسبانية بطبيعة البلاد المتعددة القوميات، ومحاولات اعادة مركزية الحكومة الاسبانية وتقليص دور الحكومة الكاتالونية.
فعلى رغم مضي أكثر من 35 عاماً على نيل الاقليم الحكم الذاتي، عقب تولي الملك خوان كارلوس الحكم سنة 1978بعد وفاة الجنرال فرانكو، وما ترتب على ذلك من قدرة للحكومة المحلية ليكون لها سلطة إدارة الصحة والتعليم والشرطة المحلية، إلا أن الكاتالونيين سئموا من تصرفات الحكومة المركزية معهم.
ومنذ 150 عاماً والكاتالونيون يسعون إلى وضع «القومية الكاتالونية» في مكان مناسب في الدولة الاسبانية الا إن مساعيهم باءت بالفشل دوماً. فالقومية الاسبانية لم تتقبل يوماً وجود القومية الكاتالونية، فاثناء مناقشة الدستور الاسباني الجديد في 1978، رفض في وقتها انصار الجنرال فرانكو اعتبار اسبانيا متعددة القوميات، واعلن الدستور وقتها «اسبانيا بلداً مؤلفاً من قوميات واقاليم»، وكانت المرة الاولى التي يشار فيها بنص رسمي لمصطلح «قومية»، وكانت اشارة واضحة إلى قوميات الباسك والغالشيان، إلى جانب كاتالونيا.
وحتى آخر المحاولات لاعتبار كاتالونيا «أمة» في تعديل النظام الأساسي الجديد «للحكم الذاتي» في 2006، قوبل بالرفض من المحكمة الدستورية الاسبانية بعد 4 سنوات على دراسته، على رغم تصويت 89 % من الكاتالونيين عليه. ويومها خرج اكثر من مليون متظاهر في 10 تموز 2010 تنديداً بما اعتبروه اهانة لقوميتهم.
كذلك لم يتقبل الكاتالونيون محاولات الهيمنة الثقافية، عبر رفض اعتراف الحكومة الاسبانية باللغة الكاتالونية بأنها اللغة 23 في اوروبا، رغم احتلالها المركز 13 في القارة من حيث عدد المتكلمين بها، وترحيب منظمة اليونسكو والاتحاد الاوروبي بفكرة خلق مجتمع ثنائي اللغة.
وعادة ما تجد مصطلحات «catalanophobia»و«antiCataln»، التي يستعملها السياسيون الاسبان والاعلام للتعبير عن كراهيتهم تجاه الكاتالونيين دون أن تبادر الحكومة المركزية إلى وضع حد لذلك. ويسجل للكاتالونيين أن مطالبهم الانفصالية تتميز عن بقية الحركات الانفصالية في العالم بأنها لا تنطلق من اساس عرقي، فالكاتالونيون يعتبرون الهوية القومية هي الاساس، وهو ما بينته الارقام التي أشارت إلى أن 37% من سكان الاقليم، البالغ عدده 7.5 ملايين نسمة، ليسوا من مواليد كاتالونيا.
وبالنظر إلى مواقف ماس، فإن مطالب الكاتالونيين بالاستقلال هذه المرة لن تكون مجرد «حمى صيف عابر»، فهي لن تنتهي في وقت قريب إلا في حال تجاوب الحكومة الاسبانية مع مطالب الإقليم.

التهديد الإسباني

ماس نصح الحكومة الاسبانية بأن «لا تقع في خطأ التقليل» من جديّة مطالب مسيرة 11 ايلول، وطالبها باجراء استفتاء شعبي لمعرفة رأي الكاتالونيين بالاستقلال، «فلنأخذ رأي الذين يريدون أن يكونوا دولة لأن ثمة قسماً كبيراً جداً من المجتمع الكاتالوني يريد أن يكون دولة». وحتى الرئيس السابق للحكومة المحلية الكاتالونية، جوردي بويول، المعروف بمعارضته لللانفصال، اعلن بوضوح في تصريح لصحيفة «فايننشال تايمز»، أن «اسبانيا اصبحت تضيق على كاتالونيا، ولهذا فإن الإقليم ينبغي أن ينظر في امكانية اعلان الاستقلال»، مشيراً إلى أنه «لم يعد لدي حجج لمعارضة الاستقلال. واسبانيا هي المسؤولة عن ذلك. ان مدريد تجعل بلادنا غير فاعلة، ونحن لا نستطيع أن نحتمل هذا الوضع اكثر من ذلك».
الحكومة الاسبانية من جهتها، رأت عبر رئيسها ماريانو راخوي، أن حل المشاكل المالية الجدية لكاتالونيا لا يكون عبر الانعزال عن بقية البلاد، بل يكون عبر حلول بطرق عامة.
موقف رئيس الحكومة ترافق مع تهديد الكولونيل الاسباني فرنسيسكو كاسترو بأن استقلال كاتالونيا سيكون على جثته وجثث غيره، وتبنّي المؤسسة العسكرية الأمر الدستوري الذي يكرس سيادة إسبانيا على أراضيها. مواقف تأتي مع ازدياد الوضع الاقتصادي المتأزم لاسبانيا، ما يجعل امكانية قبول الحكومة الاسبانية بمطالب كاتالونيا غير قابل للتحقق، ما يطرح السؤال كيف ستكون ردة الفعل الكاتالونية وهل ستذهب الحكومة في خيارها الانفصالي حتى النهاية؟



بطاقة تعريف

تبلغ مساحة إقليم كاتالونيا 32.106 كلم مربع، ويبلغ عدد سكانه 7.5 ملايين نسمة. عاصمته مدينة برشلونة، ويبلغ عدد المقاطعات فيه 4 وعدد بلدياته 946.
ضمّ إقليم كاتالونيا إلى الدولة الاسبانية عقب سقوط مدينة برشلونة في يدي الجيشين الفرنسي والاسباني في 11 ايلول 1714، التاريخ الذي يعتبر بالنسة للكتالوينيين اليوم الوطني للمطالبة بالاستقلال. وضع قانون «الحكم الذاتي» لكاتالونيا اول مرة في 1932، ثم علق العمل به بعد تسلم الجنرال فرانسيسكو فرانكو الحكم في 1936 وحتى وفاته سنة 1975، إذ عمل خلال تلك الفترة على توحيد كل الاقاليم تحت سلطة الادارة المركزية في مدريد. عقب تسلم الملك خوان كارلوس الحكم في 1978 اعيد العمل بقانون الحكم الذاتي في كاتالونيا في 1979، وبعد الانقلاب العسكري في 1981 اقرت الحكومة بوجود 17 اقليماً مع خصوصية لاقليمي الباسك ونافارا في تحصيل ضرائبهما، واستثناء كاتالونيا من هذا الحق.