قررت الصين أخيراً إلغاء «سياسة الطفل الواحد» التي فرضتها نهاية سبعينيات القرن الماضي، والتي منعت بموجبها، لنحو 35 عاماً، الأُسر في المدن من إنجاب أكثر من طفل، فيما سمحت للأسر في الأرياف بإنجاب طفل ثان، إذا كان الأول أنثى. منذ سنوات، بدأت السلطات بالتخفيف تدريجاً من سياسة تحديد النسل، فسمحت للزوجين الوحيدين بإنجاب طفل ثانٍ؛ وفي عام 2013، سمحت للأسرة بإنجاب طفل ثانٍ إذا كان أحد الزوجين فقط وحيداً.
وأخيراً، أعلنت الصين أواخر الشهر الماضي سماحها لجميع الأسر بإنجاب طفلين، وذلك تداركاً لتعميق اختلالات ديموغرافية تهدد النمو الاقتصادي للبلاد.
تعتبر السلطات الصينية أن «سياسة الطفل الواحد» كانت من شروط نجاحها بتحقيق معدلات النمو الاقتصادي المرتفعة ورفع مستوى معيشة الأسر، حيث كان عدد السكان قد نما من 600 مليون نسمة في خمسينيات القرن الماضي إلى 800 مليون عام 1970، فهدد الانفجار السكاني بامتصاص النمو الاقتصادي المحقق. وبحسب السلطات، فإن السياسة المذكورة حالت دون حدوث نحو 400 مليون من الولادات، منذ تطبيقها؛ علماً بأن عدد سكان الصين اليوم بات يقارب 1.4 مليار نسمة. وطبقت السلطات هذه السياسة عبر تقديم حوافز مالية وتوظيفية لمن يلتزمها، وغرّمت من يخرقها. وإلى جانب توفير وسائل منع الحمل على نطاق واسع، عمدت السلطات في كثير من الأحيان إلى إجراءات إكراهية، كعمليات الإجهاض الإجبارية، وحتى التعقيم؛ وتشددت السلطات في تطبيق سياستها هذه في المدن خاصة.
لكن تعديل سياسة تحديد النسل بات حاجة اجتماعية واقتصادية ملحة بالنسبة إلى الصين؛ ويتوقع خبراء أن تتساهل السلطات أكثر في هذه السياسة مستقبلاً، ويتوقع البعض الآخر أن تضطر السلطات إلى تحفيز الإنجاب حتى.

رغبة الصينيين في إنجاب المزيد من الأطفال باتت ضعيفة
وبحسب تقرير لـ«بي بي سي»، فقد حذّر خبراء من أن الإبقاء على «سياسة الطفل الواحد» من شأنه أن يجعل الاقتصاد الصيني «الأول الذي يشيخ قبل أن يصبح ثرياً»، مع تقلص نسبة العمال الفتيين إلى المتقاعدين. ويتوقع هؤلاء أن يكون أكثر من ربع سكان الصين فوق سن الـ65 عام 2050، لافتين إلى أن معدل الخصوبة في البلاد هو من الأدنى في العالم، أي أدنى بكثير من معدل 2.1 طفل للمرأة، وهو الحد الأدنى اللازم لأن يجدد المجتمع نفسه عددياً عبر الأجيال.
ويأتي تعديل السياسة المذكورة أيضاً ليعالج اختلالاً ديموغرافياً آخر، لا يقل خطورة عن اختلال نسبة الذكور إلى الإناث.
تقول مجلة «نيوزويك»، في عددها الصادر في 28 نيسان من العام الجاري، إن الخلل الجندري في المجتمع الصيني بلغ ذروته عام 2008، حين وصلت نسبة الذكور إلى الإناث إلى 1.22 مقابل 1، على التوالي، لتصبح النسبة العام الحالي 1.16 مقابل1، بالترتيب نفسه. وتنقل المجلة عن مفوضية التخطيط الأسري توقعها أن يزيد عدد الذكور في سن الزواج على عدد الإناث بـ30 مليوناً على الأقل، بحلول عام 2020، مسهبة في وصف التشوهات الاجتماعية الناجمة عن الاختلال في «سوق الزواج». أما سبب ذلك فهو مضاعفة «سياسة الطفل الواحد» للانحياز التقليدي لإنجاب الذكور، حيث زادت كثيراً حالات الإجهاض للأجنة الإناث، كما هجر الأطفال الإناث وإرسالهن إلى دور اليتامى، أو حتى قتلهن في العديد من الحالات.
وتنقل صحيفة «غلوبال تايمز» الصينية عن رئيس مفوضية الصحة الوطنية والتخطيط الأسري في الصين، لي بين، أن السياسة الجديدة ستزيد عديد العمال وتدفع قدماً بالتنمية الاقتصادية المستدامة في البلاد. وبحسب الصحيفة، يتفق الخبراء الصينيون على أن معدل الولادة «الصحي» للبلاد هو 2.2 طفل للمرأة، بينما يحوم المعدل في السنوات الأخيرة حول 1.5 طفل للمرأة. ويقول لي جيانمين، الباحث في شؤون تنمية السكان في جامعة «نانكاي»، إن بقاء معدل الولادات عند هذه الدرجة المنخفضة في العقد أو العقدين المقبلين من شأنه أن يلحق ضرراً كبيراً في بنية المجتمع والاقتصاد. ويقترح لي على الحكومة أن تركز في سياساتها على رفع معدل التوظيف، وعلى تحسين خدمات الصحة والتعليم، وذلك كي تزيل العقبات أمام رغبة الأزواج في إنجاب المزيد من الأطفال.

الخوف من انفجار سكاني غير مبرر

خلافاً للاعتقاد السائد، تشير المعطيات إلى أن رغبة الصينيين في إنجاب المزيد من الأطفال باتت ضعيفة؛ ويتوافق خبراء من جهات مختلفة على أن سياسة التخطيط الأسري الجديدة، التي تسمح للأسرة بإنجاب طفلين، لن تكون كافية لتدارك الاختلال الديمغرافي، كما يرى بعض الخبراء ضرورة لتقديم الحوافز لزيادة معدل الولادات.
كتبت كاري غرايسي، من الـ«بي بي سي»، أن تيسير سياسة تحديد النسل سمح عام 2014 لأكثر من 10 ملايين من الأزواج الصينيين بأن يلدوا طفلاً ثانياً، لتفاجأ السلطات بأن أقل من مليون من هؤلاء تقدموا للحصول على التراخيص اللازمة، فيما توقعت السلطات أن يتقدم أكثر من ضعف هذا العدد. وتقول غرايسي إن الإحجام عن ولادة طفل ثان يبرز خاصة لدى سكان المدن الأكثر ثراءً، كمدينة شانغهاي، حيث قدّرت مفوضية التخطيط الأسري أن تعديل قانون تحديد النسل في عام 2013 أعطى 90% من النساء في سن الولادة الحق بإنجاب طفل ثانٍ، ليتقدم 5% منهن فقط للحصول على ترخيص. في محاولة لتفسير الظاهرة تلك، يقول لي بين لـ«غلوبال تايمز» إن «الوضع (الاجتماعي) شهد تغييرات عميقة، فإنجاب أطفال أقل، وتوفير بيئة أفضل لتنشئتهم، بات الفهم السائد في المجتمع».
وتنقل الصحيفة عن مصادر حكومية ملاحظتها أن رغبة الصينيين في إنجاب المزيد من الأطفال كانت في الواقع «أقل مما تخوف منه البعض». ويذهب البعض أبعد من ذلك، فيقول الخبير في شؤون السكان والباحث السابق في جامعة هارفارد، هوانغ وينجينغ، إن سياسة تحديد النسل الجديدة هي خطوة هامة، لكنها غير كافية البتة لحل الأزمة السكانية. ويقول وينجينغ للصحيفة نفسها إنه «لا يمكن، في المدى القصير، عكس منحى الانخفاض الحاد لمعدل الولادات وتزايد الشيخوخة في المجتمع»، متوقعاً أن تحدث زيادة مؤقتة في معدل الولادات لسنة مقبلة تقريباً، يولد فيها نحو 5 ملايين طفل، لينخفض معدل الولادات بعدها.