باريس | في خطابه الاول في قصر الإليزيه، بعد تسلمه الحكم، حرص الرئيس الفرنسي الجديد فرانسوا هولاند على الظهور بأسلوب وخطاب مغايرين جذرياً لسلفه، الرئيس المنتهية ولايته نيكولا ساركوزي. وقال هولاند في خطاب تسلمه الحكم «أريد أن أوجه رسالة ثقة إلى الفرنسيين، بالرغم من أنني أدرك جيداً ثقل العقبات التي ستعترضني في هذا المنصب وفي مقدمتها المديونية الضخمة». وأضاف «سأحدد الأولويات، لكنني لن أتخذ بنفسي كل القرارات، ولن أتدخل في كل شيء وفي كل مكان». وأراد هولاند بذلك أن يبرز الفرق بينه وبين ساركوزي، الذي كان يلقب بالـ«سوبر رئيس»، لتدخله في كل صغيرة وكبيرة في تفاصيل العمل الحكومي.
وهو ما انتقده هولاند خلال المناظرة الانتخابية، قائلاً لساركوزي: «أنا كرئيس للجمهورية سأحترم المؤسسات، ولن أعتدي على صلاحيات رئيس الحكومة، كما فعلتَ حيث وصفته بأنه أحد معاونيك». وواصل هولاند انتقاد أداء سلفه ساركوزي بقوله «إن السلطة في أعلى هرم الدولة يجب أن تُمارس بما يليق بها من كرامة وبساطة. فالفرنسيون يحتاجون إلى التهدئة والمصالحة وإلى دولة عادلة وغير منحازة لطرف ضد آخر أو فئة ضد أخرى».
وأجمع المراقبون على اعتبار أن البرنامج الذي اختاره هولاند للساعات الأولى الموالية لتسلمه الحكم عكس خيارات تهدف إلى إبراز قطيعة رمزية مع الشطط الساركوزي، للظهور بصورة «رئيس عادي» على حد تعبير هولاند، ومغاير بشكل تام لمفهوم الـ«سوبر رئيس» الذي ارتبط بساركوزي. وتضمن البرنامج الفقرات التقليدية المعمول بها في أعراف الجمهورية الخامسة، ومنها صعود الشانزيليه في سيارة مكشوفة لتحية جموع الفرنسيين، ووضع باقة ورد على ضريح الجندي المجهول، تحت «قوس النصر» في ساحة شارل ديغول، في أعلى الشانزيلييه. ثم التوجه إلى قصر الإليزيه حيث استقبل الرئيس المنتهية ولايته الرئيس الجديد في احتفالية رسمية، تلاها اجتماع على انفراد لتبادل الشيفرة النووية وغيرها مما يوصف بـ«أسرار الدولة». ثم جرت مراسم التنصيب الرسمي للرئيس الجديد من قبل رئيس المجلس الدستوري، جان لوي دوبريه. ثم اختتم المراسم بالخطاب التقليدي الذي يفتتح الولاية الرئاسية.
إلى جانب هذه الفقرات التقليدية التي لا يشذ عنها أي رئيس فرنسي يتسلم الحكم، يقوم كل رئيس جديد باختيار فقرات إضافية في برنامج تسلم الحكم، غالباً ما تكون ذات بعد رمزي يعكس شخصية الرئيس ومساره وأولويات برنامجه السياسي. عام 1981، إثر الفوز التاريخي لليسار، اختار ميتران التوجه إلى «البانتيون» («مقربة العظماء»، التي أُنشئت بعد قيام الثورة الفرنسية، يُنقل إليها رفات الشخصيات المؤثرة في الحياة السياسية والثقافية للبلاد)، ليضع وردة حمراء على قبر شهيد اليسار الفرنسي. أما هولاند فقد اختار خطوة مزدوجة تمثلت في وضع باقة ورد على قبر جول فيري، مؤسِّس المدرسة العلمانية الإجبارية في فرنسا، وأخرى على قبر العالمة ماري كوري.
من خلال تكريم جول فيري، أراد هولاند التشديد على مبدأ العلمانية، وترجمة وعوده بأن يعيد الاعتبار إلى قطاع التعليم العمومي الذي عانى الكثير من الخفوضات في الميزانيات وفي أعداد المدرسين في عهد ساركوزي. أما الخطوة الثانية، فقد كان القصد منها تثمين البحث العلمي، الذي صنع التفوّق الفرنسي في عصر النهضة الصناعية. وكان اختيار ماري كوري موفقاً على الصعيد الرمزي، لأنها إلى جانب تفوقها العلمي كانت رمزاً لتحرر النساء، الذي كان على الدوام في قلب نضالات اليسار. ولا تزال ماري كوري إلى اليوم الشخصية الوحيدة التي نالت جائزة نوبل مرتين (في مجال الفيزياء عام 1903، ثم في الكيمياء عام 1911).
وكان لافتاً أن هولاند حرص حتى في اختياره للرموز اليسارية في برنامج تسلمه الحكم على إبراز صورته كـ«رئيس عادي»، بعيداً عن مظاهر الفخامة التي ألقت بظلالها حتى على مراسم تسلم الحكم من قبل الرئيس اليساري الوحيد الذي سبقه في دخول الإليزيه، أي فرنسوا ميتران. وقد حرصت أقطاب الحزب الاشتراكي على إبراز هذا المعطى والإشادة بأن هولاند يريد أن يكون «رئيساً عادياً لفترة مشوبة بالتحديات الاستثنائية».
وكان شعار «الرئيس العادي» قد برز تلقائياً خلال الحملة الانتخابية، إثر ارتكاز انتقادات على الشطط اتسم به عهد «السوبرـ رئيس» ساركوزي في كتاب عن سيرة هولاند صدر هذا الأسبوع، بعنوان «الرجل الذي لم يكن يريد أن يصبح رئيساً». ونقل الصحافيان أنطوانان أندري وكريم ريسولي عن فرانسوا هولاند قوله إن شعار «الرئيس العادي» لم يتم التخطيط له سلفاً من قبل الخبراء الذين أعدوا شعارات حملته، بل خطر عفويا في ذهن نزيل الإليزيه الجديد، أثناء زيارته الجزائر، في آذار 2008 في بدايات حملة ترشيحه للرئاسة، ولم يكن وقتها يتصور أنه سيصبح شعاره الرئيسي بعد دخول الإليزيه.
ونقل الكاتب عن فرانسوا هولاند قوله: «كنت خارجاً من بيت (الرئيس الجزائري الراحل) أحمد بن بله، في حي باب الواد الشعبي، بالعاصمة الجزائرية، وسألني أحد الصحافيين المرافقين لنا إن لم أكن «طيباً» أكثر من اللزوم لتولي المنصب الرئاسي، فرددت: أنا طيب، نعم. لكنني قوي العزيمة. ولا تناقض في ذلك، فأنا شخص عادي. وأعتقد أنه حان الأوان لتولي «رئيس عادي» الحكم في فرنسا، بعد الشطط الذي رأيناه في عهد الـ«سوبرـ رئيس» ساركوزي»!



إيرو على رأس الحكومة


أعلن الأمين العام الجديد لقصر الإليزيه، بيار ـ رونيه ليماس، أمس، أن الرئيس فرانسوا هولاند قرّر تعيين جان مارك إيرو (الصورة)، رئيس الكتلة البرلمانية للحزب الاشتراكي، رئيساً للحكومة. ويرتقب أن يكشف إيرو عن تشكيلة حكومته ظهر اليوم. وتشير التسريبات الأولية الى أن الأمينة العام للحزب الاشتراكي، مارتين أوبري، التي كانت منافسة إيرو الأبرز على منصب رئاسة الوزراء ستكون «الرجل الثاني» في الحكومة، برتبة وزيرة دولة. لكن لم يُعرف المنصب الذي ستتولاه، حيث تتضارب التقديرات التي تتوقع أن تتولى أوبري وزارة بارزة قد تكون وزارة العمل أو التعليم أو العدل.
ولُم يعرف بعد هل ستتضمن هذه الحكومة الأولى في عهد هولاند شخصيات يسارية من خارج الحزب الاشتراكي، أم هل ستكون حكومة مصغرة تقتصر على الاشتراكيين، على أن تتوسع في وقت لاحق، بعد الانتخابات البرلمانية، التي ستجرى الشهر المقبل، لتخصيص حقائب وزارية لبقية الحلفاء اليساريين، وفي مقدمتهم «جبهة اليسار» و«حزب الخُضر».
وتشير التسريبات الأولية الى أن زعيم تيار يمين الحزب الاشتراكي، مانويل فالس، سيتولى منصب وزير الداخلية، فيما يرجح أن يتولى رئيس الوزراء السابق، لوران فابيوس، منصب وزير الخارجية، ما يعني أن الدبلوماسية الفرنسية ستبقى، حتى بعد رحيل ساركوزي عن الحكم، بيد شخصية معروفة بميولها الصهيونية.